شبهة انتشار الإسلام بالإرهاب

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الأخيار الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

 

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.

 

مقدَّمة:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾(1)

صدق الله مولانا العليُّ العظيم

 

نبارك لكم أيها الإخوة الأعزاء ميلاد الرسول الأعظم (ص)، ونود بهذه المناسبة الشريفة أن نقف على هذه الآية التي تلوناها وهي تتحدَّث عن واحدٍ من العوامل التي تمكَّن بها الرسول (ص) من أن يُثبِّت هذه الدعوة في وسط العرب، وفي أوساط المجتمع الذي بُعث فيه:

 

فحسن الخلق الذي تمتع به الرسولُ (ص)، ولينُ عريكته، وسعةُ صدرِه، ورحمته ورأفته .. كلُّ ذلك ساهم -وإلى حدٍّ كبير- في انتشار دعوته، وفي استقطابها للاوساط الاجتماعية التي بُعث فيها. إذن، فالخلق الرفيع الذي كان عليه الرسول (ص) هو أحد عوامل انتشار الدعوة.

 

وثمَّة عوامل أخرى كثيرة ساهمت في انتشار الدعوة الإسلامية، وساهمت في استيعابها ليس للأمة التي بُعث النبي (ص) في وسطها وحسب، بل امتدَّت دعوتُه لتستوعب كلَّ الأمم، رغم ما كان يعتري ذلك من صعوبات وعقبات، فرغم كلِّ ذلك استطاعت هذه الدعوة أن تنفذ إلى قلوب الكثير من العرب والكثير من الأمم الأخرى. ثم إنَّها لم تقف عند حدِّ الزمن الذي بُعث فيه الرسول الكريم (ص)، بل امتدَّت في عمود الزمان، لتضرب في عمق التأريخ، وها نحن نشاهد الإسلام وقد مرَّ على انبثاقه مئاتُ السنين، ورغم ذلك ظلَّ غضاًّ فاعلاً، وبقي نابضاً في قلوب الملايين من البشر؛ كلُّ ذلك يعبِّر عن أن الإسلام يحمل في ذاته، وفي مضمونه مقومات بقائه وخلوده.

 

الشُّبهة:

من هنا نود أن نشير إلى شُبهة قديمةٍ جديدة، وهي: دعوى أنَّ الإسلام إنما انتشر وذاع صيته بالسيف والإرهاب، ولو لا السيف والإرهاب لما كان للإسلام من أثر يُذكر، فالناس أذعنت لدين الإسلام لأنها وقعت تحت وطأة الإرهاب والعنف الذي كان يُمارسه الرسول (ص). هكذا قيل، وهكذا يقول بعض الناس في زماننا!

 

الجواب:

للوقوف على فساد هذه الشبهة، لابد من ملاحظة مجموعة أمور:

 

الأمر الأول: ملاحظة الخطاب الديني، الذي اعتمده النبيُّ (ص) في الدعوة إلى الإسلام:

فالإسلام بدأَ حين بدأ بمحمد (ص)، ولم يكن معه من أحدٍ سوى عليٍّ، وخديجة. والوسيلة الوحيدة التي توسَّل بها واعتمدها في الدعوة إلى الإسلام هي الكلمة الطيبة، والدعوة إلى القيم الإنسانية التي تشرئبُّ لها القلوب القويمة والسليمة، والمجرَّدة عن العقد والأضغان .. كما توسَّل بالبرهان، والدعوة إلى التفكير، والتدبُّر، والتأمُّل في المبادئ التي يدعو إليها. هذه هي الوسيلة التي اعتمدها رسول الله (ص) في الدعوة إلى الإسلام.

