سندُ عهد الإمام (ع) إلى مالك الأشتر

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

عهد الإمام علي (ع) إلى مالك الأشتر الموجود في كتاب نهج البلاغة هل له طريقٌ صحيح؟

 

الجواب:

نعم، عهدُ الإمام عليٍّ (ع) إلى مالك الأشتر الموجود في كتاب نهج البلاغة له طريقان معتبران، ولعلَّ ثمة طرقاً أخرى لم أقف عليها:

 

الطريق الأول: هو طريق الشيخ الطوسي (رحمه الله)، وهذا الطريق ذكره الشيخ في كتابه الفهرست في ترجمة الأصبغ بن نباتة، قال (رحمه الله): أخبرنا بالعهد ابنُ أبي جيِّد، عن محمد بن الحسن، عن الحميري، عن هارون بن مسلم والحسن بن طريف جميعاً، عن الحسين بن علوان الكلبي، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)(1).

 

فكلُّ مَن ورد في هذا الطريق المتَّصل ثقات، أمَّا ابنُ أبي جيِّد فهو أبو الحسين عليُّ بن أحمد بن محمد بن أبي جيد القمِّي، وهو من المعاريف، ومن مشايخ الشيخ النجاشي، وقد روى عنه كثيراً، وقد ثبت في محلِّه أنَّ كلَّ مشايخ النجاشي (رحمه الله) ثقات.

 

وأمَّا محمَّد بن الحسن فهو أبو جعفر محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد "شيخ القميين وفقيههم، ومتقدِّمُهم ووجهُهم ثقةٌ ثقةٌ عينٌ مسكونٌ إليه" كما أفاد ذلك النجاشي(2) وقال عنه الشيخ الطوسي: "جليلُ القدر، عارفٌ بالرجال، موثوقٌ به"(3).

 

وأمَّا الحُميري فهو أبو العباس عبد الله بن جعفر الحميري القمِّي من أصحاب الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام) وثَّقه الشيخ الطوسي وذكر له كتباً عديدة، منها كتاب قرب الأسناد وكتاب المسائل والتوقيعات، وكتاب الغيبة، ومسائله عن محمد بن عثمان العمري(4).

 

وأمَّا هارون بن مسلم فهو أبو القاسم هارون بن مسلم بن سعدان الكاتب السر مَن رائي، وهو من أصحاب الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام) ومن رجال تفسير عليِّ بن ابراهيم القمِّي، وثَّقه النجاشي، ووصفه بأنَّه "ثقةٌ وجه"(5).

 

وأمَّا الحسن بن طريف فهو أبو محمد الحسن بن ظريف بن ناصح، والظاهر انَّ طريفاً تصحيفٌ من النسَّاخ، وعلى أيِّ تقدير فقد وثَّقه النجاشي وقال عنه: كوفيٌّ ثقة، سكن بغداد وأبوه، قيل: له نوادر والرواة عنه كثير(6) وعدَّه الشيخ في الرجال من أصحاب الإمام الهادي (ع)(7).

 

وأمَّا الحسين بن علوان الكلبي فهو من المعاريف ولم يرد فيه قدح، وهو من الواقعين في أسناد كتاب تفسير عليِّ بن ابراهيم القمي(8) المحكومين بالوثاقة لتوثيق الشيخ عليِّ بن ابراهيم لهم، ويُؤيَّد ذلك ما نقله العلامة الحلِّي في كتابه خلاصة الأقوال في ترجمة الحسين بن علوان عن ابن عقدة أنَّه قال: "إنَّ الحسن -يعني ابن علوان- كان أوثق من أخيه واحمد عند أصحابنا"(9) وظاهر هذه العبارة هو بناء الأصحاب على وثاقة الحسين وأخيه أحمد، غايته أنَّ الحسن أخاهما كان أوثق منهما، وقد امتدحه الكشي ضمن جماعة نُسبوا إلى العامَّة وقال: "إنَّ لهم ميلاً ومحبَّة شديدة" أي لأهل البيت (ع) وللشيعة ثم قال عن الحسين بن علوان الكلبي: "وقد قيل: إنَّ الكلبي كان مستورا ولم يكن مخالفاً"(10) وملاحظة ما رُوي عنه من آثار تُؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنَّه لم يكن من العامَّة، ولو كان من العامَّة فإنَّ ذلك لا يضرُّ بصحَّة اعتماد خبره بعد ثبوت وثاقته، فإنَّ مناط الحجيَّة للخبر هي وثاقة الراوي بقطع النظر عن معتقده كما ثبت ذلك في علم الأصول.

