المعالجة الثانية لشبهة التحليل

هذه هي المعالجة الأولى لروايات التحليل المطلق، فإذا لم تقبلوا بها فثمة معالجة أخرى، وحاصلها أن روايات التحليل المطلق منافية ومعارِضة بنحو التعارض المستقر والمستحكم لروايات وجوب إخراج الخمس، وفي مثل هذا الفرض يكون المرجع هو مرجِّحات باب التعارض; لأنّه لا يصح العمل بهما معاً نظراً لكونهما متكاذبتين فواحدة توجب إخراج الخمس والأخرى تنفيه، فإحداهما غير مطابقة للواقع قطعاً، ومرجِّحات باب التعارض هي الكتاب والسنة القطعية كما دلَّت على ذلك النصوص الكثيرة الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) كصحيحة الراوندي.

بمعنى أنّه إذا تعارضت روايتان أو طائفتان من الروايات وكان التعارض بينهما مستحكماً كان المرجع هو القرآن الكريم، فما وافق كتاب الله عز وجل من الطائفتين يكون هو المرجَّح وهو الذي عليه العمل، وما خالف أو لم يوافق كتاب الله تعالى يسقط عن الحجيَّة، فإن لم يكن في كتاب الله تعالى شيء من ذلك فالمرجع هو السنة القطعية فما وافقها كان هو المرجَّح وما خالفها يكون ساقطاً عن الحجيَّة.

ولمَّا كان الأمر كذلك كان المرجَّح من الطائفتين هو روايات وجوب إخراج الخمس، لأنّها الموافقة لكتاب الله تعالى وهي قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْء فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ ..﴾ وبذلك تسقط روايات التحليل المطلق عن الحجيَّة.

منافاة روايات التحليل لسيرة الأئمّة (عليهم السلام).

هذا ويمكن أن نؤكد الترجيح لروايات وجوب إخراج الخمس بمجموعة مِن القرائن:

القرينة الأولى: إنّ روايات التحليل منافية للسيرة القطعية لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) حيث كانت تصل إليهم الأخماس من شتى أقطار الحواضر الإسلامية من قم وخراسان والأهواز والعراق وغيرها من الحواضر التي كان يقطنها الشيعة، وكان لأهل البيت (عليهم السلام) وكلاء يقبضون عنهم الأخماس، واستمرَّت هذه السيرة إلى زمن الغيبة الصغرى حيث عيَّن الإمام الحجة (عليه السلام) سفراءَ له، وهم: عثمان بن سعيد العمري وبعده محمد بن عثمان بن سعيد العمري وبعده الحسين بن روح النوبختي وبعده علي بن محمد السمري، الذي بموته انتهى زمن الغيبة الصغرى، وقد كان لهؤلاء السفراء وكلاء يقبضون عنهم الأخماس فيوصلونها إليهم أو يصرفونها في مصارفها بإذن الإمام الحجَّة (عليه السلام)، هذا وقد تصدَّت كتب الرجال وكتب الأخبار لبيان أسماء الكثير من وكلاء الأئمة (عليهم السلام).

ونحن هنا سنذكر بعض أسماء وكلاء الأئمة (عليهم السلام) ثمّ نذكر بعض الروايات المعبِّرة عما عليه سيرة أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم فيما يتصل بشأن إخراج الخمس.

أمَّا أسماء الوكلاء فمنهم:

1- نصر بن قابوس اللخمي، روى الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة أنه كان وكيلاً للإمام الصادق (عليه السلام) عشرين سنة وكان خيِّراً فاضلاً(1).

2- عبد الرحمن بن الحجَّاج، روى الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة أنه كان وكيلاً للإمام الصادق (عليه السلام) ومات في عصر الرضا (عليه السلام)(2).

3- المفضَّل بن عمر، رُوي عن هشام بن أحمر ما يظهر منه أنّه كان وكيلاً لأبي إبراهيم الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ورُوي عن موسى بن أبي بكر ما هو صريح في ذلك(3).

4- عبد الله بن جندب البجلي، كان وكيلاً لأبي إبراهيم الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ثمّ أصبح وكيلاً للإمام الرضا (عليه السلام)، قال الشيخ الطوسي كان عابداً رفيع المنزلة لديهما على ما رُوي في الأخبار(4).

5- علي بن مهزيار الأهوازي، ذكره الشيخ الطوسي في ضمن الوكلاء وكان وكيلاً عن الإمام أبي جعفر الثاني الإمام الجواد (عليه السلام)(5).

6- علي بن جعفر الهمَّاني وكان فاضلاً مرضياً من وكلاء أبي الحسن الكاظم وأبي محمد الرضا (عليهما السلام)، أفاد ذلك الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة(6).

7- أبو علي الحسن بن راشد، روى الشيخ الطوسي بسنده إلى محمد بن عيسى قال: كتب أبو الحسن العسكري (عليه السلام) إلى الموالي ببغداد والمدائن والسواد وما يليها "قد أقمت أبا علي بن راشد مقام علي بن الحسين بن عبد ربه ومن قبله من وكلائي .."(7).