 

أولاً: الدعوة إلى القيم الإنسانية:

فكان (ص) يقول: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق"(2)، وأخذ يأمر بالمعروف -بكلِّ ما هو معروف-، وينهى عن كلِّ ما هو منكر ومستقبَح، فكان ينهى عن الفاحشة والرذيلة، ويدعو إلى العفاف والفضيلة وكان يدعو للعدل والإنصاف والمساواة، وينهى ويشجب كلَّ مظاهر الظلم والاستبداد، والابتزاز، وحرمان الضعفاء، وتسلُّط المتنفذين والأقوياء. هذه هي القيم التي دعا لها رسول الله (ص)، ولذلك التفَّت حوله الرجالات.

 

ثانياً: الدعوة إلى التأمل والتفكّر:

كما أنه كان يدعو إلى التأمُّل والتفكُّر فيما جاء به من أصولٍ اعتقادية وأفاد أن الاذعان لهذه الأصول هو من مقتضيات الفطرة والتعقل،فدعوته كانت تعتمد المحاورة للعقول، والتنبيه للقلوب.

 

فدعا جبابرة قريش، ودعا علماء اليهود، وعلماء النصارى إلى التأمل فيما يقول .. ودعا الإنسان، وحاكى فطرته، وناغى عقله، وقال له لا تقبل منِّي ما أقول إلَّا بعد أن تتفكَّر وتتأمَّل فنادى: ﴿يَا أَهْلْ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ﴾(3)، هذه ليست لغة المستبد، ولا هي لغة الذي يدعو إلى أطروحته بالسيف والإرهاب، هذه لغة الإنسان الذي يدعو إلى الفكر بواسطة الحوار، والمجادلة بالتي هي أحسن .. ولذلك كان يؤكِّد على لزوم المجادلة بالتي هي أحسن، وقد علَّمه القرآن هذا الخُلُق، قال تعالى: ﴿ادعو الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنةوَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾(4). كان يدعوهم للتأمل في الآفاق وفي أنفسهم، ويدعوهم للتأمل في اختلاف الليل والنهار، واختلاف الخَلْق، ويقول لهم بأنَّ هذه المظاهر الكونية، وما تشتمل عليه أنفسُكم من أسرار هو دليلٌ وبرهانٌ على صوابية ما أدَّعيه، فيقول تعالى: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾(5)، دعوة للتبصُّر، عودوا إلى أنفسكم -هذه هي اللغة التي اعتمدها رسول الله في الدعوة إلى الإسلام-، ويقول من كتاب الله تعالى: ﴿سَنُرِيْهِم آيَاتنَا فِيْ الآفَاقِ وَفِيْ أَنْفُسِهِم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾(6) ولم يقل سوف نقتلهم حتى يؤمنوا أو سوف نجزِّرهم، وسوف نُصلِّبهم على جذوع النخل؛ حتى يؤمنوا .. لم يقل ذلك، ولم تكن هذه لغته، بل كانت لغته: إننا سنوقفهم على الدليل، وسنوقفهم على البرهان: ﴿سَنُرِيْهِم آيَاتنَا فِيْ الآفَاقِ (في الكون) وَفِيْ أَنْفُسِهِم (وسنظلُّ نريهم ذلك) حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شّيْءٍ شَهِيْد﴾. ثم يُوقفهم عل مظاهر الكون، وعلى اختلاف أنحائه، ووظائفه، وعلى نظامه؛ كلُّ ذلك ليثوبوا إلى عقولهم ورشدهم، عَلَّهم يؤمنوا بما يقول. هذه هي وسيلته. يقول: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ ألا يعبِّر ذلك عن شيء؟!﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفٍ أَلْوَانُهَا﴾(7)، أرض واحدة، وتربة واحدة، والماء الذي يُغذَّيها ذو طبيعة واحدة، ثمَّ إنَّ ألوان الثمرات تخرج مختلفة! وطعومها مختلفة، ورائحتها مختلفة، وأشكالها، وهيئاتها، ووظائفها، وما يترتَّب عليها من آثار، ومضاعفات، كل ذلك مختلف! ما هو السر؟! هكذا يحاول أن ينفُذ في أعماق عقولهم؛ ليثبت صحة دعوته من خلال هذه المنبِّهات، حتى يدخلوا الإسلام عن وعيٍ وبصيرة.

