المراد من الحيلة الشرعيَّة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

إذا كان ملاك الحكم هو محبوبيَّة الفعل لمصلحةٍ فيه أو مبغوضيَّته لمفسدةٍ فيه ألا يتنافى ذلك مع بعض الحيل الشرعية التي أجازها بعض الفقهاء، فكون الربا محرَّماً لما فيه من مفاسد ألا تتنافى حليَّته مع ضمائم (على سبيل المثال لا الحصر) مع نفس المفسدة، وكذلك في موارد الاضطرار؟

الجواب:

الأحكام تابعةٌ لموضوعاتها وجوداً وعدماً، فإذا كان ما يُسمَّى بالحيلة الشرعية مقتضياً لتبدُّل الموضوع فإنَّ تبدُّل الحكم بعد تبدُّل موضوعه لا يُنافي جعله أولاً وانتفاءه ثانياً، فهو حينما كان مجعولاً كان موضوعه مختلفاً بحسب الفرض عن الحال التي أصبح فيها مرتفعاً، فثبوت الحكم أولاً وارتفاعه ثانياً تمً على أساس وجود موضوعه أولاً وارتفاعه ثانياً. فأين هو التنافي؟!

فحينما يُخاطَب المكلَّف الحاضر بوجوب صوم شهر رمضان ثم يرتفع عنه الأمر بوجوب صوم شهر رمضان حال السفر لا يكون ارتفاع الأمر بالوجوب في الفرض الثاني منافياً لثبوت الأمر في الفرض الأول، فموضوع الأمر بالصوم هو المكلَّف الحاضر، فحين يتبدَّل الموضوع ويُصبح الحاضر مسافراً فإنَّ الأمر بوجوب الصوم يرتفع بارتفاع موضوعه. ولهذا لو سافر المكلَّف بعد مخاطبته بوجوب الصوم بقصد الفرار من الصوم يكون بذلك قد احتال بحيلةٍ شرعية للفرار من الصوم ولا يكون بذلك عاصياً لأنَّه لم يتناول المفطر في ظرف مخاطبته بالصوم وإنَّما تناوله بعد ارتفاع الأمر بالصوم بارتفاع موضوعه، فما فعله المكلَّف هو إعدام موضوع التكليف وبذلك سقط التكليف عن عهدته. وهذا هو المراد من الحيلة الشرعية المباحة، وهي غير منافية لملاك الأمر لأنَّ الملاك الكامن في متعلَّق الأمر يدور مدار وجود الموضوع، فالمصلحة والمحبوبيَّة الكامنتين في متعلَّق الأمر لا يكون لهما وجود عند انعدام موضوع الأمر، فليس ثمة مصلحة ولا محبوبيَّة للصوم في ظرف السفر. فصيرورة المكلَّف مسافراً لا يقتضي انتفاء موضوع الأمر بالصوم وحسب بل يقتضي انتفاء ملاك الأمر بالصوم أيضاً.

وهكذا هو الشأن في النهي مثلاً عن الربا في المعاملة، فإنَّ موضوع الحرمة هو التفاضل في المعاملة مع اتَّحاد الجنس في المكيل أو الموزون كبيع كيلو من الحنطة بثلاثة كيلو من الحنطة، فهذا هو موضوع الحرمة، فلو كان المبيع هو كيلو من الحنطة مضافاً إلى خمس بيضات مثلاً وكان الثمن ثلاثة كيلو من الحنطة وثلاث بيضات فإنَّ البيع لا يكون محرَّماً، وذلك لأنَّ هذا الفرض ليس من الربا في المعاملة، إذ انَّ المعاملة لم تقع على المكيل محضاً وإنَّما وقعت على المكيل والمعدود في صفقةٍ واحدة لذلك لا يكون الحكم بحلِّيَّة المعاملة وصحتها منافيا للحكم بحرمة المعاملة وفسادها في الفرض الأول.

وأما دعوى منافاة ذلك لملاك الحرمة فجوابه انَّ الملاك لا يتجاوز موضوع الحرمة، فالمفسدة الكامنة في متعلَّق النهي لا تتجاوز موضوع النهي، ولو كان الملاك ثابتاً لما هو أوسع من الموضوع لكان على المشرِّع توسيع دائرة الموضوع ليكون مستوعباً لحدود الملاك، فتحديد المشرِّع لدائرة الموضوع بحدٍّ يكشف عن أنَّ الملاك لا يتجاوز حدود ذلك الموضوع وإلا لكان المشرِّع ناقضاً لغرضه ومفوِّتاً على المكلَّف ملاك الحكم.

