سبعة من الاستهزاء بالنفس

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وخاتم النبيِّين حبيبِ إله العالمين أبي القاسم محمد وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

 

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وأفتح علينا أبواب رحمتك، وأنشر علينا خزائن علومك.

 

نبارك لكم أيها الأخوة الأعزاء ذكرى مولد الإمام أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وهو واحدٌ من الأصفياء الأولياء الذين انتجبهم الله واختارهم وخصَّهم دون عباده بالحظوةِ عنده وجعلهم الأدلاء عليه عند خلقه، نستثمر هذه المناسبة العظيمة لنقف على شيءٍ من غرر حكمه (ع).

 

رُوي عن الإمام الرضا (ع) انَّه قال: "سبعةُ أشياء بغير سبعةِ أشياء من الاستهزاء: مَن استغفر بلسانه ولم يندم بقلبه فقد استهزأ بنفسه، ومَن سأل الله التوفيقَ ولم يجتهد فقد استهزأ بنفسه، ومن استحزم ولم يحذر فقد استهزأ بنفسه، ومَن سأل الله الجنة ولم يصبر على الشدائد فقد استهزأ بنفسه، ومن تعوَّذ من النار ولم يترك شهواتِ الدنيا فقد استهزأ بنفسه، ومَن ذكر الموت ولم يستعد له فقد استهزأ بنفسه، ومَن ذكر الله ولم يستبِقْ إلى لقائه فقد استهزأ بنفسه"(1).

 

سبعة أشياء من طلب شيئاً منها أو طلبها مجتمعة ولم يأخذ بأسباب تحصيلها فهو كالمُتهكِم بنفسه، الساخر منها، أنْ يسخر منك الآخرون، أن يستهزأ بك الآخرون فذلك يُنتظر من السفهاء منهم، وينتظر من المستكِّبرين منهم، المستكبرُ والسفيه هما مَن يهزآن بالناس، فحينما يهزأُ بك آخر فذلك متوقَّعٌ منه إذا كان سفيهاً، ضعيف العقل، أو كان جباراً، أو كان مستكبراً متعالياً يرى انَّ لنفسه ما ليس لغيره وأنَّه أعلى رتبةً من سائر الناس وأرفع قدراً منهم، فهذا هو مَن يسخر من الناس، وأنت تنتظر وتتوقع من مثل هؤلاء أن يسخروا منك، أما أنْ يسخر الإنسان بنفسه فذلك ما لا يمكن تصوره بدْواً، إذ أنَّ الإنسان يُحبُّ ذاته ويحرص على أن تكون في الموقع الأعلى وفي الموضع الأفضل ويحرص على أن يكون مقدَّراً محترماً، فكيف يجعل من نفسه محلاً للإستهزاء، ذلك قد لا يُتصور ولكنَّه يقع كثيراً كما أفاد الإمام (ع)، أنت الذي تغضب شديداً عندما يسخر منك الآخرون، وينتابُك غيظٌ وغضبٌ، وتظلُّ مهموماً مغموماً عندما يسخر منك الآخرون لموقفٍ عابرٍ هنا أو لأمرٍ طرأ هناك، لكنَّه يترك أثراً سيئاً على قلبك أياماً طوالاً وقد يؤرقك في الليل ويقضُّ مضجعك لأنَّه قد استُهزأ بك، وربما عن غير قصد أو ربما كان المستهزء سفيهاً أحمقاً لا يستحق أن يُعتنى بقوله أو أن يُعبأَ به، ورغم ذلك تتأذَّى وينتابُك الهمُّ والغم، والحال أنَّك في كلِّ ساعةٍ تسخر من نفسك وتهزأ بها وتُحقِّرها وتستصغرها نتيجة ممارستك لبعض الأمور المزدوجة في الواقع.

