الخيارات التي اعتمدها الحسين (عليه السلام) في نهضته

بسم الله الرحمن الرحيم 

اللهم صل على محمد وآل محمد

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الأَوَّلِ فَلَا شَيْءَ قَبْلَهُ، والآخِرِ فَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ، والظَّاهِرِ فَلَا شَيْءَ فَوْقَهُ، والْبَاطِنِ فَلَا شَيْءَ دُونَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَيْسَ مَعَهُ إِلَهٌ غَيْرُهُ، وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ صلّى الله عليه وآله. مُسْتَقَرُّهُ خَيْرُ مُسْتَقَرٍّ، ومَنْبِتُهُ أَشْرَفُ مَنْبِتٍ، فِي مَعَادِنِ الْكَرَامَةِ، ومَمَاهِدِ السَّلَامَةِ، قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَهُ أَفْئِدَةُ الأَبْرَارِ، وثُنِيَتْ إِلَيْهِ أَزِمَّةُ الأَبْصَارِ، دَفَنَ اللَّهُ بِهِ الضَّغَائِنَ، وأَطْفَأَ بِهِ الثَّوَائِرَ، أَلَّفَ بِهِ إِخْوَاناً، وفَرَّقَ بِهِ أَقْرَاناً، أَعَزَّ بِهِ الذِّلَّةَ، وأَذَلَّ بِهِ الْعِزَّةَ، كَلَامُهُ بَيَانٌ، وصَمْتُهُ لِسَانٌ.

 

عِبَادَ اللَّه أُوصِيكُمْ ونفسي بِتَقْوَى اللَّه والورعِ عن محارمِه واعلموا إِنَّ اللَّه سُبْحَانَه وتَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْه مَا الْعِبَادُ مُقْتَرِفُونَ فِي لَيْلِهِمْ ونَهَارِهِمْ، لَطُفَ بِه خُبْراً وأَحَاطَ بِه عِلْماً أَعْضَاؤُكُمْ شُهُودُه، وجَوَارِحُكُمْ جُنُودُه وضَمَائِرُكُمْ عُيُونُه وخَلَوَاتُكُمْ عِيَانُه.

 

أما بعد: فالحديثُ حولَ الخياراتِ التي اعتمدها الإمامُ الحسينُ (عليه السلام) في نهضتِه فإنَّ استفهاماً يطرحُه البعضُ وهو انَّ الإمام الحسين (عليه السلام) عرضَ على معسكرِ ابنِ سعد الرجوعَ بعد أنْ أوضحَ لهم منشأَ قدومِه عليهم، وأنّه إنّما جاء لهم استجابةً لدعواتهم، وأنّهم سيؤازرونه فيما عزمَ عليه مِن مواجهةٍ ليزيد بن معاوية. فالسؤالُ هو لماذا عرض عليهم الرجوع وهل كان هذا العرضُ خياراً جدِّياً للإمام الحسين (عليه السلام)؟

 

والجوابُ عن هذا الاستفهامِ هو انَّ الواضحَ بعد التأمُّل في تأريخ نهضةِ الإمامِ الحسينِ (عليه السلام) هو أنَّ الإمام (ع) اتَّخذ لنفسِه خياراتٍ ثلاثةً طولية مترتّبةً، وليست عرضيّة.

 

الخيارُ الأوّلُ: هو الاستعانةُ بأهلِ الكوفة لأجلِ مقارعةِ النظامِ الأموي، وتبنّيه لهذا الخيار نشأَ عن الاستعدادِ الذي أبداهُ أهلُ الكوفةِ للإمام الحسين (عليه السلام) وأنّهم سيؤازرونه ويقفونَ معه، وهذا لا يعني أنَّ اتّخاذه (عليه السلام) لخيارِ الثورة على بني أميّة كان قد نشأَ عن الاستعدادِ للمؤازرة الذي أبداهُ أهلُ الكوفة.

 

فالحسينُ (عليه السلام) كان قد أعلنَ الخروجَ والرفضَ للبيعةِ قبلَ أنْ تصلَه كتبُ الكوفة، حيثُ لم تصلْه كتبُهم إلاّ في مكّةَ الشريفة، والحال أنّه أعلنَ الخروجَ والرفضَ للبيعةِ وهو في المدينةِ المنوَّرة كما تُؤكّدُ ذلك النصوصُ التاريخيّة المتظافرة، نعم كان اتّخاذُه لقرارِ الخروجِ إلى العراقِ دونَ غيرِها من الحواضر الإسلامية نشأ عمَّا وصلَه من كتبِ أهلِ الكوفة ورسلِهم، وأنّهم جندٌ له مجنّدة، وأنّهم لن يُسلموه ولن يخذلوه، وأنّهم ضاقوا ذرْعاً مِن حكمِ بني أميّة، وأنّهم عقدوا العزمَ على عدمِ مبايعةِ يزيدَ بنِ معاوية.

