أذيَّةُ المشركين للرسول (ص)

 

أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وخاتم النبيين حبيب اله العالمين أبي القاسم محمد وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

 

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم وأكرمنا بنور الفهم وافتح علينا أبواب رحمتك وانشر علينا خزائن علومك.

 

قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:

 بسم الله الرحمن الرحيم

﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ / مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ / سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ / وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ / فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ﴾(1)

صدق الله مولانا العلي العظيم

 

إيذاء أبي لهب وزوجته للنبي (ص):

هذه السورة المباركة تُلقي ضوءً على مشهدٍ من مشاهد المعاناة التي كابدها رسولُ الله (ص) في صدر الدعوة من مشركي قريش، فأبو لهب كان من حيثُ النسب عمَّاً للنبيِّ (ص) إلا أنَّه كان شديد الأذى للرسول الكريم (ص) فكان من أشدِّ مشركي قريش على رسول الله (ص) وعلى دعوته، فكان يُجاهر بتكذيب الرسول (ص)، وكان يُجاهر بشتمه، وكان يُجاهر بتسفيه ما يُلقيه الرسول (ص) من آياتٍ ووصايا وإرشاداتٍ ومواعظ، وكان حينما يخرج الرسول (ص) الى الوفود الذين يفدون إلى مكة في الموسم كان يمشي خلفه أو يحضر المحفل الذي يقصده الرسول (ص) فإذا دعاهم الى الدين والى نبذ الشرك، ونبذ عبادة الأصنام، وترك الفواحش، والالتزام بمكارم الأخلاق، كان يقول: إنَّ هذا الفتى ابنُ أخي وهو مجنون لا تسمعوا لقوله، ولا تقبلوا حديثه، فكان كثيرَ الأذى للرسول الكريم (ص) وكانت امرأتُه أمُّ جميل -أخت أبي سفيان- تتعمَّد وضع الأشواك والقذارات في طريق النبيِّ (ص)، فكان أبو لهب وامرأتُه من أشدِّ الناس على رسول الله (ص)، وقد نزلتْ هذه السورة المباركة لتعبِّر عن مستوىً محدود من المعاناة التي كابدها النبيُّ (ص) من قومه.

 

تظافرُ قريش على أذية الرسول (ص):

لم يكن الأمر مقتصراً على أبي لهب، فأبو لهبٍ كان واحداً من مشركي قريش ممَّن كان يُؤذي النبيَّ (ص)، فالأغلبيَّة الساحقة من رجال قريش كانوا قد تظافروا وتألَّبوا واستنفروا وبذلوا قصارى جهدهم من أجل إجهاض الدعوة ووأدها، فاستفرغوا ما بوسعهم في التخطيط والكيد والمكر من أجل أنْ يحولوا بين الرسول (ص) وبين ما يدعو إليه ومن أجل أنْ يمنعوا الناس من أنْ يقبلوا بدعوة الرسول الكريم (ص)، فتوسَّلوا بشتى الوسائل، لذلك بعد أنْ أعيتهم الحجَّة، وبعد أنْ ذهب كبراؤهم، ووجهاؤهم، وعقلاؤهم، وفصحاؤهم للرسول (ص) مرَّاتٍ ومرَّات يجادلونه لعلَّهم يتمكَّون من التفنيد لدعوته بما يرونه برهاناً فما استطاعوا، فما جاءوه بحجَّة إلا وجاءهم بما يدمغُها، وما طلبوا منه برهاناً على شيءٍ إلا ووجدوه كفلق الصبح في وضوحه، فكانوا يبعثون رسلاً منهم إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلى الشام والى يثرب والى نجران، فيطلبون منهم أنْ يُمدُّوهم بالحجج وبالأسئلة التي لعلَّها تُفحم هذا الرسول الذي يدَّعي الوحي من الله تعالى، فيُرفدونهم بالحُجج التي يتوَّهمون أنَّها دامغة وقادرة على إفحام الرسول (ص)، فيجيئون مستبشرين يحملون في جعبتهم تلك الحجج والتي هي في نظرهم من المعضلاتٌ العصيَّة على الجواب، فكانوا يحملون إليه أسئلة عن أخبار الماضين وعن مستقبل الأيام وعن شئوناتٍ ترتبط بأحوال الناس وديانات الأمم، فيجدون النبيَّ (ص) حاضر الجواب فيرجعون خاسئين.