 

أولاً: يسخر من نفسه من استغفر ولم يندم:

الإمام (ع) يذكر سبعة أشياء، فيذكر أولاً المستغفِر الذي يقول: استغفر الله، وقد يستغفر في اليوم والليلة سبعين مرة، وقد يكون استغفاره بلسانه أكثر من ذلك ولكنَّه في ذات الوقت الذي يستغفر فيه ربَّه لا يستشعر الندم على ذنبٍ ارتكبه، بل هو يشتاقُ ذلك الذنب ولو أُتيح له أن يرتكبه مرةً أُخرى لما تردَّد في ارتكابه وهو في ذات الوقت يستغفر، هذا مستهزأ، هذا غير جاد، لأنَّ الجاد هو الذي يفعل الشيء بصدق، وإذا كان طالباً لشيء يطلبه بصدق وعن قصدٍ وعقدِ عزم، وأما إذا كان يتلفظ بطلب الشي وهو لا يريده واقعاً، ويقول: ليتني وهو لا يتمنَّى، فهذا ساخرٌ مستهزأ، فلو قال: ليتني مع هؤلاء العبَّاد وأساساً هو لا يستشعر الشوق لذلك، أويقول: ليتني أذهب للحج وهو لا يستشعر الشوق للحج، فهذا ساخر ومستهزأ، لأنَّ الجاد هو مَن يكون لفظه مطابقاً للواقع الذي انطوتْ عليه نفسه وإلا فهو غير جادٍ، ولذلك فالمستغفِر الذي يقول: "أستغفر الله، أستغفر الله" وهو غير نادمٍ على ذنبٍ ارتكبه ليس صادقاً ولا جادَّاً في إستغفاره وإنَّما هو مستهزئ، وإستهزاؤه ليس بربِّه وإنْ كان ظاهر الحال هو انَّه مستهزءٌ بربِّه، لأنَّه حينما يستغفر وهو غير مستشعرٍ للندم على ما ارتكبه من ذنب فهو غير مكترث بوعيد الله تعالى ولا هو محاذرٌ من سخطه، فهو بهذا اللحاظ مستهزءٌ بربِّه إلا انَّه لما كان هذا التهاون وهذا الإستهزاء يعود بالضرر على المستهزء نفسه ولا يضر اللهَ جلَّ وعلا من إستهزائه شيء لذلك كان واقع هذا الإستهزاء هو انَّه أستهزاءٌ بالنفس.

 

منشأ عدِّ استغفار غير النادم استهزاء:

وأما لماذا یعدُّ الاستغفار عن غير ندم من الإستهزاء فلأنَّ حقيقة الاستغفار هو الندم، والندم هو الشعور بالألم والحسرة على فعل شيء، فأنْ تندم على أنَّك فعلتَ شيئاً فهذا مساوقٌ للتألُّم واستشعار الحسرة، وتمنِّي ان الفعل لم يكن قد صدر منه، فالنفس الواجدة للندم يُساورها الغم والهم ومقت الذات، ذلك هو الندم، فلو وجد الإنسان نفسه يستغفر ولكنَّه لو خطر ذلك الذنب الذي ارتكبه في قلبه فإنَّه لا يجد نفسه مستشعره للحسرة والألم لأنَّه كان قد ارتكبه فهذا غير نادم ولذلك فهو مستهزء، وأسوأ من هذا مَن إذا خطر الذنب الذي إرتكبه في قلبه إستشعر الأنس وعدم المحاذرة من ارتكابه ولو اتَّفق ان أُتيح له فعله مرة أخرى بل ربما يشتاق إلى فعله، فهذا غير نادم، ولذلك فإنَّ استغفاره لا ينفعه بشيء لأنَّه ساخر، لماذا هو ساخر؟ لأنَّ الإنسان إذا أراد شيئاً ورغب فيه فإنَّه يعمل على تحقيقه أي انَّه يأخذ بالأسباب المنتجة لتحقُّقه، أما إذا طلبه ولم يأخذ بأسباب تحقيقه فهو غير مريدٍ له ولا هوراغبٌ في تحققه واقعاً، وحيث انَّ السبب المُنتج للمغفرة هو الندم على الذنب فطلبُ المغفرة دون ندم طلبٌ للشيء دون الأخذ بأسبابه وهو من الإستهزاء والسخرية،لأنَّه يطلب شيئاً يعلم أنَّه لن يتحقق رغم قدرته على تحقيقه بواسطة الأخذ بأسبابه، فمثل هذا الطلب لا يكون باعثه سوى الاستهزاء والتهكُّم، فمفاد كلام الإمام الرضا (ع) هو انَّ مَن أراد شيئاً فليأخذ بأسبابه، فإنْ أردت التوبة من استغفارك فطريق ذلك هو الندم، ومن استغفر دون أن يندم فقد أخطأ طريق التوبة، لن يتحصل عليها بل ربما يكون استغفاره وهو على هذه الحال سبباً لأن تنزل درجته عند الله عزوجل لأن إستغفاره يعدُّ من السخرية، فأهل البيت (عليهم السلام) أكدوا أنَّ حقيقة التوبة وحقيقة الاستغفار هو الندم والذي هو استشعار الأذى والغم والهم كلَّما تذكر الذنب الذي ارتكبه، لذلك ورد عنهم (عليهم السلام): "الندم توبة"(2)، "كفى بالندم توبة"(3)، فالتوبة ليست هي الاستغفار اللفظي وحسب وإنما هي الندم القلبي على الخطيئة والاستغفار ما هو إلا معبِّر عما في القلب من الندم، الاستغفار باللسان مظهرٌ للندم الذي يكون محلُّه القلب فإذا لم يكن كذلك فهو ليس إستغفاراً يقول (ع): "الندم على الخطيئة استغفار"(4)، يعني حقيقة الاستغفار هو الندم على الخطيئة، فما هي حقيقة الندم على الذنب؟ حقيقته هو الشعور بالحسرة، الألم، وما هو مظهر الحسرة؟ وما هو الشيء الذي يكشف ويُعبِّر عن وجود الحسرة؟ فالجواب ان الذي يعبِّر عن وجود الحسرة هو عدم المعاودة للذنب، فلو وجدت أحداً قال: إني نادم على فعل هذا الشيء ثم عاد إليه، فهذا كاذب، لأنَّه لو كان نادماً لما عاد، فالندم حرقة تستعر في القلب يتمنى معها الواجد لها لو أنَّ ذلك الوقت الذي ارتكب فيه الذنب قد اقُتطع من الوجود وامتحى من الذاكرة أولم يكن قد وُجد، هذا معنى الندم، فإذا تحقق الندم على الذنب بهذا المعنى للعاصي فكيف يعود إليه! فهو إذن غير نادم، وورد عن أهل البيت (عليهم السلام): "التوبة النصوح ما هي؟ قال: الندم على الذنب"(5) هذا هو المورد الأول الذي أفاده الإمام (ع)، فهو يقول بالمعنى أنَّ مَن استغفر بلسانه ولم يندم فقد أخطأ طريق التوبة، فكانَّه يقول الطريق ليس من هنا، فطريق التوبة هو الندم وليس الاستغفار باللسان وحده.