 

ورغم كلِّ هذه التطمينات إلاّ أنّه لم يتّخذْ خيارَ المسيرِ إليهم إلاّ بعد أنْ بعثَ إليهم مسلمَ بنَ عقيل ليتعرّفَ على واقعِ حالِهم، وبعد أنْ وصلَ كتابُ مسلمِ بنِ عقيل يُؤكّدُ صدقَ نواياهم قرّرَ الحسينُ (عليه السلام) الخروجَ إليهم ليقودَ حركتَه الإصلاحيَّةَ مِن هناك.

 

وهذا لا يعني أنّ الحسينَ (عليه السلام) لم يُخطّط لخيارٍ آخر لو تبيّنَ أنَّ الخيارَ الأوّل ليس مُتاحاً، فإنَّ ذلك هو شأنُ العقلاء في معالجةِ القضايا، فهم يضعونَ لكلّ ظرفٍ محتمَلٍ خياراً مناسباً بنظرِهم حتّى لا تفاجئُهم الظروفُ بما لم يتوقّعوه فتلتبسَ عليهم الحلول.

 

وهذا هو ذاتُه الطريقُ الذي سلكَه الحسينُ (عليه السلام) حينما جعلَ لنفسِه خياراتٍ مترتّبة.

 

الخيارُ الثاني: هو الرجوعُ مِن حيثُ جاء أو إلى أيِّ بُقعةٍ مِن بقاع الأرض، وهذا الخيارُ كان عقلائيّاً جدّاً بعد أنْ أصبحَ الخيارُ الأوّل غيرَ مُتاحٍ، نظراً لما تمخَّضت عنه الظروفُ والتي أوضحتْ للتأريخ أنَّ أهلَ الكوفة ليسوا جديرينَ ولا مؤهّلين لاحتضانِ ثورتِه، وحينئذٍ لم يكن مِن خيارٍ مناسبٍ سوى الرجوع والبحثِ عن حاضنةٍ أخرى لثورته، فخيارُ البيعةِ ليزيد أياً كانت الظروف كان مستحيلاً لدى الحسينِ الشهيد (عليه السلام). فقد أُثر عنه من طرف الفريقين فيما أُثر انه قال: "لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنيا مَلْجَأٌ وَلا مَأْوىً، لَما بايَعْتُ يَزيدَ بْنَ مُعاوِيَةَ أَبَداً"(1).

 

وكان النظامُ الأموي يُدرك أنَّ خيارَ الرجوع دون بيعةٍ معناه أنّ الخطرَ مِن وجود الحسين (عليه السلام) يظلُّ ماثلاً، وأنَّ مِن المحتملِ قويّاً أنْ يتمكَّنَ الحسينُ (عليه السلام) مِن تعبئةِ أنصارٍ له قادرينَ على احتضانِ نهضتِه وتقويضِ ملكِهم أو زعزعةِ أمنِهم واستقرارِهم، وهذا ما كان يرومُه الحسينُ عليه السلام حينما عرض على النظام الأموي خيارَ الرجوعِ دون بيعة.

 

فالحسينُ (عليه السلام) إنَّما عرض على معسكرِ ابن سعد خيارَ الرجوع، ولم يعرضْ عليهم خيارَ التخلِّي عن النهضة، فهو (عليه السلام) كان يبتغي من عرضِ خيار العودةِ أنْ يتحيَّن الظروفَ المناسبة لتعبئةِ جيشٍ يتمكَّنُ به من مقارعةِ النظام الأموي بعد أن تبيَّن للتأريخ أنَّ أهلَ الكوفةِ ليسوا جديرينَ باحتضانِ ثورته.