 

ثم تُضيف الآية الكريمة: ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْواَنُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيْضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيْبُ سُوْدٌ / وَمِنَ الْنَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾(8)، يعني إنَّ دعوتنا يقبلها العلماء، والعقلاء، والمتأملون، والمتفكرون. هذه هي وسيلتنا للدعوة إلى الله تعالى. هكذا كانت وسيلة رسول الله: الدعوة للتأمل والتبصُّر والتفكر.

 

ثالثاً: إلزام الآخرين بما يؤمنون به:

ومن الوسائل التي اعتمدها الرسول (ص) في الدعوة هي إيقاف اليهود والنصارى على ما يؤمنون به، ويلتزمون به، فيقول لهم إنكم تلتزمون بالتوراة والإنجيل، وفي التوراة والإنجيل ما يُؤكِّد صوابيَّة دعوة الإسلام، ونبوة رسول الإسلام، فيقول: ﴿الَّذِيْنَ يَتَّبِعُوْنَ الرَّسُوْلَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِيْ يَجِدُوْنَهُ مَكْتُوْباً عِنْدَهُمْ فِيْ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيْلِ﴾(9)، يقيم الحُجَّة عليهم، ويقول لهم إنكم تجدون نعتي، ودعوتي، وما يثبتُ صحَّة قولي، في كتابكم الذي تلتزمون بصحَّته، وبأنه وحي من الله، وهذه هي العلامات الموجودة عندكم: ﴿يَأْمُرَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُم عَنِ الْمُنْكَرِ .. وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِيْ كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾(10) ويقول تعالى:﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾(11)، أنتم ادَّعيتم أنَّ النبيّ مجنون، هنا خياران: إما أن نواجهكم بالسيف؛ لتعدلوا عن هذه الدعوى. وذلك ليس هو سبيلنا، وليس هو طريقنا في الدعوة إلى الله. وأما الخيار الثاني فهو أن تتفكَّروا، ويجلس أحدكم لوحده؛ كي يتأمَّل، أو تجتمعوا وتتفاكروا وتتباحثوا في شأن هذا الرجل الذي تُنكرون نبَّوته. هذه هي الوسيلة التي اعتمدها القرآن والرسول (ص) للوصول إلى الحقيقة: اجلسوا مثنى، أو فُرادى، ثم تفكَّروا، وستجدون أنَّ ما بصاحبكم من جِنَّة، ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيْرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيْدٌ﴾(12).

 

هذه وسيلة النبي (ص) لأكثر من عقدٍ من الزمن:

إذن هذه هي الوسيلة التي اعتمدها الإسلام في الدعوة إلى الله، وظلَّ يعتمد هذه الوسيلة لما يربو على عقدٍ من الزمن، فبدأ في مكة واستمر عقداً ويزيد من الزمن وهو يدعو بهذه الطريقة، وبهذه الوسيلة، ولم تكن له وسيلة أُخرى. فمن أين جاءت دعوى السيف والإرهاب، ولم يكن في يد رسول الله سيف، ولم يكن مع رسول الله ما يُرهب به الآخرين؟! بل كانت السطوة والقوة في الطرف المقابل، وكان رسول الله في الطرف الآخر؛ هذا هو الأمر الأول.

 

النتيجة:

إذن، فبملاحظة الخطابات الدينية، من القرآن الكريم، وأحاديث الرسول (ص)، والوسائل التي اعتمدها والواقع الذي كان عليه الرسول (ص)، كلُّ ذلك عندما يلاحظه المُنصف يعرف أنَّ وسيلة الدعوة لم تكن السيف والإرهاب.

