حديث الجمعة: تفسير سورة الماعون (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صلِّ على محمَّد وآل محمَّد الطَّيبين الطَّاهرين

 

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم وأكرمنا بنور الفهم وافتح علينا أبواب رحمتك وانشر علينا خزائن علومك.

 

قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ / فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ / وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾(1)

صدق الله العلي العظيم

 

الآيات التي تلوناها من سورة الماعون وهي من قصار سور القرآن الكريم، وهي بنظر أكثر المفسرين مكية النزول بمعنى أن ظرف نزولها كان في مكة الشريفة.

 

ويمكن تأييد ذلك بقرينتين:

القرينة الأولى: المضامين التي اشتملت عليها السورة المباركة، فقد تصدَّت للحديث عن بعض الآثار السيئة الناشئة عن التكذيب بيوم القيامة، وهذا النحو من المضامين وكما يذكر المفسرون - قد تم التركيز عليه في أوائل الدعوة والتي كان منطلقها مكة المكرمة. ففي أوائل الدعوة غالباً ما يركِّز الخطاب القرآني على الأصول الإعتقادية مثل التوحيد والرسالة والمعاد، وذلك لغرض التعريف بها وتأصيلها والاستدلال على واقعيتها وبيان الآثار المترتبة عليها. ولم يتصدَ الخطاب القرآني في أوائل الدعوة كثيرا إلى الشئون التشريعية في الإسلام.

 

فلأن مضامين السور المباركة مناسبة للمضامين التي عالجها الخطاب القرآني في مكة الشريفة في بداية الدعوة لذلك أمكن القول أن هذه القرينة دليلاً على مكية السورة المباركة.

 

القرينة الثانية: هي ما ورد في سبب نزول هذه السورة المباركة، فقد ورد أنها نزلت في أبي جهل وروي أنه كان وصياً على يتيم فجاءه وهو عريان يسأله شيئاً من ماله فدفعه ولم يعبأ به.

 

وروى ابنُ جريح أنها نزلت في أبي سفيان كان ينحر جزورين في كل أسبوع فأتاه يتيم فسأله لحماً فقرعه بعصاه.

 

فلو تمت هذه الروايات فإنها تكون معبِّرة عن نزول سورة الماعون في مكة المكرمة كما هو واضح.

 

هذا وقد تبنى بعض المفسرين القول بأن نصفها نزل في مكة والنصف الآخر نزل في المدينة المنورة، ونحن هنا لسنا بصدد التحقيق في ذلك.

 

المحور الأول الذي نود أن نبدأ الحديث به هو بيان مفردات الآيات التي تلوناها من السورة المباركة.

 

أولاً: قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ﴾ الخطاب موجَّه للنبي الكريم (ص) باعتباره المتلقي للوحي إلا أن المعنيَّ واقعاً من هذا الخطاب هو كل عاقل، إذ أن مضامين الآيات تستثير في الإنسان عقله لغرض إيقافه على واحدة من الحقائق التي لا ينبغي لعاقل أن يُغفلها أو يتعالى عليها.

 

وأما المراد من الرؤية فقد قيل أنها بمعنى الرؤية البصرية، وثمة معنىً آخر للرؤية وهو المعرفة، وهذا المعنى هو الأنسب بظاهر الآية المباركة ولمساقها وموضوعها.

 

وأما المراد من التكذيب فهو يحتمل أحد معنيين:

المعنى الأول: التكذيب الإعتقادي بمعنى الإنكار والجحود، فإذا كان المراد من لفظ (الدين) في السورة المباركة هو يوم المعاد كما رجَّح ذلك الكثير من المفسرين، فإن معنى التكذيب الإعتقادي هو الإنكار ليوم القيامة. وعليه يكون معنى الآية المباركة هو أن من الآثار المترتبة على إنكار يوم المعاد هو دعُّ اليتيم، فلأن المؤمن بيوم المعاد يخشى من العقوبة المترتبة على ظلم اليتيم لذلك فهو لا يقدم على ظلمه والإساءة إليه وأما غير المعتقد بيوم المعاد فلا يحجزه شيء عن الظلم والإساءة لليتيم، لذلك فهو يدعُّ اليتيم بلا وازع ولا رادع.