 

تنوُّعُ وسائل الضغط على الرسول (ص):

لمَّا وجدوا أنَّ هذه الوسيلة غير ناجعة ولم تُفلح في توهين رسول الله (ص) واضعافه كما لم تُفلح في صدِّ الناس عن دعوته توسَّلوا بوسيلةٍ أخرى وهي الإغراء لرسول الله (ص) فعرضوا عليه ما لا يُعرض على عاقلٍ يُحبُّ الدنيا إلا استجاب مغتبطاً، عرضوا عليه المال والجاه والملك، وعرضوا عليه بناتهم، وقالوا: اختر من شئت منهنَّ نُزوجك إياها، واختر من نفائس أموالنا ما تشاء، وإنْ أردت سيادةً سوَّدناك علينا، وإنْ أردتَ أنْ نزوجك مَن تشاء من بنات العرب سعينا في تزويجك منها، وإنْ أردتَ جاها فأنت ذو الجاه، فما شئت فخذ ودعنا على ديننا، لكنَّه كان لا يعبأُ بعروضهم، جاءوه بعد ذلك بعرضٍ آخر وصفوه بأنَّه نصَفٌ بينه وبينهم، قالوا له تعبدُ آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة فنكون قد أخذنا منك النصَف وأخذت منا النصَف قال ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ / لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾(2) توسلوا بعمِّ رسول الله (ص) أبي طالب (رضوان الله عليه وسلامه وتحياته على روحه) هذا الرجل العظيم الذي ما فتئَ، يُدافع ويُنافحُ ويُناضل بما يملك من جاهٍ وقدرةٍ عن رسول الله (ص)، طلبوا منه أن يأمر ابن أخيه أن يكفَّ عن دعوته مقابل أنْ يعطوه ما يشاء، فقال دونكم محمد، اطلبوا منه، عرضوا عليه فقال (ص): “لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الدين ما تركتُه أو أهلك دونه”.

 

اتِّهامُه بالسحر كان من أخبث وسائل الحرب على الدَّعوة:

فاحتالوا بوسيلةٍ أخرى، فاتَّفقوا على أنْ يسمُّوه الساحر، هذا النعت يُفوِّتُ على الرسول -بنظرهم- القدرة على التأثير لأنَّ كلَّ مَن سيستمع للقرآن فيتأثر من معانيه وايقاعاته سيحتمل انَّه وقع تحت تأثير السحر لذلك فهو لن يُذعن للرسول (ص) وحين يُشاهد ما يظهر على يد الرسول (ص) من الكرامات والمعجزات فإنَّها تُصبح فاقدةً للتأثير لاحتمال أنَّها من السحر، فهذه الوسيلة هي من أخبث الوسائل التي توسَّلوا بها للحيلولة دون تأثير من الرسول (ص) على الناس، إلا أنَّها لم تُفلح أيضاً، فلا النعت له بالساحر ولا بالشاعر ولا بالكاهن ولا بالمجنون منع دون تأثيره وامتداد دعوتِه.

 

السخرية كانت سعياً للتقليل من أثر الدَّعوة:

لذلك توسَّلوا بمضاعفة الإيذاء للرسول الله (ص) وإلإيذاء لمَن آمنَ به من ضعفاء الناس بل ومن وجهائهم أيضا، فكان من إيذائهم للرسول الكريم (ص) أن يعمد صبيانهم إلى رسول الله (ص) فيقف أحدهم عن يمينه وآخر عن شماله وهو يركع ويسجد في مكة الشريفة عند البيت الحرام فيصفِّقان ويصفران ويُضحكان الناس على رسول الله (ص)، فهم توسَّلوا بذلك لإدراكهم انَّ السخرية لها أثرٌ كبير في الحيلولة دون إيمان الناس بفكرة تكون في معرض السخرية والتندُّر، فحين تُقابَل أيُّ دعوة بالاستهزاء والسخرية، فإنَّ ذلك يحول دون تأمُّل الناس في تلك الدعوة بل يتحاشى الناس الإصغاء إليها وإبداء الاهتمام بها حتى لا يكونوا ضمن مَن تشملهم السخرية، فتلك هي الغاية من سخريتهم بالنبيِّ (ص) كان في يومٍ جالساً عند حجر إسماعيل في البيت الحرام فقال أبو جهل عمرو بن هشام لجمعٍ قريش، من يقوم منكم فيأتي بسلى شاة أو جزورٍ كانت قد ذبحت قبل يومٍ أو يومين فيُلقي بها على ظهر محمدٍ ورأسه فقام بعض سفهائهم وحمل تلك الأوساخ والقاذورات وألقاها على ظهر رسول الله (ص) وعلى رأسه، هذه الوسيلة القذرة لو كُتب لها الاستمرار فإنها ستُفضي إلى انْ يتحاشى الكثير من الناس الاستماع للرسول (ص) لذلك ذهب الرسول (ص) إلى أبي طالب فقال له: يا عم كيف حسبي فيكم؟، قال وما ذاك يا ابن أخي؟ ما هذه النبرة ما الذي وقع يابن أخي؟! فقال له: إنَّ الملأ من قريش عمدوا إلى سلى شاة فطرحوها على ثيابي عند الحجر فغضب أبو طالب فتوشح بسيفه ثم قال لحمزة قم يا أبا يعلى وخذ سيفك، فقام الحمزة ومعه السيف فجاءوا إلى الملأ من قريش وهم جالسون وفيهم أبو جهل، فحينما رأوا أبا طالب قد أقبل وفي وجهه الشر قاموا إليه إجلالاً وإكباراً، فقال أبو طالب يا حمزة خذ سلى شاة وامسح بها وجوههم جميعا -وجوه كبار قريش- ومن أبى منهم فاضرب عنقه، فمسح بها وجوههم، ثم قال أبو طالب للنبيِّ (ص): هذا حسبُك فينا يا ابن أخي.

 

الإيذاء المباشر لم يكن ميسوراُ لقريش أيَّام أبي طالب:

لم يكن الإيذاء المباشر للرسول (ص) ميسوراً لقريش لمكان أبي طالب لكنَّها كانت تتحين الفرص.

 

فمن ذلك ما فعله أبو جهل في يومٍ كان فيه رسول الله (ص) يصلي في المسجد الحرام كما هي عادته وكان أبو جهل قد تعهَّد لأصحابه لأنْ جاء محمد (ص) وسجد في هذا اليوم لأطأنَّ عنقه برجلي، وهكذا فعلا انتظر بالنبيِّ (ص) حتى سجد فوضع رجله على عنق رسول الله (ص) حتى كادت عين رسول الله أن تجهظ.

 

وفي موقفٍ آخر كان رسول الله (ص) يصلِّي وكانت معه ابنته فاطمة (ع) وصفها المؤرخون بأنَّها كانت جويرية يعني صغيرة جداً فقام ابن أبي معيط في جمعٍ من قريش كانوا جالسين بفناء الكعبة فألقوا رحم شاة أو رحم جزور على كتفيه وهو ساجد فدعت عليهم فاطمة وهي صغيرة ثم أخذت تمسح الدم والأوساخ عن كتفيه ورسول الله (ص) ساجد لم يرفع رأسه من السجود، وكانوا يتأملون ردة الفعل من الرسول (ص)، وهم يتضاحكون فلما انفتل رسول الله (ص) من صلاته قال: "اللهم عليك قريش" فوجموا لأنَّها المرة الأولى التي يدعو فيها الرسول (ص) على قريش قال: "اللهم عليك الملأ من قريش -أو عليك قريش-، اللهم عليك أبا جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وأمية ابن خلف"(3) دعى على هؤلاء، فوجموا واستشعروا الخشية من أن تُستجاب فيهم دعوة الرسول (ص)، يقول عبد الله بن مسعود راوي هذه الواقعة إنَّ الذين سمَّاهم رسول الله (ص) في دعائه قُتلوا جميعاً يوم بدر وإني وجدتهم يسحبون إلى القليب (بئر) بعد ما قتلوا يقول: إلا أمية بن خلف كان بدينا فطموا جثته بالحجارة وتركوه، فجاء الرسول (ص) ووقف عند القليب فقال: "بئس عشيرة الرجل كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، ثم قال: هل وجدتم ما وعدكم ربُّكم حقا، فقد وجدتُ ما وعدني ربي حقا"(4) دعوات الرسول (ص) على قريش كانت محدودة ولكنها تكون كالسيف القاطع.