 

الأمر الثاني: ملاحظة تأريخ الدعوة:

أولاً: تأريخ الدعوة في مكة

تعلمون إنَّ الدعوة بدأت في مكة، وكان -كما قلنا- رسول الله وحده يدعو إلى الله، وكان معه عليّ وخديجة، وبدأ الناس يدخلون في الإسلام، ولم يكن بيد رسول الله سيف، ولم يكن معه جلاّد، وبدأ الناس يدخلون سرّاً وعلناً، فدخل معه في هذا الدين الضعفاء، كما دخل معه بعض الأقوياء، وبدأ المعتنقون للدين يكثر عددهم ويزداد يوماً بعد يوم حتى ضاقت بهم قريشُ ذرعاً، وفي كلِّ ذلك الوقت لم يكن لرسول الله (ص) سلطان، ولم تكن له دولة، ولم يكن عنده من جيش، فلم يكن بمقدوره انْ يُمارس أيَّ نوع من أنواع الترهيب، بل كان رسول الله (ص)، ومن آمن معه، هم من مُورس معهم الإرهاب، وهم الذين وقعوا ضحية الإرهاب والتعسُّف، فكان أتباعه يُعَذَّبون بأقسى أنواع التعذيب، فكان بعضهم يُقْتل، وآخرون يُصفَّدون ويُحْبسون في لهب الشمس، وهجير الصحراء، وتوضع على صدورهم الصخور الملتهبة، وكانوا يُحرَّقون بالنار.

 

إذن، فأتباع رسول الله (ص) هم من مورس معهم الإرهاب، ورسول الله نفسه هو من مورس معه الإرهاب، فكان يُوضَع الشوك في طريقه، وكان إذا سجد يأتي أحدُهم فيضع رجله على رقبته، حتى تجحظ عيناه من وجهه، وكان (ص) مقاطَعاً، حتى لا يكاد يجد من يبيعه الطعام من كفار قريش، ثم حُبس هو وبنو هاشم في شِعْبِ أبي طالب ثلاث سنين(13)، حتى وَضع حجر المجاعة على بطنه، فكان بنو هاشم لا ينامون الليل؛ يخشون من سهمٍ طائش يقع في قلب رسول الله (ص) .. ألم يذكر التأريخ أنَّ أبا طالبٍ وعلياً وبني هاشم يتحلَّقون حول رسول الله يخشون أن يطيش سهمٌ، فيقع في قلبه؟! وكان أبو طالب يأمر علياًّ أن يُوهم العرب من كفار قريش، فينام على فراش رسول الله، ويقوم الرسول (ص) فينام على فراش عليٍّ"ع"، وهكذا يتبادلان الفراش في الليل مرَّاتٍ، حتى يُوهموا قريشاً بموقع رسول الله.

 

ثانياً: تأريخ الدعوة في الطائف

وحينما خرج إلى الطائف يدعوهم إلى الله وحده، وكان معه عليّ، بأيّ شيء قابلوه؟! سخروا منه ثم رضخه صبيانهم بالحجارة، حتى ذكر المؤرخون أنه ما رفع رسول الله (ص) رِجْلاً ووضع أُخْرى إلاَّ ورضخته حجر، وكان الدم ينضح من ساقيه، ومن تمام جوانب بدنه(14).

 

إذن فرسول الله (ص) هو من مورس معه الإرهاب والتعسُّف، حتى خرج من مكة خفية وخلسة.

 

