شرح دعاء مكارم الأخلاق (3)

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين وخاتم النبيين حبيب اله العالمين أبي القاسم محمد وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا

 

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم وأكرمنا بنور الفهم وافتح علينا أبواب رحمتك وانشر علينا خزائن علومك.

 

"اللهم صلِّ على محمدٍ وآله، وبلِّغ بإيماني أكمل الإيمان واجعل يقيني أفضل اليقين، وأنتهِ بنيتي إلى أحسن النيَّات وبعملي إلى أحسن الأعمال، اللهم وفِّر بلطفك نيَّتي، وصحِّح بما عندك يقيني"(1).

 

كنا قد تحدثنا في الجلسة السابقة حول الفقرة الثانية من فقرات دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين عليه أفضل الصلاة والسلام، ونتحدث -إن شاء الله- في هذه الجلسة عن الفقرة الثالثة، وهي قوله (ع): "وأنتهِ بنيَّتي إلى أحسن النيَّات".

 

الفقرة الثالثة: "وانتهِ بنيَّتي إلى أحسن النيَّات"

الحديث حول هذه الفقرة من الدعاء الشريف سيكون في محورين: الأول: حول المعنى المراد من النية، وكيفية تصحيح النية، والثاني: حول المراد من "أحسن النيَّات".

 

المحور الأول: المراد من النية، وكيفية تصحيحها:

أولاً: معنى النية:

النيَّة من الأمور الجوانحيّة، النفسانية، ولا صلة لها بالجوارح والعمل. نعم، ينشأ العمل عن النية، فليس ثمَّة من عمل يصدر من عاقل -حال كونه ملتفتاً- إلا عن نية.

 

فالنية: هي القصد إلى الفعل. هذا هو المراد من النية .. فإذا قصد الإنسان الفعل، تولَّدت عنده إرادة إلى القيام بذلك الفعل، فإن لم يمنعه مانع من مزاولة ذلك العمل الذي قصده، أتى به بمقتضى النية التي نواها. إذن، نحن لا نتحدث عن لزوم تحصيل النية؛ لأنها حاصلة من الفاعل العاقل الملتفت على أيِّ حال.

 

فرق بين النائم وبين المستيقظ، وبين الغافل والملتفت، وبين العاقل وغير العاقل. فالملتفت العاقل إذا ما قام بعملٍ، فذلك ناشئ حتماً عن عزمٍ وقصد لذلك العمل، ولهذا تصحُّ محاسبته على ما فعل؛ لأنه صدر عنه حال كونه عاقلاً ملتفتاً.

 

وفرق بينه وبين غير العاقل، كالعجماوات، والحيوانات، أو المجانين، أو غير الشاعر كالنائم، أو الغافل، فهؤلاء تصدر منهم الأفعال ولكن من غير قصد نظراً لكونهم فاقدين للإدراك، فقد يضربك النائم، وقد تراه يشرب الماء، وقد يأكل، وقد يمشي، ولكن عن غير وعي. لذلك هو غير قاصدٍ للفعل الذي يصدر عنه؛ لأنه غير شاعرٍ بما يفعل، فلا يُحاسب على فعله. وفرق بين العاقل وغير العاقل -كالحيوانات-، فغير العاقل يصدر منه الفعل، فقد يبطش، وقد يمشي، أو يأكل، أو يشرب، إلا أنه لا يعقل، فالأفعال تصدر عنه نتيجةَ غريزةٍ اقتضت صدور هذه الأفعال منه، لذلك فهو لا يُحاسب أيضاً. إذن، فالذي يُحاسَب على فعله هو الذي يتمكن من إدراك وقصد الفعل، والعزم عليه.

