قدرةُ أصحابِ النار على المناجاة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

من كلامٍ لمولانا أمير المؤمنين (ع) في دعاء كميل "لأضجَّن إليك بين أهلها ضجيج الآملين ولأصرخن إليك صراخ المستصرخين" فهل ما يقصده مولانا هو أنَّ الانسان عندما يسكن في النار يستطيع مناجاة ربِّه؟

 

الجواب:

نعم هو يستطيع ذلك كما أفاد القرآن الكريم في آياتٍ عديدة:

 

منها: قوله تعالى: ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ / تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ / أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ / قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ / رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ / قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾(1).

 

فالآياتُ صريحة في أنَّ أصحاب النار يُناجون ربَّهم ويسألونه أنْ يُخرجهم من جهنَّم ويعِدونَه بأنْ لا يعودوا إلى ما كانوا عليه وإلا فإنَّهم ظالمون، ويعتذرون عمَّا كانوا يجترحونه بأنَّ ذلك نشأ من غلبة شقائهم وضلالهم.

 

ومنها: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ / لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ / وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ / وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ / لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾(2).

 

هذه الآياتُ صريحةٌ في أنَّ أصحاب النار يتوسَّلون بمالكٍ خازن النيران أنْ يطلب من ربَّه القضاءَ عليهم لشدَّةِ ما هم فيه من العذاب المقيم، ولعلَّ ذلك بعد أنْ يئسوا من الخروج، فيُجيبُهم إنَّكم ماكثون ﴿لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾(3).

 

فخطابهم لمالكٍ خازن النيران يُعبِّر عن قدرتهم على المناجاة لله تعالى.

 

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾(4).

 

وهذه الآية المباركة تصف الحالة التي يكون عليها أصحاب النار، فهم يصطرخون فيها ويجأرون بالنداء والدعاء لربَّهم ويعدونه بأنْ يعملوا صالحاً غيرَ الذي كانوا يعملونه من قبائح الأفعال إلا أنَّ ذلك لن يُجديهم نفعاً، فقد كانوا في الدنيا وقد جاءهم المرسلون وعرَّفوهم بهذه العاقبة فكان لهم أنْ يتوبوا حين كان في العمر بقية إلا أنَّهم لم يفعلوا، لذلك استحقُّوا أنْ يُخاطبوا بقوله تعالى: ﴿فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾ فلا يُعبأ بصراخهم واستغاثتهم، يقول تعالى: ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا / لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾(5).

 

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾(6).

 

وهذه الآية تُعبِّر عن أنَّ أصحاب النار يطمحون في شفقةِ أصحاب الجنَّة فيلتمِسون منهم أبسط شيءٍ ينعُمون به فيجدون الأبواب دون ذلك موصدة كما وجدوها حين سألوا الملائكة أنْ يُخفَّفَ عنهم ربُّهم يوماً من العذاب ﴿وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ﴾(7).

 

بل إنَّ استغاثتهم ينشأ عنها نقيضُ ما يأملون، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا﴾(8).

 

فهذه الآياتُ وآياتٌ تدلُّ على أنَّ أصحاب النار لا يُسلبونَ القدرة على الدعاء والمناجاة لربَّهم جلَّ وعلا.

 

وهنا لابدَّ من التنبيه على أمرٍ وهو أنَّ المؤمنين المستحقِّين للعذاب في النار قد تُدركهم الرحمة فيخرجوا من الجحيم بعد أن يُحبسوا فيها ما شاء الله تعالى، لذلك قد ينفعهم الدعاء لربَّهم.

 

والحمد لله رب العالمين 

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة المؤمنون / 103-108.

2- سورة الزخرف / 74-78.

3- سورة فاطر / 36.

4- سورة فاطر / 37.

5- سورة الفرقان / 13-14.

6- سورة الأعراف / 50.

7- سورة غافر / 49.

8- سورة الكهف / 29.