ثالثاً: تأريخ الهجرة إلى الحبشة والمدينة

وهكذا فعل أصحاب رسول الله (ص)، لمَّا أن استبدَّ بهم الخوف من سطوة قريش، أمرهم رسول الله (ص) بالهجرة إلى الحبشة، فخرجوا خوفاً على أنفسهم، ودينهم، وعلى أعراضهم، وأموالهم، فقد سُلبت أموالهم وبيوتهم، فخرجوا إلى محلٍّ بعيدة وهي الحبشة، فلاحقتهم قريش وذهبت إلى هناك، وبعثت بالهدايا إلى ملك الحبشة لتغريه بتسليم المؤمنين إليهم، ولكنه لمَّا لم يكن يعبأ بالهدايا، سألهم عن سبب طلبهم لهؤلاء اللاجئين؟ قالوا إنهم صابئة، خرجوا عن دين أجدادهم وآبائهم. فقال لوفد المسلمين: وأنتم ماذا تقولون؟ قالوا: إنَّه قد بُعث فينا رجل من أنفسنا، دعانا إلى الفضيلة، وإلى ونبذ الزنا وشرب الخمر وعبادة الأوثان.

 

فسألهم عما يقول صاحبهم في السيد المسيح، وفي السيدة مريم؟

لاحظوا الوسيلة التي اعتمدها المسلمون لغرض حماية أنفسهم، ولغرض إقناع هذا الرجل -الملك-، فتلا عليه جعفر بن أبي طالب سورة مريم، فقال: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾(15) فتأثر النجاشي ملك الحبشة، وقال: إنَّ الذي يأتي صاحبكم، هو الناموس، الذي كان يأتي المسيح(16). هذه هي الوسائل التي اعتمدها رسول الله (ص)، واعتمدها أتباعه، في الوصول إلى غايتهم من نشر الدعوة.

 

ثم لم تكتفِ قريش بأن تسبَّبت في أن يُهاجر المسلمون عن رسول الله (ص) إلى الحبشة، بل استمروا في تعسُّفهم، وظلمهم، واستبدادهم، ضد من بقي من المسلمين، فاضطر رسول الله (ص) للهجرة إلى المدينة .. وحيمنا خرج رسول الله إلى المدينة، لم يتركوه وشأنه، بل ضايقوه وألبَّوا عليه عرب الجزيرة واليهود.

 

النتيجة:

هذا هو الأمر الثاني الذي ينبغي أن يكون واضحاً، وباتضاحه يتَّضح فساد دعوى هؤلاء المُدَّعين. فتأريخ دعوة النبي (ص) يشهد بأنَّ الإرهاب والسيف إنما كان لغة أعداء الإسلام، ولم تكن لغته (ص) أبداً.

 

الأمر الثالث: ملاحظة معارك النبي (ص):

المعارك التي خاضها كانت كلُّها دفاعية:

هو أنَّ الرسول (ص) وان كان قد حارب، وخاض معارك عديدة، ولكن بمراجعةٍ سريعة لهذه الحروب، سنجد أنها لم يكن منها حربُ هجومٍ أصلاً، بل كانت حروباً دفاعية. وإذا كان رسول الله قد بدأ في بعض المواطن بمعركةٍ فهو من باب المبادرة بالدفاع؛ لأنه يسمع أنَّ قريشاً، أو أنَّ اليهود تستعدُّ لمواجهته. وليس من التعقُّل أن ينتظرهم يُعبِّئون جيوشهم، ثم يستقبلهم بعد أن تهيئوا وأخذوا مواقعهم. أمَّا أنَّه بدأهم بقتال، يبتغي من ورائه إرغامهم على الإسلام فهذا ما لم يقع.

 

فعندما دخل الرسول (ص) المدينة بدأ بالحوار مع اليهود، وتعاهد معهم، وتواثق معهم على أمور(17)، فنقضوها وتحزَّبوا مع قريش في غزوة الأحزاب، وأحاطوا جميعاً بالمدينة المنوَّرة، ومدُّوا قريشاً بالخيل والرجال والسلاح والعتاد والطعام، فلم يكن بدٌّ من مواجهتهم بعد ذلك لاضعاف شوكتهم(18).