 

ثم إن التكذيب الاعتقادي مساوق للكفر، وذلك لأن الإيمان بيوم المعاد من الأصول الاعتقادية المقتضي إنكارها الإنكار لرسالة الرسول الأعظم (ص) فالإنكار للمعاد تكذيب للرسول والقرآن، وتكذيب الرسول إنكار للرسالة وهو الكفر.

 

المعنى الثاني: التكذيب العملي وهو بمعنى ممارسة ما يناسب عدم الإيمان بيوم المعاد، فالإنسان قلباً وعقلاً قد يؤمن بيوم المعاد إلا أن هذا الإيمان لا ينعكس على سلوكه فهو يقرُّ ويذعن بيوم المعاد إلا أن سلوكه سلوك من ينكره ويجحد بوقوعه، إذ أنَّ المنتظَر ممن يؤمن بيوم المعاد والحساب أن لا يرتكب الذنوب خصوصًا الكبيرة التي وعد الله مرتكبها بالنار والعقاب، والإنسان بطبعه يخشى الوقوع في العقوبة فإذا كان يرتكب الذنوب فكأنَّه لا يؤمن بترتُّب العقوبة على المعصية أي كأنَّه منكر ليوم المعاد والذي يحاسب فيه الإنسان على ما ارتكب من ذنوب، فلو كان يؤمن بيوم المعاد إيمانًا حقيقيًا فإن ذلك سيقتضي منه الاحتياط وعدم ارتكاب ما يؤدي إلى استحقاقه للعقوبة يوم القيامة.

 

وأما المراد من (الدين) فقد ذكر أكثر المفسرين أنه يوم القيامة، وقد استعمل القرآن هذا اللفظ في القيامة في موارد عديدة كما في قوله تعالى (الذين يؤمنون بيوم الدين).

 

وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد من لفظ الدين في الآية المباركة هو الإسلام بقرينة قوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام).

 

وعلى أية حال فبناءً على المعنى الثاني يكون المراد من الآية المباركة هو أنه لا يكون الإنسان مؤمنًا بالإسلام وهو يدعُّ اليتيم ولا يحضُّ على طعام المسكين، إذ أن من أهم فروض الإسلام هو عدم الظلم والإساءة لليتيم ولزوم إعطاء المسكين حقه.

 

ومعنى الدع هو الرد بعنف وجفاء، فدعُّ اليتيم معناه تعنيفه وزجره وقد ورد أن المراد منه مطلق الظلم وإن الرد بعنف ما هو إلا نظهر من مظاهر الظلم لليتيم.

 

والمراد من اليتيم هو من فقد أباه وهو في سن الصبى.

 

وهنا نودّ أن نقف قليلاً:

الملاحَظ اهتمام الإسلام البالغ في هذه الشريحة الاجتماعية أعني اليتامى، فقد تصدّى القرآن الكريم كثيرًا للنهي عن أكل مال اليتامى ظلمًا وأفاد أن من يأكلون أموال اليتامى إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا، وتصدَّى القرآن وكذلك السنة الشريفة لبيان حقوق اليتيم كحقه في الميراث والحضانة والتربية والرعاية وأكّد أن له ذمة مالية كما لغيره من الشرائح الاجتماعية. تُرى ما هو منشأ هذا الاهتمام؟

 

أرى أنَّ ذلك ناشئًا عن أمرين ولعلَّ ثمَّة مناشئ أخرى:

المنشأ الأول: هو أنَّ الإسلام لمَّا كان دين الفطرة فهو ينطلق في أحكامه وتشريعاته من وحي ومقتضيات الفطرة.

ولأنَّ الظلم مستبشع ومستقبح بمقتضى الفطرة ولأنَّه كلما كان المظلوم أشدُّ ضعفًا كلما كان ظلمه أشدُّ قبحًا لذلك اهتمَّ الإسلام بالطفل اهتمامًا ملفتًا.