 

ثانياً: طلب التوفيق دون إجتهاد إستهزاءٌ بالنفس:

ثم قال (عليه السلام): "ومَن سأل الله التوفيق ولم يجتهد فقد استهزأ بنفسه".

 

يعني انَّه أخطأ طريق التوفيق، لن يتحصَّل على التوفيق، فمَن يدعو لأنْ يُوفق لرزقٍ واسع وهو لا يجتهد في تحصيل الرزق، فدعاؤه لاغٍ لا قيمة له ولن يُسمع منه، ومن سأل الله عزوجل أن يوفقه للحصول على كسبٍ وعمل ثم هو لا يجتهد في تحصيل هذا الكسب فهذا كالساخر من نفسه، ومَن سأل الله علماً وافراً وهو نوامةٌ كسول يبحث عن الرخاء والخلود للراحة فقد أخطأ طريق العلم، فالعلم يتطلَّبُ بذلَ مشقةٍ وعناءٍ ومكابدة، ولا يتحقق إلا بالدأب على التأمُّل، والتدبُّر، والتفكر، والأرق في الليل، والعناء في النهار لتحصيل العلم، وقطع للعلائق، كلُّ ذلك لا يفعله وهو يريد أن يكون عالماً، أخطأت الطريق يا حجي، أخطأت الطريق، أدع ليل نهار لن يُستجاب لك، فالإمام يقول انَّه لن يستجاب لك، من أراد التوفيق وسأل الله التوفيق في أيِّ شيء ثم لم يجتهد ولم يأخذ بأسباب التوفيق كلٌ بحسبه فقد استهزأ بنفسه، لأنه جعل من نفسه لنفسه أضحوكة.

 

ثالثاً: يسخرُ من نفسه من إستحزم ولم يحذر:

ثم قال (ع): "من استحزم ولم يحذر فقد استهزأ بنفسه"، استحزم يعني أراد لنفسه أن يكون عاقلاً، فالحازم هو العاقل، والحزم هو العقل، فمن أراد أن يتزيَّا بزي العقلاء ويأخذ لنفسه سمت العقلاء فيكون صاحب رأيٍ وصاحب مشورةٍ، ثم لم يحذر فقد استهزأ بنفسه، فالإمام (ع) أراد القول إنَّ أساس العقل هو المحاذرة، وليس من عاقلٍ يصح أن تصفه بالعاقل وهو قليل المحاذرة.