8- أيوب بن نوح بن درَّاج، ذكره الشيخ الطوسي في ضمن الوكلاء، فكان وكيلاً للإمام العسكري (عليه السلام)(8).

9- عبد العزيز بن المهتدي القمي الأشعري، ذكره الشيخ الطوسي في ضمن الوكلاء وكان وكيلاً عن أبي جعفر (عليه السلام)(9).

10- صالح بن محمد بن سهل الهمداني، ذكره الشيخ الطوسي ضمن وكلاء الإمام أبي جعفر (عليه السلام)(10).

11- علي بن أبي حمزة البطائني وزياد بن مروان القندي وعثمان بن عيسى الرواسي قال الشيخ الطوسي: كلّهم كانوا وكلاء لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام)(11).

هذه أسماء بعض مَن ذكرهم الشيخ الطوسي رحمه الله تعالى في كتاب الغيبة، وقد أفاد فيما أفاد أنه ترك استقصاءهم لأنَّهم معروفون مذكورون في الكتب.

هذا وقد ذكر بعض أسماء من انحرف من وكلاء الأئمة (عليهم السلام)(12).

وأما ما يتّصل بنقل الأخبار المعبِّرة عن سيرة الأئمة (عليهم السلام) وشيعتهم فيما يرتبط بأداء الخمس فسنذكر بعض هذه الأخبار، وعلى مَن أراد الاستزادة الرجوع إلى كتب الأخبار والمجاميع الروائيّة:

الرواية الأولى: رواها الشيخ الطوسي في الغيبة حينما كان بصدد الحديث عن السفير الأول للإمام الحجّة (عليه السلام) وهو أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري، وقد كان وكيلاً قبل ذلك للإمام علي الهادي (عليه السلام) ثمّ للإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قال: روى أبو نصر هبة الله بن محمد بن بنت أبي جعفر العمري: كان أسدياً يعني عثمان بن سعيد إلى أنْ قال: "ويقال له السمَّان، لأنّه كان يتَّجر في السمن تغطيةً على الأمر، وكان الشيعة إذا حملوا إلى أبي محمّد (عليه السلام) ما يجب عليهم حملُه من الأموال أنفذوه إلى أبي عمرو فيجعله في جراب السمن وزقاقه ويحمله إلى أبي محمد العسكري (عليه السلام) تقيةً وخوفاً"(13).

الرواية الثانية: عن الشيخ الطوسي عن أحمد بن علي بن نوح أبي العبّاس السيرافي بسنده إلى محمد بن إسماعيل وعلي بن عبد الله الحسينيان قالا: دخلنا على أبي محمد الحسن (عليه السلام) بسرَّ مَن رأى وبين يديه جماعة من أوليائه وشيعته حتى دخل عليه بدر خادمه فقال: يا مولاي بالباب قوم شُعث غُبر فقال (عليه السلام) لهم: (هؤلاء نفر من شيعتنا باليمن ..) إلى أنْ قال الحسن (عليه السلام) لبدر فامض فائتنا بعثمان بن سعيد العمري، فما لبثنا إلا يسيراً حتى دخل عثمان، فقال له سيدنا أبو محمد (عليه السلام): "امضِ يا عثمان فإنَّك الوكيل والثقة المأمون على مال الله، واقبض من هؤلاء النفر اليمنيين ما حملوه من المال".

ثمَّ ساق الحديث إلى أنْ قالا: ثمّ قلنا بأجمعنا يا سيّدنا والله إنَّ عثمان لمن خيار شيعتك، ولقد زدتنا علماً بموضعه من خدمتك وأنَّه وكيلك وثقتك على مال الله تعالى، قال: "نعم اشهدوا على أنَّ عثمان بن سعيد العمري وكيلي وأنَّ ابنه محمداً وكيل ابني مهديِّكم"(14).

الرواية الثالثة: عن الشيخ الطوسي في التهذيب بسنده إلى علي بن مهزيار قال: "قال لي أبو علي بن راشد، قلت له: أمرتني بالقيام بأمرك وأخذ حقك فأعلمت مواليك بذلك فقال لي بعضهم: وأىُّ شي حقّه؟ فلم أدر ما أجيبه؟ فقال يجب عليهم الخمس، فقلت: ففي أىِّ شي؟ فقال: في أمتعتهم وصنائعهم، قلت فالتاجر عليه والصانع بيده؟ فقال له: إذا أمكنهم بعد مؤنتهم"(15).

الرواية الرابعة: عن الشيخ في التهذيب بإسناده عن الريان بن الصلت قال: كتبت إلى أبي محمّد (عليه السلام): "ما الذي يجب علىَّ يا مولاي في غلة رحى أرض في قطيعة لي، وفي ثمن سمك بردي وقصب أبيعه من أجمة هذه القطيعة؟ فكتب يجب عليك فيه الخمس إن شاء الله تعالى"(16).