 

كيفية تصحيح النية:

قلنا أننا لا نريد أن نتحدث عن كيفية تحصيل النية؛ لأن ذلك من تحصيل الحاصل؛ حيث أنه ليس من عاقلٍ، ملتفت، شاعر، يقوم بفعلٍ إلَّا وهو قاصد له. إنما الكلام عن تصحيح النية وكيف تكون هذه النية سليمة، وفي المسار الصحيح:

 

- أن نقصد الخير:

هناك نيةٌ يمكن وصفها بالسوء، وهناك نيةُ خير، والذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن هو أن تكون نيَّته دائما نيَّةَ خير. الإمام السجاد (ع) يدعو الله عز وجل -في هذه الفقرة من الدعاء- أن يجعل نيَّته نيَّة خير في كلِّ شيء.

 

هناك من يقوم بالفعل، ويقصد منه الكيد، أو يقصد منه الإساءة، أو الظلم، والبغي .. وهناك من يفعل الفعل، يقصد منه الإحسان، ويقصد منه قضاء حوائج الناس، هذه نيةُ خير. فالإمام (ع) يريد أن يحثُّنا من خلال هذه الفقرة من الدعاء على أن تكون نيَّاتنا دائماً في إتجاه الخير، فالمؤمن لا يقصد الشرور، ولا الإيذاء للناس، ولا يقصد الظلم، والكيد، والبغي على أحد، هذا أولاً.

 

- أن تقصد وجه الله تعالى:

وثانياً هو أنَّ الإنسان قد يقوم بالفعل الجميل، فقد يقضي حاجةً لمؤمن، وقد يصلِّي، وقد يصوم، وقد يُجاهد في سبيل الله، ويُنفق الصدقات على الفقراء، ويُشيِّد بيوت الله، وبيوت المؤمنين، وينصح، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويفعل الكثير من الخيرات -هذا أحسنُ حالاً من ذلك الصنف الذي يقصد الشرور، ويفعل الشرور-، ولكنَّ هذا الإنسان الذي يفعل الخيرات قد لا يتحصَّل على ثواب هذه الخيرات، ولا يجد لها أثراً في الآخرة، فيكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾(2)، فيأتي ليجد صحيفته خالية بيضاء، ليس فيها أنه قضى حاجةً لمؤمن، أو أنه صلَّى لله، أو أنه صام، أو حجَّ، أو أمر بالمعروف، أوجاهد! فيقول: يا ربي، كنتُ قد فعلتُ وفعلتُ، فهل غفِلتْ الحفظةُ من الملائكة أن تكتب في صحيفتي هذه الأعمال الحسنة؟! فيُقال له: لا، لم تغفل، ولم تنس الحفظة، والملائكة التي تراقب أعمالك لا تغفل ولا تنسى، بل يكتبون كلَّ ما تفعل. ولكننا محوناها؛ لأنها لم تصدر عن نيَّة خير؛ فأنت إنما جاهدتَ ليُقال عنك شجاع، وأمرتَ بالمعروف ليقال عنك جريء، وتصدَّقت ليُقال أنك كريم سخي، وصلَّيت ليقال عنك أنك من المؤمنين، المقيمين للصلاة، المؤتين للزكاة. فعلت كلَّ ذلك للناس، فإذا أردتَ ثواباً فالتمسه مِمَّن فعلتَ لهم، "إنما الأعمال بالنيات، ولكلِّ امرأ ما نوى"(3).

 

قصة شهيد الحمار!

في السيرة النبوية يذكر المؤرخون أنَّ رجلاً من الصحابة أبلى بلاءا حسناً في الحرب، وجاهد وقاتل وقَتَل ثم قُتِل، ولما انتهت الحرب قيل: رحم الله فلان، فلقد أبلى بلاءاً حسناً، جاهد الكفار وناضلهم حتى ذهب شهيداً .. يذكر المؤرخون أنَّ رسول الله (ص) علَّق على قولهم، قال: نعم، هو شهيد، ولكنه شهيدُ الحمار!