 

فاليتيم الذي فقد أباه الذي يرعاه ويكنفه ويحنو عليه ويدفع عنه الآفات ويبذل كلّ ما في وسعه لأجل حمايته وحماية حقوقه، هذا اليتيم الذي يكون في عمر الصبا لا يقوى على الدفاع عن نفسه وحقوقه، فهو في الوقت الذي يعيش فراغًا عاطفيًا قد يجد من يبتزُّ حقوقه بل قد يجد من يؤذيه ويُسيء إليه لذلك استرعى اهتمامًا لافتًا من الإسلام فأوصى بأن يرعى المسلمون حقوقه ومشاعره وأن يبالغوا في العطف عليه والرأفة به تعويضًا له عن العطف والحنان الذي فقده بفقد أبيه.

 

وقد سطَّر أهل البيت (عليهم السلام) أروع المشاهد في ذلك، فقد أُثر عنهم الاهتمام الشديد بهذه الشريحة من المجتمع حتى أنَّ علي بن أبي طالب (ع) كان يكنى بأبي اليتامى لشدة رعايته لهم واهتمامه بشؤونهم.

 

ونذكر لذلك مشهدًا من التاريخ:

(في أحد يوميَّات صفين نمى إلى مسامع علي بن أبي طالب (ع) أنَّ عمّار بن ياسر قد استُشهد فكان المُنتظَر من أمير المؤمنين (ع) أن يبادر لتأبين عمَّار والدعوة إلى تجهيزه وتشييعه تشييعًا متميِّزًا إلا أن ما استرعى نظر المحيطين به هو ما سمعوه منه حين بادر للسؤال طفلة عن صغيرة كانت لعمَّار بن ياسر، سأل عنها وطلب إحضارها وأجلسها في حجره وأخذ يمسح على ناصيتها ودموعه تسيل على شيبته وهو يقول:

 

وما تأوهت في شيء رُزيتُ به كما تأوهتُ للأيتام في الصغــر

قد مات والدُهم منْ كان يكفلُهم في النائبات وفي الأسفار والحضر

 

المنشأ الثاني:

هو أنَّ الإسلام أراد من هذا الاهتمام القضاء على ظاهرة اجتماعيَّة كانت سائدة في الأوساط الجاهلية فأراد استبدالها بظاهرة وثقافة جديدة تتناغم مع فطرة الإنسان.

 

كان العرب في الجاهلية يُسيئون للأيتام والنساء ويستضعفونهم، فقد كانوا لا يرون للطفل والمرأة حقًّا في الميراث مثلاً، ويقولون (إنَّما يحوز المال من يطعن بالسنان ويضرب بالحسام).

 

جاء الإسلام ليلغي هذه الثَّقافة ويؤكد استحقاق اليتيم لميراث والده وسائر قرابته وإنَّ ضعفه لا يُبرِّر حرمانه من حقوقه، وإنَّ الحقوق لا تكون على أساس القوة والقدرة.

 

وهكذا الحال بالنسبة للمرأة فهي تستحق ميراث والدها وزوجها وسائر أقاربها كما أن لها الحق في تملك وأن تتصرف في ممتلكاتها كيفما شاءت، قال تعالى: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ﴾(2).

 

أقول إنَّ حرمان المرأة من الميراث والتملُّك لم يكن خاصا بعرب الجاهلية، فقد كانت الحضارة الرومانية كذلك تحرم المرأة من حقها في التملُّك والميراث، والقانون الروماني الذي يتفاخر به الغرب لم يلغ هذا الإجراء الظَّالم إلا في مرحة متأخرة، فقد كان ينصُّ على عدم وجود ذمَّة مالية للمرأة وإنَّها تابعة لأبيها ثم لزوجها.

 

أمَّا الإسلام فليس كذلك فقد نصَّ على حقوق المرأة والطفل، فهو لا يعيش فراغا كما يتوهمون من جهة التشريعات المتصلة بأحوال الأسرة كما أنه لم يشرِّع ما فيه حيف وظلم حتَّى نسعى لاستيراد تشريعات وقوانين ترتبط بأحوال الأسرة ممن هم بحاجة إلى الإسلام وتشريعاته، ولو أنهم أنصفونا لعرفوا أنهم في أشدِّ الحاجة إلى ما جاء به الإسلام من تشريعات وقوانين في مختلف الأصعدة والميادين.

 

نستكمل الحديث فيما بعد.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

الجمعة 20 محرم 1428هـ


1- سورة الماعون / 1-3.

2- سورة النساء / 32.