الرواية الخامسة: عن سعيد بن هبة الله الراوندي في الخرائج والجرائح عن أبي الحسن المسترق عن الحسن بن عبد الله بن حمدان ناصر الدولة عن عمِّه الحسين في حديث عن صاحب الزمان (عليه السلام) أنّه رآه وتحته (عليه السلام) بغلة شهباء وهو متعمم بعمامة خضراء يُرى منها سواد عينيه وفي رجليه خُفَّان حمراوان فقال: "يا حسين كم ترزأ على الناحية؟ ولِمَ تمنع أصحابي عن خمس مالك؟ ثمّ قال: إذا مضيت إلى الموضع الذي تريده تدخله عفواً وكسبت ما كسبت تحمل خمسه إلى مستحقّه، قال: فقلت السمع والطاعة، ثمّ ذكر في آخره أنّ العمري أتاه وأخذ خمس ماله بعد ما أخبره بما كان"(17).

هذه بعض الروايات المعبِّرة عن السيرة التي كان عليها الأئمة (عليهم السلام) وشيعتهم والتي كانت مستقرَّة على التباني بينهم على لزوم إيصال الخمس إلى الإمام مباشرة أو بواسطة الوكلاء.

فالرواية الأولى: اشتملت على التعبير بـ "كان الشيعة إذا حملوا إلى أبي محمّد -أي العسكري- ما يجب عليهم حمله من الأموال"، وهو تعبير صريح بأن تلك هي السيرة التي كان الشيعة ملتزمين بها، وهو التزام منشؤه الوجوب كما هو مقتضى التعبير "بما يجب عليهم حمله".

وأمَّا الرواية الثانية: فهي تحكي عن تجشُّم بعض الشيعة لعناء السفر لا لشي إلا لإيصال أموال الله عز وجل إلى الإمام (عليه السلام)، فالتعبير بأموال الله متعيِّن في الخمس، إذ لا يقال للأموال الشخصيَّة أنَّها أموال الله تعالى كما لا يُطلق على الزكوات ذلك، على أنَّ الزكوات كانت تُجبى آنذاك من قبل السلطان، لذلك كان الثابت مِن فقه أهل البيت (عليهم السلام) عدم لزوم إخراجها مرّة إخرى وأنَّ ما يأخذه السلطان من الزكوات ومن أموال الخراج والمقاسمة يوجب سقوط التكليف بإخراج الزكاة والخراج عن المكلفين لذلك يتعين المراد من قوله مال الله في الخمس وهو المناسب لقوله تعالى (فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ).

هذا وفي الرواية ما يعبِّر عن أنَّ إناطة الأئمة (عليهم السلام) قبض الخمس بالوكلاء كان أمراً مألوفاً.

وأمَّا الرواية الثالثة: فهي صريحة في لزوم إيصال الخمس للإمام (عليه السلام) كما هو مقتضى التعبير بأخذ الحق والتعبير بـ "يجب عليهم الخمس" ومقتضى تعيين الوكيل وأمره بالقيام بأخذ الحق.

وأما الرواية الرابعة: فهي تعبِّر عن المفروغية عن لزوم إيصال الخمس للإمام (عليه السلام)، والسؤال إنَّما كان عن وجوب الخمس في المورد المسئول عنه أو عدم وجوبه، وأفاد الإمام (عليه السلام) أنَّه مِن موارد وجوب الخمس.

وأمَّا الرواية الخامسة: فهي تعبِّر عن تصدِّي الوكيل لقبض الخمس من المكلفين كما أنها اشتملت على ما يعبِّر عن معرفة الشيعة بلزوم إيصال الخمس للإمام بواسطة الوكلاء لذلك ساغ التوبيخ من الإمام (عليه السلام) "لحسين" ولم يعتذر حينذاك عن منع إيصال الخمس للوكلاء بالجهل.

وثمَّة روايات أخرى كثيرة يقف عليها المراجع، ولولا خشية الإطالة لنقلنا لك ما شاء الله تعالى منها.

مقتبس من كتاب "الخمس فريضة إلهية - شبهات وردود"

لسماحة الشيخ محمد صنقور


1- كتاب الغيبة -للشيخ الطوسي- ص 348.

2- كتاب الغيبة -للشيخ الطوسي- ص 348.

3- كتاب الغيبة -للشيخ الطوسي- ص 346-348.

4- كتاب الغيبة -للشيخ الطوسي- ص 348.

5- كتاب الغيبة -للشيخ الطوسي- ص 349.

6- كتاب الغيبة -للشيخ الطوسي- ص 350.

7- كتاب الغيبة -للشيخ الطوسي- ص 350.

8- كتاب الغيبة -للشيخ الطوسي- ص 349.

9- كتاب الغيبة -للشيخ الطوسي- ص 349.

10- كتاب الغيبة -للشيخ الطوسي- ص 351.

11- كتاب الغيبة -للشيخ الطوسي- ص 352.

12- كتاب الغيبة -للشيخ الطوسي- ص 351.

13- كتاب الغيبة -للشيخ الطوسي- ص 354.

14- كتاب الغيبة -للشيخ الطوسي- ص 355 - 356، إثبات الهداة 3/11 ح336، منتخب الأثر 393.

15- وسائل الشيعة باب 8 مِن أبواب ما يجب فيه الخمس ح3.

16- وسائل الشيعة باب 8 مِن أبواب ما يجب فيه الخمس ح9.

17- وسائل الشيعة باب 3 مِن أبواب الأنفال ح9.