 

هذا يصلح أن يُسمى بشهيد الحمار! لماذا؟ لأنه قصد من جهاده أن يدفع الكفار حتى لا يُسلب منه حماره، فقُتل في هذا السبيل، فهو شهيد الحمار. هما اثنان، قُتلا في معركةٍ واحدة، في صفٍ واحد، وسقطا على صعيدٍ واحد، ولعلَّ جراحاتِ هذا أكثر من جراحات الآخر، ولعلَّ من قَتَلهم من الكفار أكثر ممنَّ قتلهم الآخر.. إلَّا أنَّ هذا تستقبله الحور العين، وتُفتح له أبواب الجنات، ويُقال له ادخل من أيِّ بابٍ شئت. وأما الآخر فتُفتح له أبواب جهنم! هذه هي آثار النيات.

 

فعندما نبحث عن كيفية تصحيح النية يجب علينا أن نُدرك أن الذي يطلبه الله عز وجل من عمل الخير هو قصد الخير، وقصد القربة و الزلفى إلى الله من ذلك الفعل، وإلَّا ذهب الفعل هباءاً.

 

النيَّة قد تقوم مقام العمل!

ونزيد على ذلك لنقول: إنَّ المؤمن قد ينوي الخير ولا يفعله؛ لحائلٍ يحول دون أن يفعل الخير. فيتحصَّل على ثواب ذلك الخير، وعلى ثواب ذلك العمل، رغم أنَّه لم يعمله! فرغم أنه لم يفعل ذلك الخير، إلا أنه يتحصَّل على ثوابه.

 

لاحظوا الفرق: الأول كان قد عمل الخير، فحُرم ثوابه؛ لأنه لم يقصد الخير .. والثاني لم يفعل الخير، لكنه حصل على ثوابه.

 

الشاهد الأول:

كلكم قد سمع قول جابر بن عبد الله الأنصاري، عندما وقف على قبر سيد الشهداء (ع)، وقال: "أشهد أننا قد شاركناكم. فقال له صاحبه: كيف شاركتهم، ولم تصعد تلَّة، ولم تضرب بسيف، ولم تطعن برمح، وهؤلاء قومٌ برزوا لمضاجعهم، وفُرِّقت رؤوسُهم عن أجسادهم، كيف تكون معهم؟! قال: لما سمعته عن رسول الله (ص): من أحبَّ عمل قومٍ كان شريكاً لهم، ومن أحبَّ عمل قوم حُشر معهم"(4).

 

إذن، فنيةُ الخير تُنتج أن يتحصَّل الإنسان على ثواب ذلك العمل، ولذلك ورد في روايات كثيرة أنَّ الرجل ينوي أن يُصلِّي لله ليلا، فتغلبه عيناه، فيُكتب عند الله أنه صلَّى!

 

الشاهد الثاني:

في غزوة تبوك، وبعد أن عبَّأ رسول الله (ص) المسلمين لمواجهة الرومان -في معركة عُبِّر عنها بمعركة العسرة-، حشَّد رسول الله ثلاثين ألف رجل، فجاء بعضهم إلى رسول الله (ص)، وكانوا من الضعفاء، فقالوا: "يا رسول الله، ليس عندنا ما نسافر به معك، فاحملنا" -أي أعطنا فرسا، أو جملا؛ لكي نرحل معك لمواجهة الكفار-، فقال (ص): "لا أجد ما أحملكم عليه"، -هم ينوون الخير، ولكنهم لا يستطيعون- ﴿تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ﴾(5)، ليس عندهم ما يُنفقون، وليس عندهم ما يركبون. يقول الإمام (ع): "التمسوا من رسول الله نعلا؛ حتى يمشوا معه!" هؤلاء يقول عنهم الرسول الكريم (ص): "هم معنا"، فيقال له: "يا رسول الله، كيف يكونون معنا، وكيف يُثابون بما أُثبنا، ولم يقطعوا وادياً؟! فقال (ص): "كانوا معنا بنيَّاتهم، لذلك فلهم ما لنا من ثواب".