 

هذا وقد ترجم الشيخ النجاشي (رحمه الله) للحسين بن علوان بقوله: "الحسين بن علوان الكلبي: مولاهم، كوفي، عامِّي، وأخوه الحسن يُكنَّى أبا محمد ثقة، رويا عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وليس للحسن كتاب والحسن أخصُّ بنا وأولى"(11).

 

وهذا النص لا يخلو من اجمال من جهة أنَّ التوثيق هل هو عائد إلى الحسين بن علوان أو هو عائد إلى أخيه الحسن المذكور في ترجمة الحسين استطراداً؟

 

فنظراً لكون التوثيق أقرب لفظاً للحسن لذلك كان من المحتمل رجوع التوثيق إليه إلا أنَّ الأرجح هو أنَّ التوثيق عائدٌ للحسين، وذلك لأنَّ الشيخ النجاشي كان في مقام الترجمة للحسين بن علوان وإنَّما ذكر أخاه الحسن استطراداً فتكون عبارة "وأخوه الحسن يُكنَّى أبا محمد" جملة معترضة بين قوله يصف الحسين بن علوان: "كوفيٌّ عامي" وقوله: "ثقة" فيكون حاصل ما أفاده النجاشي أنَّ الحسين بن علوان كوفيٌّ عاميٌّ ثقة، إلا أنَّ ما يمنع من الجزم بكون ذلك هو مراد الشيخ النجاشي قولُه: "رويا عن أبي عبد الله (عليه السلام)" بعد قوله مباشرة: "ثقة"، فلو كان التوثيق عائد للحسين لكان المناسب القول: روى هو وأخوه عن أبي عبدالله (ع) فتكون كلمة روى احدى التوصيفات التي عدَّدها للحسين فهو كوفيٌّ عاميٌّ ثقة روى عن أبي عبد الله (ع) لكنَّ النجاشي لم يقل ذلك بل قال: "رويا" فعزَّز بذلك الإجمال لكلامه، لاحتمال أنَّه سوَّغ لنفسه التثنية في الإسناد باعتبار أنَّ الحسن هو المقصود من الفقرة الأخيرة والحسين هو المترجَم له، فصحَّ لذلك أنْ يقول: "رويا"، ولو كان الحسين هو المقصود بالفقرة الأخيرة "ثقة" لكان المناسب أنْ يقول روى لأنَّ الحسن تمَّ ذكره في جملة معترضة -بحسب الفرض-خارجة عن سياق الكلام، ولو أنَّه أراد أن يستأنف جملة جديدة يُسند فيها الرواية إلى الاثنين لكان المناسب أن يأتي بواو الاستئناف فيقول: "ورويا"، فهذه وإن كانت لن ترفع الإجمال ولكنها لن تُعزز رجوع التوثيق للحسن. لأنَّ احتمال رجوع التوثيق للحسن يظلُّ قائماً حتى لو جاء بواو الاستئناف.

 

وعلى أيِّ تقدير فثبوت الوثاقة للحسين بن علوان ليست متوقفة على استظهار التوثيق له من عبارة النجاشي، فإنَّ وثاقة الحسين بن علوان ثابتة من طرقٍ أخرى كما أشرنا لذلك على سبيل الإيجاز.

 

وأمَّا سعد بن طريف فهو سعد الإسكاف الحنظلي وهو من أصحاب الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) بل عدَّه الشيخ في رجاله من أصحاب الإمام السجاد (ع) أيضاً، وأفاد أنَّه كوفي من بني تميم ووصفه بأنَّه: "صحيح الحديث" (12)، لذلك فهو ثقة معتمَد، هذا مضافاً إلى أنَّه من رجال تفسير القمي المحكومين بالوثاقة، لتوثيق الشيخ عليُّ بن ابراهيم لهم، ولا يُعارِض الحكم بوثاقته وصحة حديثه ما أفاده الشيح النجاشي الذي وصفه بأنَّه: "يُعرف ويُنكر" (13)، فإنَّ معنى ذلك -كما أفاد السيد الخوئي- أنَّه يروي ما لا يقبله المتعارف من الأصحاب أو أنَّ مراد النجاشي من هذا الوصف أن بعض ما يعتقده سعد بن طريف منافٍ لما يقبله الأصحاب وإن كان المعنى الأول أظهر ولكنَّه على كلا التقديرين لا يكون ذلك ضائراً بوثاقته، فإنَّ رواية ما لا يُعرف أو الاعتقاد بما لا يُعرف لا يضرُّ بالوثاقة إذا ثبتت.