 

وفي غزوة تبوك، لمَّا أن بلغ النبي (ص) أنَّ الرومان تُعبِّأ جيشاً، قوامه يزيد على المائة ألف؛ من أجل مواجهة هذه الدولة الفتيَّة .. قرَّر النبي (ص) أن يُعبِّأ المسلمين في سنة العسرة -وكان المسلمون في ضَنَكٍ من العيش، وكان الجوّ حاراً-، فتعبَّأ الناس، وخرجوا؛ حتى لا تُباغتهم الروم. ولمَّا أن عرف أن الروم قد انصرفت؛ انصرف عنهم ولم يحاربهم، ولو كان غرضه الحرب لكانت تلك فرصةً سانحة لأن يتعقَّبهم.

 

النتيجة:

إذن، لم يخض رسول الله (ص) قطُ حرباً هجومية، حتى يُقال أنَّه نشر الإسلام بالسيف والإرهاب. هذا هو الأمر الثالث.

 

الأمر الرابع: ملاحظة حال أتباع النبي (ص) وجنوده

إنَّ رسول الله وإن كان قد خاض حروباً، إلا أنَّه نسأل : هل كان لرسول الله (ص) جيش مُنظَّم، مُرغم على أنْ يُنفِّذ أوامره؟! هذا إنما يتَّفق لرجلٍ لديه دولة وعنده جيش مُنظَّم، يأمره وينهاه. ولم يكن رسول الله (ص) قد بدأ الدعوة بذلك، بل بدأ بواحدٍ، ثم اثنين، ثم عشرة، ثم مائة، ثم ألف .. هؤلاء كلهم دخلوا عن طريق الإقناع والإيمان، ومنهم وبهم استطاع رسول الله (ص) أن يواجه الآخرين. فلم يكن له من جيشٍ مُنظَّم، حتى يُقال إنَّه أرغمه على مواجهة القوى الأخرى. وإنما الذين آمنوا معه تفانوا فيه، حين عشقوا المبادئ التي جاء بها، وعشقوا الخطّ الذي دعا لسلوكه لذلك بذلوا أرواحهم وأموالهم في سبيل حماية هذا الخط وهذه الدعوة. فهؤلاء الذين تكوَّن منهم جيش الاسلام، لم يكن أحدٌ منهم دخل بالإرهاب، فهؤلاء آمنوا دون حرب .. ثم إنَّ رسول الله (ص) استعان بهم على الحرب، وأيّ حرب؟ قلنا إنها حروب الدِّفاع، ولم تكن حروباً للهجوم. هذا هو الأمر الرابع.

 

الأمر الخامس: ملاحظة حال الذين حاربهم النبي (ص)

نختم الحديث بأمر -ونستميحكم العذر على الإطالة-، وهو:

إنَّ المعيب الذي يستحق الإدانه هو أن يقف النبي (ص) على المستضعفين من الناس، وعلى الذين لا يجدون ما يدفعون به عن أنفسهم، ويُلزمهم بالدخول في الدين. هل يتمكَّن أحدٌ من أن يأتي لنا بحدثٍ واحد تأريخيّ، يُعبِّر عن أن رسول الله (ص) وقف على أحدٍ بسيفه؛ كي يُلزمه بالدخول في الدين؟!

 

لم يكن الأمر كذلك، بل كان رسول الله (ص) يواجه المُستبدِّين، ذوي النفوذ والسطوة كان يواجه الأقوياء -ولم يكن المسلمون أقوى منهم مادياً ولا عسكرياً-.

 

لا يُقال عن مواجهة قوَّةٍ مع قوّة: أنَّ القوة الأخرى آمنت عن خوفٍ وإرهاب؛ على أنَّ هؤلاء لم يؤمنوا أصلاً. فكلُّ من حاربهم رسول الله، وواجههم، لم يؤمنوا به. بل ظلَّوا عقبةً، وحائلاً بين رسول الله وبين الناس، فهؤلاء كانوا يقفون في طريق الدعوة، ويتوسَّلون بشتى الوسائل المتاحة آنذاك من أجل أن يقبروا هذه الدعوة ويجهزوا عليها .. اليهود كانوا كذلك، والرومان كانت كذلك، وقريش كانت كذلك، هؤلاء هم الذين حاربهم رسول الله (ص)، فلم يكن في وسعه مجانبتهم ولم يكن من سبيل سوى مواجهتهم بما أُتيح له من قوة. فرسول الله (ص) واجه السلطات والقوى، ولم يواجه المستضعفين. فحينما كان ينتصر، كان يترك الناس واختيارهم، فمن أراد منهم أن يدخل في الدين فليدخل، ومن أراد أن لا يدخل لم يكن رسول الله يُرغمه. فكان شعار الإسلام ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾(19).