 

الحزم هو الوقوف عند الشبهة:

لذلك ورد عن أهل البيت (عليهم السلام): "أصل الحزم الوقوف عند الشبهة"(6) ومعنى ذلك هو انَّ أساس العقل هو عدم الإقدام على شيءٍ يشوبه الغموض والتشويش فلا تجد عاقلاً يقتحم طريقاً وهو يحتمل انَّ في سلوكه وقوعاً في مهلكة أو محذور فإنَّ أحداً لا يُقدم على ذلك ثم يراه العقلاء عاقلاً ذلك لأنَّ مقتضى التعقل في مثل هذا الفرض هو إما البحث عن طريقٍ آخر غير مشوب بهذا الإحتمال أو التثبُّت لو كان محتاجا لسلوك هذا الطريق فإنْ وجد بعد التثبُّت انَّ هذا الطريق سالك ولا محذور في عبوره سلكه وإلا بحث عن طريق آخر.

 

فأصل الحزم هو الوقوف عند الشبهة في كلِّ الشؤونات، سواءً المرتبط منها بشؤون الحياة أو المرتبط منها بشؤون الدين، فالوقوف عند الشبهة فيما يرتبط بالدين معناه أنَّ المكلف إذا شك في أنَّ شيئاً محرمٌ أو محلل فإنَّه لا يقدم حتى يتثبَّت من حليَّته، فلا يقول إنِّي أعلم انَّه حرام فلا بأس من فعله، إذن أنت لست ممَّن يقف عند الشبهة وحتماً ستقع يوماً ما في المحرَّم الواقعي كما أفاد أهل البيت (عليهم السلام): "من حام حول الحمى كاد أن يقع فيه"(7)، فلو انَّ ثمة حفرةً كبيرة وعميقة وأخذ رجلٌ يحوم حولها، ويحوم ويحوم، فإنَّه سيسقط فيها حتماً في نهاية الأمر، فهل من التعقل أن تظلَّ تحوم حول الحفرة والطريق عندك واسع!

 

إذن فمعنى الحزم هو العقل، والعقل يقتضي المحاذرة والمحاذرة لا تتناسب مع إقتحام الشبهات.

 

ليس العقل هو الذكاء

ليس العقل هو الذكاء أيَّها الأخوة، ثمة فرقٌ بين الذكاء والعقل، قد تجد مجنوناً ذكيَّاً، بل وحادَّ الذكاء، يتمكن من حلِّ عويصات المسائل الرياضية بيسر ولكنَّه لا يتمكن من تدبير أبسط شؤوناته، فمثل هذا ذكيٌّ ولكنَّه ليس بعاقل.

 

كثيراً ما يتفق الوقوف على أشحاصٍ من أصحاب الدرجات العالية في تحصيلاتهم العلميَّة في الرياضيات وفي غيرها من العلوم التي تسترعي مستوىً عالياً من الذكاء فنجدهم يتفوقون في هذه العلوم ولكن نجدهم في ذات الوقت من أكثر الناس فشلاً في تدبير شؤوناتهم الحياتية فمثل هؤلاء أذكياء ولكنهم ليسوا عقلاء.

 