وبتعبيرٍ آخر: إنَّ ملاك الحكم وحدوده إنَّما يتمُّ التعرُّف عليه بواسطة المشرِّع نفسه، فإذا كان قد حدَّد موضوع الحكم بحدٍّ خاص فذلك يكشف عن انَّ ملاك الحكم الكامن في متعلَّقه محدودٌ بحدود موضوعه، ولا سبيل إلى استنباط الملاك غالباً من غير ذلك. ومجرَّد الظن بكون الملاك أوسع دائرةً من الموضوع المنصوص ممَّا لا يصحُّ التعويل عليه لأنَّه من القياس الذي نهى أهل البيت (ع) عن التوسُّل به في مقام التعرُّف على أحكام الله تعالى.

نعم لو اتَّفق القطع بسعة دائرة الملاك على دائرة الموضوع المنصوص فإنَّ مقتضى ذلك هو أنَّ حدود موضوع الحكم ليس هو حدود الموضوع المنصوص بل إنَّ حدود موضوع الحكم هو ما تقتضيه حدود دائرة الملاك، وعليه فالحكم يدور مدار دائرة حدود الموضوع الواسعة المُستكشَفة من سعة حدود دائرة الملاك إلا أنَّ استكشاف حدود الملاك من غير النصِّ لا يكاد يتَّفق إلا في مواردَ محدودة. نعم يتَّفق الظنُّ بذلك كثيراً إلا أنَّه لا يُغني من الحقِّ شيئا.

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّه إذا كانت الحيلة الشرعية بمعنى رفع الحكم برفع موضوعه فذلك ممَّا لا محذور فيه، ولا يكون الحكم الآخر الذي ترتَّب عن رفع الموضوع منافياً للحكم الأول بعد افتراض أنَّ الحكم الأول إنَّما كان ثابتاً لموضوعٍ قد تمَّ ارتفاعه وأنَّ الحكم الآخر إنَّما ثبت لموضوعٍ مختلفٍ عن موضوع الحكم الأول. وهذا هو معنى ما ورد في الصحيح عن أبي عبد الله (ع): "نِعمَ الشيءُ الفرار من الحرام إلى الحلال"(1).

نعم لو كانت الحيلة غير مقتضية لتبدُّل الموضوع وإنَّما هي مقتضية للتبدُّل الصوري للموضوع فهذه لا تقتضي تبدُّل الحكم، ومثال ذلك ما لو وهب المكلَّف ما ربحَه من مكاسب هذا العام لزوجته ثم رجع في هبته بعد حلول رأس سنته الخمسيَّة وكان قاصداً من أوَّل الأمر النقل الصوري للربح فراراً من الخمس فلم تكن هبته لزوجته جدِّية، ففي مثل هذا الفرض لا يسقط التكليف بالخمس عن عهدته لأنَّ المال لم يخرج عن ملكه واقعاً، فموضوع الحكم بوجوب الخمس لم يطرأ عليه تغييرٌ يقتضي ارتفاع الحكم.

وهكذا لو أنَّ أحداً شرب ما يُفضي إلى الإغماء المستوعب لتمام وقت الصلاة فاتَّفق له الإغماء المستوعِب فإنَّ وجوب الصلاة لا يسقط في مثل هذا الفرض لو كنَّا قد استظهرنا من أدلة وجوب الصلاة أنَّ ملاك وجوب الصلاة لا يرتفع بالإغماء الناشئ عن سوء الاختيار، فإنَّ هذا الاستظهار يقتضي أنَّ موضوع وجوب الصلاة ليس هو عدم الإغماء مطلقاً وإنَّما هو عدم الإغماء الخارج عن الاختيار، فالإغماء الناشئ عن الاختيار لا يرفع موضوع وجوب الصلاة. لذلك فالتوسُّل لإسقاط وجوب الصلاة بتعمُّد الوقوع في حالة الإغماء لا يُنتج سقوط الأمر بالقضاء.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- الكافي (مُشَكَّل) -الشيخ الكليني- ج5 / ص247.