 

فمن ذلك ما وقع لرجلٍ من أبناء أبي لهب هذا الرجل كان يُؤذي رسول الله (ص) فقال: "اللهم سلِّط عليه كلباً من كلابك" فحين سافر هذا الرجل ذهب في تجارة إلى الشام مع جمع كبير من قريش، يقول المؤرخون كانوا في طريقهم إلى الشام فنزلوا في موضعٍ من الطريق وخلدوا فيه إلى الراحة والنوم لكن هذا الرجل كان يخشى من دعوة النبي (ص) وقد أخبر أصحابه بأنَّه متوجس ويشعر بالرعب من دعاء النبي (ص) لذلك جعلوه في وسطهم فباغتهم أسدٌ فاختلسه من بينهم ومزَّق لحمه وهم ينظرون كانت دعوات النبي (ص) على مشركي قريش محدودة ولكنَّها كالسيف الصارم عليهم.

 

الحصار كان من أشدِّ الأذى على الرسول (ص):

هذه بعض مشاهد الأذى للرسول الكريم (ص) من قريش، ولعلَّ من أشدِّ الأذى وقعاً على الرسول الكريم من قريش هو ما فرضته من حصارٍ عليه وعلى بني هاشم امتدَّ لأكثر من ثلاث سنين، فبعد أنْ أعيا قريشاً أمر رسول الله (ص) اجتمت كلمتهم ورأيُهم على أن يقتلوا النبي (ص) وليكنْ ما يكون، وحين علم أبو طالب بما اجتمعت عليه كلمة قريش أمر بني هاشم وبني المطلب أن يتركوا بيوتاتهم ويجتمعوا في شِعْبه، وشعبُ أبي طالب كان عبارة عن منحدر يملكه أو يختصُّ به، وكانت حوله جبال والشعب واقع في وسطها، فاجتمع بنو هاشم في ذلك الشعب وأحاطوا بالنبي (ص) من أجل أن يدفعوا عنه كيد قريش، فنظراً لكون الجبال محيطة بالشعب فذلك يُساهم في حماية النبي (ص) لأنَّ مراقبة الموضع سيكون عليهم أيسر وسيكون النبي (ص) تحت النظر بشكل دائم فيأمنوا بذلك من اغتياله، لمَّا وجدت قريش أنَّ قرار أبي طالب قد فوَّت عليهم فرصة اغتيال النبي (ص)، اجتمت كلمتهم دون استثناء على فرض الحصار على بني هاشم فكتبوا صحيفة تعاهدوا فيها على عدم مجالسة بني هاشم وعلى عدم بيعهم والشراء منهم وعلى عدم تزويجهم أو التزوج منهم، وتعاهدوا على أن يمنعوا الناس من القبائل الأخرى-وهذا هو الأشد- من أن يبيعوهم، أو أن يزوجوهم أو يتحالفوا معهم، فكان حصاراً مطبقاً على الهاشميين الذين اجتمعت كلمتهم إما حمية أو تديُّناً على حماية الرسول (ص)، وبعد ان كتبوا الصحيفة وقَّع عليها أربعون رجلاً من زعماء قبائل قريش وعُلِّقت هذه الصحيفة في الكعبة الشريفة، طبعا، كان أثر هذه الصحيفة المشئومة شديداً على بني هاشم وعلى رسول الله (ص) خصوصاً وانَّه كان في بني هاشم صبية صغار ونساء، فكانوا يتضورون جوعا وظمئا، حتى وضع رسول الله (ص) حجر المجاعة على بطنه، فكان بعض الهاشميين يتسللون من أجل أن يشتروا شيئا يقتات منه النساء والصبية، وكان رجل الإسلام الأكبر منذ صدر الدعوة عليُّ بن أبي طالب هو الذي كان يتسلل كما يذكر المؤرخون كأبي جعفر الاسكافي وغيره، يقول: كان علياً (ع) يخرج متسللا ولو ظفروا به لقتلوه، يبحثُ لرسول الله (ص) ولبني هاشم عن الطعام فقد يأتي لهم بشاة وفي بعض الأحيان لا يجد سوى أوراق الشجر يحملها إليهم، وقد يجد رجلاً يشتري منه شيئاُ من طعام فقد كانت لديهم أموال ولكن لم يكن يجرء من أحدٍ على بيعهم.

 

حرصُ أبي طالب ونجله (ع) على حياة الرسول (ص):

استمرَّ الهاشميون تحت وطأة الحصار ثلاث سنوات على أقلِّ تقدير، فكان أبو طالب في كلِّ ليلةٍ يموِّه على المتلصِّصين موقع منام النبيِّ (ص) فبعد أن يأخذ النبيُّ (ص) مضجعه ويمضي من الليل هزيعٌ يقول لعليٍّ (ع): قم يا بني ونَمْ على فراش ابن عمك ثم يأخذ النبيَّ (ص) إلى موضعٍ آخر، كلُّ ذلك للتمويه على قريش فكان يقول لعليٍّ نمْ على فراش ابن عمك حتى إذا طاش سهمٌ يقع في قلبك أو نحرك ولا يقع في قلب محمد (ص)، هكذا كان حرص أبي طالب ونجله (ع) على حياة رسول الله (ص).