 

وأمَّا الأصبغ بن نباتة فهو من خواصِّ أمير المؤمنين (ع) فهو في أعلى درجات الوثاقة، قال عنه الشيخ الطوسي: الأصبغ بن نباتة رحمه الله: كان الأصبغ من خاصة أمير المؤمنين (عليه السلام) وعمَّر بعده، روى عهد مالك الأشتر الذي عهده إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) لمَّا ولَّاه مصر(14) وقريب من ذلك ما أفاده الشيخ النجاشي(15).

 

الطريق الثاني: هو طريق الشيخ النجاشي (رحمه الله) ذكره في ترجمة الأصبغ بن نباتة، قال: أخبرنا ابن الجندي، عن علي بن همام، عن الحميري، عن هارون بن مسلم، عن الحسين بن علوان، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بالعهد(16).

 

أما ابن الجندي فهو أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمران بن موسى، المعروف بابن الجندي وهو من المعاريف له كتبٌ عديدة، وهو من مشايخ النجاشي وكان يعظِّمه ويُكثر من الترحُّم عليه، فكان فيما قاله عنه: "أستاذنا -رحمه الله- ألحقنا بالشيوخ في زمانه. له كتب" (17) فوثاقة الرجل ممَّا لا ريب فيها.

 

وأمَّا علي بن همَّام الواقع في السند بعد ابن الجندي فالظاهر انَّه أبو علي بن همَّام وانَّ كلمة (أبو) قد سقطت سهواً من النسَّاخ أو من قلم الشيخ النجاشي (رحمه الله) فإنَّ الذي يروي عنه ابن الجندي كثيراً هو أبو علي بن همام وليس لابن الجندي ولا رواية واحدة عن رجلٍ يُسمَّى عليُّ بن همَّام بل لا وجود لهذا الاسم في الرواة، لذلك فالمتعيَّن هو أنَّ سقطاً وقع لكلمة (أبو) وأنَّ الذي روى عنه ابن الجندي في هذا الطريق هو أبو عليِّ بن همَّام المعروف الذي يروي عنه ابن الجندي كثيراً وهو محمَّد بن همَّام الثقة الجليل الذي وصفه النجاشي بأنَّه "شيخ أصحابنا ومتقدِّمهم، له منزلةٌ عظيمة، كثير الحديث"(18) وقال عنه الشيخ الطوسي (رحمه الله): "محمد بن همَّام الإسكافي، يكنَّى أبا علي: جليل القدر، ثقة، له روايات كثيرة .."(19).

 

فطريق النجاشي إلى أبي علي بن همام صحيح ثم يشترك رجال السند في بقية طريق النجاشي إلى العهد مع طريق الشيخ الطوسي (رحمه الله) فكلا الطريقين إلى عهد الإمام علي (ع) إلى مالك الأشتر موثَّقٌ معتبَر.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- الفهرست -الشيخ الطوسي- ص85.

2- فهرست أسماء مصنفي الشيعة -النجاشي- ص383.

3- الفهرست -الشيخ الطوسي- ص237.

4- الفهرست -الشيخ الطوسي- ص168.

5- فهرست أسماء مصنفي الشيعة -النجاشي- ص438.

6- فهرست أسماء مصنفي الشيعة -النجاشي- ص61.

7- رجال الطوسي -الشيخ الطوسي- ص385.

8- تفسير القمي -علي بن ابراهيم القمي- ج2 / ص346.

9- خلاصة الأقوال -العلامة الحلي- ص338.

10- رجال الكشي -محمد بن عمر الكشي- ص687.

11- فهرست أسماء مصنفي الشيعة -للنجاشي- ص52.

12- رجال الطوسي -الشيخ الطوسي- ص115.

13- فهرست أسماء مصنفي الشيعة -النجاشي- ص178.

14- الفهرست -الشيخ الطوسي- ص85.

15- فهرست أسماء مصنفي الشيعة -النجاشي- ص8.

16- فهرست أسماء مصنفي الشيعة -النجاشي- ص8.

17- فهرست أسماء مصنفي الشيعة -النجاشي- ص85.

18- فهرست أسماء مصنفي الشيعة -النجاشي- ص379.

19- الفهرست -الشيخ الطوسي- ص217.