 

وآخرون كانوا مع رسول الله (ص)، إلا أنَّ القرآن وصفهم بالنفاق، ووصف أعمالهم بالهباء المنثور، رغم أنهم كانوا مع رسول الله! فمدار الثواب والعقاب بالنية. ورد في الحديث الشريف: "إنَّ المؤمن لتَرِدُ عليه الحاجة لأخيه المؤمن، فلا تكون عنده، فيهتمَّ قلبُه، فيُدخله الله -تبارك وتعالى- بهمِّه الجنة"، لأنه قد أصابه وانتابه الهمّ؛ نظراً لعدم قدرته على قضاء حاجة أخيه، فيمنحه الله الجنة بسبب ذلك الهمّ، والنية الصادقة الخيِّرة.

 

خلاصة

والمتحصل مما ذكرناه في مقام الحديث عن تصحيح النية:

أولاً: هو أنَّ المؤمن لا ينوي الشر وإن غضب أو ابتُزَّ، وأُسيء إليه. فالمؤمن قد يستاء ويتأذّى من ذلك، إلا أنه لا ينوي الشّر، ولا ينوي الكيد، هذه مرتبة.

 

ثانياً: أن المؤمن ليس من شأنه أنْ لا ينوي الشرَّ فحسب، بل هو ينوي الخير دائماً، فينوي أن يُصلي -وقد يُحرم من أن يُصلي-، وينوي أن يقضي حاجةً لمؤمن -وقد يُحرم منها-، وينوي أن يفعل الصالحات، فيقوم ببعضها، ويتعذَّر عليه القيام بالأخرى .. فيأتي يوم القيامة وله ثواب كلِّ ما نوى. هذه مرتبة عالية، وهي سرُّ النجاح -كما أفاد أمير المؤمنين (ع)-، يقول عليه أفضل الصلاة والسلام: "عوَّد نفسك حُسن النيَّة، وجميل المقصد، تُدرك في مباغيك النجاح"(6)، كن حريصاً دائماً على قصد الخير، وعندئذ ستجد النجاح، إن لم يكن نجاحاً في الدنيا، ففي الآخرة.

 

المحور الثاني: المراد من "أحسن النيَّات"

بعد ذلك نود أن نتحدث عن مفاد قوله (ع): "أحسن النيَّات".

 

قصد الخير نيَّةٌ حسنة، ولكن ثمَّة نيَّةٌ أحسن منها .. فما هي النيَّة الأحسن؟!

 

الإخلاص هو أحسن النيَّات

المستفاد من الروايات الشريفات، ومن الآيات المباركات، أنَّ أحسن النيَّات هي الإخلاص لله -عز اسمه وتقدس-. قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾(7).

 

قد يقصد الإنسان الخير، ولكنه لا يقصد التقرُّب به إلى الله، أو يغفل عن قصد القربة لله .. فهذه النية ليست من أحسن النيَّات، وقد يقصد الخير تحبُّباً إلى الله، لأن الله يُحبُّ هذا العمل، ولأن الله أمر بهذا العمل فهو يُقدِم عليه، ويُمارسه من هذا المنطلق .. هذه هي أحسن النيَّات.

 

الإخلاص لله هو أحسن النيَّات، والإخلاص ليس في العبادة فحسب -وإن كان الإخلاص في العبادة شرطٌ في صحَّتها، فليس من عبادة تكون مُجزيةً إلَّا بإخلاص لله عز وجل-، إلَّا أنه ينبغي أن تكون نيَّة المؤمن في جميع أعماله، هي قصد التقرّب إلى الله عز وجل وحده. فيستشعر الإنسان في هذه الدنيا بأنَّه موظف لله عزوجل وللدين .. انظروا، إنَّ الكثير من الموظفين والعمال قد لا يعملون عن رغبةٍ ذاتية في العمل، وإنما يعملون ليرضى عنهم مسئوول العمل. لنكن نحن مع الله هكذا، نحن نصلي ليرضى عنّا الله، دائما في حُسباننا وخَلَدنا مراقبة الله عز وجل، لذلك سوف نحرص على أن نُرضيه في كلِّ عمل.