من هو العاقل؟

العاقل هو الذي ينظر كما أفاد أهل البيت (عليهم السلام) إلى عواقب الأمور، أي لا يكون ممَّن لايتعدَّى نظره أرنبة أنفه وإذا تعدَّاه فهو لا يُجاوز مدَّ بصره، فالعاقل ليس كذلك، العاقل هو مَن يُقلِّب الأمور ظهراً لبطن وُيوازن بينها ويكون دائم الملاحظة والترقب والمحاذرة، وإذا أراد أن يفعل شيئاً نظر أولاً فيما هي الآثار التي سوف تترتب عن هذا الفعل؟ وما هي المضاعفات؟ وما هي المساوئ؟ وما هي المنافع التي سوف تترتَّب على هذا الفعل؟ بعد ذلك يُوازن بينها، وحينذاك يتقرَّر عنده الإقدام أو الإحجام أو البحث عن خيارٍ أفضل، هذا هو العاقل، أما الذي إذا همَّ بشيءٍ بادر إلى فعله دون تأمل وتروِّي، وإذا أحب شيئاً صرف كل مجهوده ومايملك في سبيل تحصيله وربما كان ذلك الشيء المحبوب هو منشأٌ لهلاكه أو لسقوطه في مأزق لا يتيسَّر له الخروج منه، فمثل هذا الرجل ليس عاقلاً، أوهو ضعيف العقل، تلوح إليه مصلحة فلا يتأمل في أنَّها متاحة أو متعسِّرة، فليس كل مرغوب يمكن تحصيله وقد يكون تحصيله ممكناً ولكنه لا يستحق الجهد المبذول فالعاقل إذا وجد ذلك الشيء المرغوب غير قابل للتحقُّق أو انَّ الجهد الذي سيبذل من أجل تحقيقه غير مستحق او فيه محاذير تفوق مستوى المصلحة الناشئة عن تحصيله فإنَّه لا يقدم وهذا هو الحزم.

 

فالحازم هو من ينظر -كما أفاد أهل البيت (عليهم السلام)- في العواقب، النظر في العواقب هو الذي سيعصمه كثيراً من الوقوع في الكثير من الأخطاء، أما الذي لا يتأمل في عواقب هذا الأمر المطلوب ولمرغوب فيقدم غير عابئٍ بما سوف يترتب على فعله من آثار، فهذا كثيراً ما سيقع في الخطأ بل وفي المآزق.

 

الحزم حفظ التجربة

والحزم بتعريف آخر لأهل البيت (عليهم السلام)، الحزم حفظ التجربة(8)، ما من إنسان يبلغ عمره ثلاثون سنة إلا ومرَّت عليه الكثير من الوقائع والأحداث التي يستطيع الانتفاع بها، وما من أحدٍ يمرُّ عليه من عمره أربعون أو خمسون سنة إلا وكانت التجارب التي صادفها كثيرة، والفرق بين العاقل وبين غير العاقل، أنَّ العاقل ينتفع من كلِّ تجربة صادفته سواءً وقعت له أو لغيره، هذا هو العاقل الحازم، أما غير الحازم فيقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه قبل سنين أو وقع فيه غيره لماذا؟ لأنَّه لم تكن تلك التجربة واعظاً له لقلَّة وعيه وضعف مداركه، إذ لو كان عاقلاً حازماً لانتفع بما مضى من التجارب، فالعقل الذي هو بمستوى الحزم يكون فيه الواجد له منتفعاً من التجارب التي تصادفه، هذا هو مفاد قولهم (عليهم السلام): "الحزم حفظ التجربة"، فحفظ التجربة ليس بمعنى أن تبقى التجربة في الذاكرة، بل معنى ذلك هو إستخلاص العِبَر من التجربة والتمسك بالمقتضيات المترتبة عنها، هذا هو معنى حفظ التجربة، لا أن تبقى في الذاكرة وحسب، فبقاء التجربة في الذاكرة إنما يكون طريقاً للإنتفاع بها، فتكون رادعة في بعض الحالات، وتكون باعثة في حالاتٍ أخرى، فهذا هو الحزم والذي يستحزم ولم ينتفع من التجربة فقد استهزأ بنفسه لأنَّه لم يحاذر، والمحاذرة هو معنى آخر لحفظ التجربة الذي أفاده الإمام الرضا(ع) فمن استحزم ولم ينظر في العواقب فهذا ممن استهزأ بنفسه.

 

الحازم من حنَّكته التجارب وهذَّبته النوائب

وأفاد الإمام (ع) في موردٍ آخر: "الحازم من حنَّكته التجارب"(9).

 

أي روضته التجارب كماتروض الدابة بوضع الرسن في حنكها وهو الفك الأسفل "وهذَّبته النوائب"(10)، التهذيب معناه إزاله الشوائب التي تكون عالقة في الشيء، فتهذيب العصا مثلاً معناه إزالة الشوائب والأشواك والنتوؤات التي عليها حتى تُصبح صقيلة، وتهذبب الذهب يعني تصفيته مما علق به من المعادن الأخرى والأخباث، وهكذا هو معنى التهذيب للحديد فهو يعني التصفية له من الأخباث والمعادن الأخرى التي تضرُّ به أو بجودته أو بصلابته، والتهذيب للعصا يكون بالسكين أو الأدوات الحادَّة، والتهذيب للذهب والحديد يكون بالنار، وأما تهذيب العقل فيكون بالنوائب والإبتلاءات، والعاقل هو الذي تكون النوائب قد أنتجت تهذيبه وصارت وسيلة لإزالة الأخطاء والنقائص العالقة بشخصيته، هذا هو العاقل، وهذا هو الحازم، ف"الحازم هو الذي حنَّكته التجارب وهذَّبته النوائب".