 

والخيارُ الثالث: الذي اتَّخذه الإمامُ الحسين (عليه السلام) لنفسِه هو الاستشهادُ والتضحية، فقد كان واضحاً مِن كلماتِ الإمام الحسين (عليه السلام) أنّه كان على استعدادٍ تامّ للمصير إلى هذا الخيارِ إذا لم تتأهَّلِ الأمّةُ للوقوفِ معه في حركتِه الإصلاحيّة، وكان الحسينُ (عليه السلام) يُدرك أنّ هذا الخيارَ هو الذي ستفضي إليه الظروفُ إلاّ أنّه كان مضطراً لمواكبةِ الأحداث، إذ أنّ ذلك هو السبيلُ لاستيعابِ الأمّةِ والتاريخِ دوافعَ هذا الخيار، فليس مِن الممكن أنْ يتفهّمَ التاريخُ مغزى الاستشهادِ لو كان الخيارُ الأوّلُ مُتاحاً، لذلك كان على الحسين (عليه السلام) أنْ يكشفَ للتاريخِ سقوطَ الخيارِ الأوّل، وهكذا لو كان الخيارُ الثاني مُتاحاً فإنّ الأمّةَ والتاريخَ لن يستوعبا موقفَه واعتمادَه لخيارِ الاستشهاد، ذلك لأنّهما يحتملانِ قبولَ النظامِ الأموي بخيارِ الانصرافِ عن الكوفةِ دون بيعة، وحينئذ يتمكّنُ الحسين عليه السلام مِن استجماعِ قوّتِه معتمداً على وجاهتِه ومركزِه الديني والاجتماعي في الأمّة، ولذلك لم يكنْ مِن الممكن أن يتفهَّمَ أحدٌ العمليّةَ الفدائيّة التي أقدمَ عليها الحسينُ (عليه السلام) لو لم يسقطِ الخيارُ الثاني أيضاً.

 

وبعد أنْ سقط الخيارُ الثاني لم يبقَ سوى خيارَيْن أحدُهما يُصرُّ عليه النظامُ الأموي، ويصرُّ الحسينُ على رفضِه وهو البيعة، والآخرُ يبتغيه الإمامُ الحسين ليضعَ بني أميّةَ في طريقٍ خاتمتُه الزوالُ والاندثار.

 

وممَّا ذكرناه يتَّضحُ الجوابَ عن سؤالٍ آخر يُكثرُ البعضُ من تناولِه وهو لماذا استجابَ الحسينُ (عليه السلام) لأهلِ الكوفة مع علمِه بواقعهم؟ ولماذا لم يقبلْ بنصيحة من نصَحه بعدمِ التوجُّه للكوفة وبعدمِ الخروجِ على يزيد رغم انَّهم كانوا من المخلصين له؟

 

فالجوابُ انَّه لو لم يستجب الإمامُ الحسينُ (عليه السلام) لدعواتِ أهل الكوفة لأدانَه التأريخُ ولقال إنَّ الحسينَ -والعياذُ بالله- قد فرَّطَ في المسئوليّةِ الإلهيّةِ المناطةِ به، وذلك لأنَّ الظروفَ قد تهيَّأتْ له بعد أنْ راسلَه الآلافُ مِن أهلِ الكوفة وجمعٌ كبيرٌ مِن الوجهاءِ وزعماءُ العشائر، وأكّدوا له أنّهم على استعدادٍ تامٍّ لمناصرتِه، وأنَّ الكوفة متهيِّئةٌ لاحتضانِ ثورته، وأنَّه ليس مِن العسيرِ عليهم طردُ الوالي الأمويِّ مِنها.

 

والتأريخ يُدركُ انَّه عندما تسقطُ الكوفةُ فإنَّ ذلك يُنتجُ سقوطَ القرى والمدنِ المجاورةِ لها نظراً لارتباطها سياسيّاً وأمنيّاً بإمارةِ الكوفة بل وحتّى بلاد فارس والأهواز وبعض المدن الإيرانيَّة وقراها كانت تابعةً سياسيّاً وعسكريَّاً لإمارةِ الكوفة بل إنَّ سقوطَ الكوفةِ بِيَد الثوّار يُنتجُ سهولةَ الهيمنةِ على مدينةِ البصرة والمدنِ المجاورةِ لها، وذلك لأنَّ الثقلَ العسكريَّ والسياسيَّ في العراقِ آنذاك كان في مدينةِ الكوفة، وكلُّ مَن له معرفةٌ بالتاريخ يُدركُ هذه النتيجة.