 

وقائع سفر الرسول (ص) إلى الطائف:

انفكَّ الحصار لقضيةٍ لا مجال لعرضها الآن، وبعد فكِّ الحصار بشهرين رحل أبو طالب إلى ربِّه فاشتدَّ أذى قريش على رسول الله (ص)، فكان يتخفى منهم ويلتقي بالناس خلسةً وخفية، ثم قرر أن يذهب إلى ثقيف في الطائف، فخرج إلى الطائف وهناك ذهب إلى ثلاثة إخوة هم زعماء ثقيف من بني عمرو هم مسعود، وياليل، والثالث الحارث عرض على هؤلاء الثلاثة أمر الإسلام ثم أخبرهم بأذى قريش له، لعله يجد فيهم من يتبنَّى حمايته لكنَّ أحدهم لم يقبل بدعوته ولا حمايته بل أخذوا يسخرون منه، حتى قال له أحدُهم: أسرق أستار الكعبة لو كنتَ صادقاً، فحين يأس النبيُّ (ص) من استجابتهم له طلب منهم كتمان أمره ألا أنَّهم فعلوا نقيض ما طلبه منهم فلم يخرج رسول الله (ص) من مجالسهم حتى شاع وذاع خبره بين أهل الطائف، ولم يكتفوا بذلك بل أمروا الناس بقذفه بالحجارة، فكان الرسول (ص) لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا ورضخوهما بالحجارة، فكانتا تنزفان دماً حتى خرج من بينهم حيثُ لم يجد عند أحدهم مأوىً يستريح إليه خرج من ديارهم لا يلوي على شيء حتى بلغ حائطاً في أطراف الطائف فجلس يستظلُّ عنده ويُسند ظهره إليه ثم أخذ يُناجي ربَّه بقوله بهذا الدعاء المأثور عنه (ص): "اللهم أنت ثقتي في كلِّ كرب، وأنت رجائي في كلِّ شدَّة، وأنتَ لي في كلِّ أمرٍ نزل بي ثقة وعدَّة، كم من كربٍ يضعف عنه الفؤاد وتقلُّ فيه الحيلة ويخذل عنه القريب ويشمت به العدو وتعييني فيه الأمور أنزلتُه بك وشكوتُه إليك راغباً إليك فيه عمَّن سواك ففرجته وشكوته فكفيتنيه فأنت وليُّ كلِّ نعمة وصاحبُ كلِّ حاجة ومنتهى كلِّ رغبة، لك الحمد كثيرا ولك المن فاضلا ".

 

عندما كان النبيُّ (ص) يستظلُّ عند الحائط رآه غلامٌ نصراني اسمه عدَّاس -دخل التاريخ- فجاءه بعنقودٍ من العنب، فقال له الرسول (ص) من أيِّ أرضٍ أنت؟، قال: من أرض يقال لها نينوى، قال: من بلدة العبد الصالح، يونس بن متَّى، فاستغرب الغلام فقال: وما يُدريك مَن يونس بن متى؟ من الذي أخبرك باسم هذا النبي؟، قال: أنا رسول الله أخبرني بذلك ربي، فلما أخبره بما أوحى الله إليه من شأن يونس خرَّ الغلام ساجداً لله ثم أخذ يقبل قدمي رسول الله (ص) وهما تسيلان بالدماء.

 

فكان حصيلة سفره إلى الطائف وما أصابه فيه من العنَت والعناء هو اسلام هذا الغلام فليكن ذلك درساً يتعلَّمه الدعاة إلى الله تعالى فلا ينبغي أنْ ينتابهم اليأس والإحباط في طريق الدعوة، ولا يحتقروا أثر جهودهم وإنْ بدا محتقراً.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة المسد / 1-5.

2- سورة الكافرون / 1-2.

3- مناقب آل أبي طالب -ابن شهر آشوب- ج1 / ص55.

4- مناقب آل أبي طالب -ابن شهر آشوب- ج1 / ص55.

5- سورة النمل / 14.