 

الأمر السادس: ملاحظة سرّ بقاء الإسلام

ثم إنَّ هنا أمراً نود أن نشير إليه .. وهو أنَّه لو كان الإسلام قد قام على أساس السيف والإرهاب، فإنه لن يتمكن من البقاء إلى هذا الوقت، خصوصاً وإنَّ الإسلام في مثل هذه المرحلة في موقع الضعف، بل إنَّ الإسلام لم يبق في موقع القوة إلا حُقبةً من الزمن، ثم أصبح في موقع الضعف، فما هو سرُّ بقائه؟!

 

كل الأُطروحات، وكل الأديان، وكل الأفكار التي قامت على أساس القوة تبخَّرت بمجرَّد أن زالت عنها القوة. ونحن نرى الإسلام يتجدَّد في كل زمن، ويمتدَّ في كلِّ مكان، رغم أنه في موقع الضعف! نحن الآن نُمثِّل أكثر من ثلث العالم، وليس لنا من القوة من شيء، ولا نستطيع أن نذُبَّ عن أنفسنا، والقوة بيد الآخرين. والناس وإن كانت تخضع لقوة الآخرين، إلَّا أنها لا تؤمن بأُطروحاتهم وبأفكارهم.

 

الإسلام -اليوم- يمتد إلى قلب أوربا، وفي كلِّ القارات، وفي أمريكا، وفي كل مكان، لماذا؟! لوكان منشأ الإنتشار هو القوة، فينبغي أن لا يبقى للإسلام من يؤمن به؛ لأن الإسلام الآن في موقع الضعف.. وهذا ما يُعبِّر عن أن الإسلام لم تكن وسيلته في النفوذ إلى القلوب هيالقوةَ والسيف، بل كانت وسيلته الإقناع والدليل والبرهان، ولأنَّ البرهان قائم -وسيظلُّ قائماً-، إذن سيظل دين الإسلام ثابتاً، ولن تتمكن كلُّ القوى -مهما تعاظمت وتعسَّفت، ومهما بذلت من جهود- فإنها لن تتمكن من أن تقضي على هذا الدين أو تحد من انتشاره.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة آل عمران / 159.

2- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج16 / ص210.

3- سورة آل عمران / 64.

4- سورة آل عمران / 64.

5- سورة الذاريات / 21.

6- سورة فصلت / 53.

7- سورة فاطر / 27.

8- سورة فاطر / 27- 28.

9- سورة الأعراف / 157.

10- سورة الأعراف / 157.

11- سورة سبأ / 46.

12- سورة سبأ / 46.

13- الطبقات الكبرى لابن سعد ج1 / ص208، أعلام الورى للطبرسي ج1 / ص125.

14- لاحظ بحار الأنوار ج18/ ص77، تاريخ الإسلام للذهبي ج1 / ص283، أعلام الورى للشيخ الطبرسي ج1 / ص134.

15- سورة مريم / 16.

16- لاحظ تفسير القمي ج1 / ص176، مجمع البيان للطبرسي ج3 / ص400، جامع البيان للطبري ج7 / ص4.

17- لاحظ مكاتيب الرسول (ص) للأحمدي ج3 / ص24.

18- لاحظ الارشاد للشيخ المفيد ج1 / ص94، السيرة النبوية ج3 / ص178.

19- سورة البقرة / 256.