 

ومِن هنا يكونُ إهمالُ الإمامِ الحسين (عليه السلام) لدعواتِ أهلِ الكوفةِ المتكاثرةِ والملحَّة يُعدُّ تفريطاً وتفويتاً لفرصةٍ استثنائيّة خصوصاً وأنَّ الحسينَ يُدركُ أنَّ الأمّةَ ما كانت لتستجيبَ ليزيد لولا قوّتُه وسطوتُه، فإذا ما استطاعَ الحسينُ أنْ يُوهنَ هذه القوّة فإنَّ الحواضرَ الإسلاميّةَ سوف تتداعى واحدةً تلوَ الأخرى، إذ ليس ثمّة حاضرةٌ مِن الحواضر الإسلاميّة تُكنُّ الولاءَ الحقيقيَ ليزيد وللنظامِ الأموي إذا ما استثنَيْنا بلادَ الشام.

 

هذا بالإضافةِ إلى عنصرٍ آخر يُؤكّدُ المسئوليّةَ التاريخيّةَ على الحسين (عليه السلام) وهو احترامُ وتقديرُ الأمّةِ له نظراً لقرابتِه مِن رسولِ الله صل الله عليه وآله ونظراً لإيمانِها بنزاهتِه وكفاءتِه، وليس مِن عائقٍ يحولُ دون مؤازرتِه فيما يرمي إليه سوى بطشِ السلطةِ الأمويّة الذي أصاب الأمّةَ بالإحباط واليأس، فلو أنَّ الحسينَ (عليه السلام) استطاعَ إدخالَ الوهنِ على النظامِ الأموي فإنَّ الأمّةَ ستهبُّ لا محالةَ لمؤازرته.

 

مِن هنا كان سقوطُ الكوفةِ مع ملاحظةِ الاعتباراتِ الأخرى مساوقاً لضعفِ النظامِ الأموي وعجزِه عن بسطِ هيمنتِه على الحواضرِ الإسلاميّة. ذلك لأنَّ مركزَ القوّةِ للنظامِ الأموي كان متمثِّلاً في بلادَيِ الشامِ والكوفة، لهذا تمكّن الثوّارُ في المدينةِ المنوّرة وكذلك مكّة الشريفة مِن طردِ بني أميّة بكلّ يُسرٍ أيّامَ يزيدِ بن معاوية، ولولا أنْ بعثَ إليهم يزيدُ بن معاوية جيشَ الشام بعد أنْ اعتذر ابنُ زياد واليه على الكوفة عن المسيرِ إليهم لما تمكّن مِن استرجاعِ المدينةِ مِن يدِ الثوّار.

 

وهو ما يُعبِّر عن أنَّ الكوفةَ والشامَ هما مركزُ القوّةِ للنظامِ الأموي، وأنَّ سرَّ هيمنتِه وانبساطِ سلطتِه هو ما يُدركُه الناسُ مِن أنَّ عاقبة التمرُّدِ هو أنْ يُسلّطَ عليهم النظامُ الأموي جيشَ الشامِ أو الكوفة.

 

ومِن هنا نُؤكّدُ أنَّ سقوطَ الكوفة بِيَد الثوّار معناه أنَّ النظام الأموي يُصبحُ أمامَ قوّةٍ مكافئةٍ لقوّته، وهو ما كنّا نقصدُه مِن دخولِ الوهنِ على النظام الأموي المستوجبِ لتداعي الحواضرِ الإسلاميّة بعد أنْ لم يكن خضوعُها له ناشئاً عن ولائِها وإيمانِها بجدارتِه واستحقاقِه، وإنّما كان ناشئاً عن خوفِها مِن بطشِه وقسوةِ نكايتِه.

 

وبما ذكرناه اتَّضحَ المنشأُ لاستجابة الحسين (عليه السلام) لدعواتِ أهل الكوفة، فقد تواترتْ عليه كتبُهم حتّى تجاوزتْ الاثني عشر ألف كتابٍ، كلُّ كتابٍ مختومٌ مِن اثنين أو ثلاثة أو أكثر، وكتبَ إليه زعماءُ العشائر والوجهاءُ وأوفدوا إليه الرسل، ورغم كلِّ ذلك بعثَ إليهم مسلمَ بنَ عقيل ليقفَ على واقعِ حالهم، فجاءه كتابُ مسلمِ بن عقيل أنْ أقدِمْ فإنَّ الكوفة مهيّئةٌ لاحتضان نهضتِك، فما كان يسعُه التخلُّفَ، ولم يكن يسعُه الاعتذار عن المصيرِ إليهم بدعوى أنَّ لهم سوابقَ تُوجبُ عدمَ الوثوقِ بجدّيّةِ دعوَاتِهم بعد أنْ بايعوا مسلمَ بن عقيل وعبَّروا له عن استعدادِهم وصدقِ نواياهم.