 

فالنوائب تكون بالنسبة للبعض سبباً لانهياره وسقوطه وتدمير نفسيته وصيرورته من ذوي الأمراض النفسيَّة أو العقلية بل قد تكون سبباً لنهاية وجوده إلا انَّ هذه النوائب ذاتها تكون لآخرين سبباً لصقلهم وتقويمهم وصيرورتهم رجالاً أشداء أقوياء أسوياء ومن أصحاب البصائر والعزائم الثابتة والملكات الراسخة، فلذلك لا ينظر مثل هؤلاء إلى النائبة على أنَّها شرٌّ بل يجدونها وسيلةً لتكامل النفس والعقل، هؤلاء هم العقلاء، إذن فمفاد كلام الإمام (ع) هو أنَّ عندنا حزماً وعندنا عقلاً، والحزم مرتبةٌ عالية من العقل، ومن أراد أن يستحزم يعني أن يكون واجداً لهذه المرتبة فلم يكن واجداً للحذر في كلِّ شؤوناته فهو ممَّن استهزأ بنفسه.

 

رابعاً: الجنة والصبر على الشدائد:

ثم إنَّ الإمام (ع) قال: "ومَن سأل الله الجنة ولم يصبر على الشدائد فقد استهزأ بنفسه".

 

هذه الفقرة تُعبِّر عن أنَّ أقرب الطرق إلى الجنة هو الصبر على الشدائد، فالطرق إلى الجنة وأبوابها كثر لكنَّ أقرب الطرق وأوسع الأبواب التي يمكن الولوج منها والوصول من خلالها إلى الجنة هو الصبر على الشدائد، ما من أحد إلا وسيُبتلي بالشدائد شاء أو أبى فكلٌ منا يُبتلى بالشدائد رغماً عن أنفه، فالعاقل يبتلى والأحمق يبتلى، المؤمن يبتلى وغير المؤمن يبتلى، ولكن المؤمن العاقل يستثمر الشدائد فيجعل منها طريقاً إلى الجنة بأنْ يصبر عليها، فإذا صبر على الشدائد كان ذلك طريقه إلى الجنة، أما الذي يسأل ربَّه الجنة وإذا أصابته مصيبة جزع وتبرَّم وسخط على ربِّه واتَّهمه في عدله ولو بقلبه، فهو يتساءل في نفسه لماذا ياربِّي إبتليتني وعافيت الناس وأفقرتني وأغنيت آخرين وحرمتني من أبي أو امي أو ولدي والناس وادعون ينعمون بوجود آباهم وأولادهم لماذا يقع لي ذلك؟ وماهي الحكمة؟ وهل ذلك من العدل؟ أليس ذلك من الظلم؟ فهو يتساءل في نفسه عن كلِّ ذلك وهو ما يُفقده القدرة على الصبر ويبعث في نفسه السخط وعدم الرضا بقضاء الله وقدره، وذلك من مظاهر الجزع الموجب للخروج من الإيمان، وفي المقابل ثمة اناس إذا أصابته المصيبة صبر وتجلَّد واحتسب واستشعر الرضا بقضاء الله والتسليم لقدره فيكون صبره وسيلةً لدخوله الجنة.

 

خامساً: يسخر من نفسه مَن إاستعاذ من النار ولم يترك الشهوات:

ويقول (ع): "ومن تعوَّذ من النار ولم يترك شهوات الدنيا فقد استهزأ بنفسه" لأنَّه أخطأ الطريق الذي يُجيره من النار، فهو كالذي يستجير من شيءٍ وهو يسعى برجله إليه فهو أحمق، وكذلك الذي يتعوَّذ من النار وهو موغلٌ في اتباع الشهوات المحرمة، فليس من محرمٍ يُتاح له أن يرتكبه وتشتهيه نفسُه إلا وارتكبه غير عابئٍ بحرمته، فهو يبحث عن تحصيل ما تشتهيه نفسه من مالٍ أو جاهٍ أو رغباتٍ نفسيةٍ ثم إذا جلس في الصلاة قال: أعوذ بالله من النار ربنا أصرف عنا عذاب جهنم، إنَّ جهنم لا تنصرف عن مثله وهو مكبٌّ على شهوات الدنيا غير عابئٍ بما يحرم منها وما يحل، "ومن تعوَّذ من النار ولم يترك شهوات الدنيا فقد استهزأ بنفسه".