 

يقول النبي الكريم (ص) لأبي ذرّ -بما معناه-: "إن استطعت أن لا تأكل ولا تشرب إلا لله فافعل"(8). ينبغي أن يصل المؤمن لمرحلةٍ تكون فيها أعماله جميعا خالصةً لوجه الله، لا يريد حمداً، ولا ثناءاً، ولا مدحا، ولا يقصد أن يُرضي أحداً إلَّا الله -عز وجل-.

 

وهذا هو معنى الإخلاص، أن تخلص النية: يعني أن يتمحَّض القصد لله عز وجل. فالقلب قد يكون مشوباً بكثيرٍ من القصود، وقد يخلو من كلِّ قصد إلَّا قصد واحد. الإخلاص هو أن يكون قلبك مشغولا بقصدٍ واحد، وهو التزلُّف والتقرُّب إلى الله عز -اسمه وتقدس-. وعندئذ تكون كل حركةٍ وسكون، وكل فعلٍ من أفعالك محلَّ رضاً لله عز -اسمه وتقدس-. وعندئذ لن تفعل المعاصي؛ لأن القلب الذي خلص لله عزوجل يكون حريصاً على عدم قصد ما يُسخط الله عزوجل.

 

الإخلاص هو أحمز الأعمال

نعود ونؤكِّد على أن النية هي مدار القبول، وهي مدار الثواب في الآخرة، والروايات أكَّدت أنه "إنما الأعمال بالنيات، ولكل إمرءٍ ما نوى"(9)، وأنه لا يتحصَّل الإنسان على ثواب عمله -مهما خطُر هذا العمل وكبُر- إلَّا أن يكون هذا العمل قد صدر قربةً لله عز اسمه وتقدس.

 

وهنا قد يُثار تساؤل، وهو: لماذا أُنيط كلُّ عملٍ بنية القربة، مع أنها قد تبدو من أبسط الأمور؟ فمثلاً: الجهاد، والدماء، والسيوف، والعناء، وقضاء الحوائج، وإنفاق الأموال، والصلاة في غسق الليل، هذه أعمال شاقة، وهذه قد لا يُثاب عليها الإنسان، في حين يُثاب على النيَّة -مجرَّد القصد- حتى لو لم يتوفق لأداء تلك الأعمال الشاقة؟

 

والجواب هو إنَّ أصعب شيءٍ، وأشقَّ شيء على الإنسان هو أن يُخلص لله في عمله. الإخلاص هو أصعب شيء يمكن أن يحظى به الإنسان، لذلك هو يحتاج إلى كثيرٍ من الرياضات، وكثيرٍ من المجاهدات، حتى يتمكَّن من الوصول إلى مرتبة الإخلاص، وهو يحتاج مضافاً لذلك إلى تسديدٍ وتوفيقٍ، من الله عز وجل. نعم، قصد الخير ليس أمراً صعباً، وخصوصاً من الإنسان ذي الطباع الخيِّرة، وأما قصد التقرّب إلى الله عز وجل، والإخلاص إلى الله، وأن يفعل العبد الفعل ولا ينتظر أن يُحمد عليه، ويقضي حاجةً لأخيه ولا يقصد أن تُقضى في مقابلها حاجته، فهذا صعبٌ جدا. فالإنسان عادةً ما يقضي حاجةً لأخيه؛ حتى لا يُقال أنه إنسان أنانيّ، ولا يحبُّ الخير إلا لنفسه .. أو يقضي حاجةً لأخيه منتظراً أن يقضي له حاجته حين يحتاج إليه .. هذه القصود مخبوءة في الضمائر، وهي تتنافى مع الإخلاص التام -قد لا تتنافى مع إجزاء التكليف، ولكنَّها تتنافى مع الإخلاص الحقيقي الذي يريده الله عز وجل-.