 

سادساً: الموت والاستعداد له:

ثم قال الإمام (ع): "ومن ذكر الموت ولم يستعد له فقد استهزأ بنفسه".

 

ثمة أشياء يشك الإنسان في أنَّها سوف تُصادفه في المستقبل أو أنها لن تصادفه ورغم يستعدُّ لها خشية انْ تُفاجئه دون ان يكون قادراً على التعاطي معها بما يُناسب مصلحته، لذلكقالوا أنَّ العاقل يضع أمامه أسوأ الاحتمالات ويستعدُّ لها،فهذا هو العاقل؟ والعجيب أنَّ ثمة أمرأ يُصادف كلَّ إنسانٍيقيناً ولعلَّه في المستقبل القريب الذي قد لا يتجاوز الساعة أو الأقل أو الأكثر ورغم ذلك يتغافل عنه ولا يستعدُّ له ألا وهو الموت، فوقوع الموت حتمٌ على كلِّ العباد، فلذلك يُعبَّر عن الموت باليقين، كما في الزيارة المأاثورة "وعبدتَ الله مخلصاً حتى أتاك اليقين" يعني حتى أتاك الموت، لماذا يُعبَّر عن الموت باليقين؟

 

والجواب انَّ الموتسوف يُصادف الإنسان يقيناً، فكثير من الأمور يُحتمل أن تصادف الإنسان ويُحتمل أن تُخطأه فلا تصيبه، وأما الموت فأنَّ كلَّ أحدٍ فهو على يقينٍ بأنَّه سيصادفه ومع ذلك لا يستعدُّ له ومع ان الإنسان يتذكر الموت ويراه وقد خطف العديد ممَّن يعرفهم إلا انَّه رغم ذلك لا يستعدُّ له فهو إذن ساخرٌ ومستهزأٌ بنفسه.

 

سابعاً: ساخرٌ مَن يذكر الله ولا يسعى لرضوانه:

ثم قال (ع): "ومن ذكر الله ولم يستبِقْ إلى لقائه فقد استهزأ بنفسه".

 

إذا أحبَّ أحدنا شيئاً فإنَّه يُكثر من ذكره بسببٍ أو بدون سبب، فهو يبحث عن أيِّ سببٍ حتى يذكر محبوبه بخير ويُثني عليه، ذلك لأنَّه يحبه ولهذا يجد نفسه تنزع إلى ذكره وإطرائه، هكذا هو شأن المحب لربِّه والعاشق له فإنَّه يجد نفسه مولعةً بذكره والثناء عليه والتقديس لساحة قدسه، فهذا الذي يكون كذلك عاشقًا لربِّه فإنَّه يجد نفسه منجذبةً إلى العمل بما يُرضيه لأنَّه يرى انَّ ذلك هو ما يُؤهله للحظوة عند معشوقه والقرب منه، أما حينما تجد أحداً يدَّعي لنفسه انَّه من الذاكرين الله كثيراً ثم هو لا يستبق إلى رضوانه بالأعمال التي يُحبُّها ربُّه فهو كالمستهزئ الساخر من نفسه.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج75 / ص356.

2- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج74 / ص159.

3- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج15 / ص336.

4- مستدرك الوسائل -ميرزا حسين النوري الطبرسي- ج12 / ص118.

5- "سألت النبي (ص) عن التوبة النصوح؟ فقال: هو الندم على الذنب". كنز العمال -المتقي الهندي- ج4 / ص260.

6- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج75 / ص53.

7- "من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه". بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج67 / ص84.

8-عيون الحكم والمواعظ -علي بن محمد الليثي الواسطي- ص23.

9-عيون الحكم والمواعظ -علي بن محمد الليثي الواسطي- ص62.

10-عيون الحكم والمواعظ -علي بن محمد الليثي الواسطي- ص62.