 

نموذج للإخلاص الحقيقي

الإخلاص هو أن يخلو القلب من كلِّ قصد -حتى ولو كان هذا القصد تبعياً ثانوياً، أن يخلو من كلِّ قصدٍ غيرِ قصدِ التقرب إلى الله -عز اسمه وتقدس-.

 

ولتوضيح المسألة نذكر مثلاً من سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، يذكر المؤرخون أن علياً (ع) لمَّا برز لعمرو بن ود العامري في معركة الأحزاب وتقاتلا أصابت عمرو بن ود جراحةً غائرة سقط على أثرها فبادر عليٌّ لقتله فشتمه عمرو وأساء إليه -وعليٌّ (ع) رجل صاحب نخوة، وصاحب عزَّة، ولا يقبلُ أن يُشتم .. أصحاب المروَّات لا يقبلون الشتيمة، وأن يُساء إليهم، وأن يُهانوا- فما الذي صنعه عليّ (ع)؟ ابتعد عن موضع المعركة، وأخذ يروح ويجيء، حتَّى هدأ روعه، وعاد فقتل عمرو بن ود. وعندما سُئل عن سرِّ ذلك، قال: أردتُ أن أقتله لله، وألَّا يُخالط قتلي إياه شيءٌ من التشفِّي والإنتقام للنفس. يعني أراد أن يكون عمله متمحضاً لله عزوجل خالصاً لوجهه الكريم، ولذلك لم يقتله، حتى هدأ غضبه فكان الباعث الوحيد على قتله إياه هو التقرب لله عزوجل. هكذا كان أهل البيت (ع)، في كلِّ ما كانوا يفعلون لا يقصدون به سوى التقرُّب إلى الله -عز اسمه وتقدسّ-.

 

موانع الإخلاص:

ما الذي يمنع من الإخلاص؟ وما الذي يُوجب تحصيل الإخلاص؟

 

-بإختصار؛ حتى لا نطيل عليكم-، الإخلاص له مراتب، ولا يمكن للإنسان أن يقفز إلى المراتب العالية للإخلاص، حتى يتخطى المراتب الأولى وحينئذٍ يُتاح له الوصول إلى المراتب العالية للإخلاص. والتخطي للمراتب الأولى للإخلاص لا يتم إلا بعد أن يُصفِّي القلب -كلَّه- من الموانع التي تحول دون تحصيل الإخلاص التام لله عزَّ اسمه وتقدس.

 

نستكمل الحديث حول الإخلاص فيما بعد إن شاء الله تعالى.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- الصحيفة السجادية الكاملة -الإمام زين العابدين (ع)- ص 99.

2- سورة الفرقان / 23.

3- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 1 ص 49.

4- النص: "والذي بعث محمدا" بالحق لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه. قال عطية: فقلت لجابر: كيف ولم نهبط واديا "، ولم نعل جبلا "، ولم نضرب بسيف، والقوم قد فرق بين رؤوسهم وأبدانهم وأولادهم وأرملت الأزواج؟ فقال لي: يا عطية سمعت حبيبي رسول الله (ص) يقول: من أحب قوما "حشر معهم، ومن أحب عمل قوم أشرك في عملهم، والذي بعث محمدا" بالحق إن نيتي و نية أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه، خذوني نحو أبيات كوفان فلما صرنا في بعض الطريق فقال لي: يا عطية هل أوصيك وما أظن أنني بعد هذه السفرة ملاقيك أحبب محب آل محمد (ص) ما أحبهم، وأبغض مبغض آل محمد ما أبغضهم، وإن كان صواما " قواما "، وأرفق بمحب آل محمد فإنه إن تزل قدم بكثرة ذنوبهم ثبتت لهم أخرى بمحبتهم، فأن محبهم يعود إلى الجنة، ومبغضهم يعود إلى النار".

5- سورة التوبة / 92.

6- ميزان الحكمة -محمد الريشهري- ج 3 ص 2191.

7- سورة البينة / 5.

8- الفتاوى الواضحة -للسيد محمد باقر الصدر- ص 601.

9- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 1 ص 49.