 

وأمَّا عدمُ رجوعِ الحسين (عليه السلام) بعد علمِه بمقتلِ مسلمِ بن عقيل فلأنَّ قتلَه لا يُسقطُ الخيار الأول، ولذلك سعى الحسينُ ما وسعه لاستنهاض أهل الكوفة فحين أعذر في ذلك وأقام الحجَّةَ التامة صار إلى الخيار الثاني وحيثُ أبى عليه بنو أمية إلا البيعة صدحَ بموقفِه الذي صار أنشودةً يردِّدُها الأحرار أبدَ الدهر "أَلا وَإِنَّ الدَّعِيَّ ابْنَ الدَّعيّ قَدْ تَرَكَني بَيْنَ السِّلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَهَيْهاتَ لَهُ ذلِكَ مِنّي! هَيْهاتَ مِنَّا الذِّلَّةُ! أَبىَ اللهُ لَنا ذلك وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَحُجُورٌ طَهُرَتْ وَجُدُودٌ طابَتْ ونفوسٌ أبيَّة وأنوفٌ حميَّة من أَنْ نُؤْثِرَ طاعَةَ اللِّئامِ عَلى مَصارِعِ الْكِرامِ، أَلا وَإنَّي زاحِفٌ بِهذِهِ الأْسْرَةِ عَلى قِلَّةِ الْعَدَدِ، وَكَثْرَةِ الْعَدُوِّ، وَخَذْلَةِ النّاصِرِ"(2).

 

فالخيارَ الذي اتَّخذه الإمامُ الحسين لنفسه هو الاستشهاد، وذلك بعدما انكشفُ للأمّةِ وللتاريخ أنَّ المسلمين لم يكونوا حينذاك مؤهّلينَ للجهاد والمقارعةِ للنظام الأموي، فقد عقدَ العزمَ على أنْ يُقدِّم نفسَه قرباناً لله مِن أجل أنْ تستفيقَ الأمّةُ مِن سباتِها، وتُدركَ أنَّ النظام الأموي مريدٌ لتقويضِ بُنَى الإسلام، وأنّه لا يرعى حرمةً لرسول لله صل الله عليه وآله وأنَّ هذا النظامَ على استعدادٍ لفعلِ كلِّ عظيمٍ مِن أجلِ أنْ يبقى سلطانُه وتبقى هيمنتُه، وأنّه لا يعبأُ كثيراً أنْ يُعصى الله في الأرض بل يمارسُ هو دورَ التضليلِ والإفساد.

 

وإذا ما أدركت الأمّةُ كلَّ ذلك واستفاقتْ على وقعِ فاجعةٍ هي بحجمِ قتل الحسينِ (عليه السلام)، وقتلِ ذرِّيّته وسبي بناتِ الرسول صل الله عليه وآله فإنَّ مِن المفترض أنْ تنبعثَ فيهم روحٌ جديدة قادرةٌ ولو بعد حين على أنْ تُجهزَ على هذا النظامِ الفاسد.

 

أراد الحسينُ (عليه السلام) بنهضتِه وتضحيتِه أنْ يكسرَ حاجزَ الخوفِ، وأنْ يبدِّدَ حالةَ اليأسِ والخنوعِ الذي أصابَ الأمّة نتيجةَ البطشِ والتعسّفِ اللذين مارستهما السلطةُ الأمويّة معها، وأراد أنْ يؤسِّسَ لفهم إسلاميٍّ أصيل هو شرعيّةُ المواجهةِ للسلطانِ الجائر، وشرعيّةِ السعي لتقويضِ سلطانه، ذلك لأنّ النظامَ الأموي عمل وفي غضون ردح طويلٍ مِن الزمن على ترويجِ دعوى هي حرمةُ الخروجِ على النظام الحاكم حتّى ولو كان فاسداً جائراً، وسخّر لذلك المأجورينَ ممّن يُنسبون للعلمِ والدراية بالحديث ليضعوا مِن عند أنفسِهم رواياتٍ تؤكّدُ على عدمِ شرعيّة الخروجِ والثورةِ على السلطان وإنْ كان فاسقاً مستحلاًّ لحرمات الله، وأنَّ وظيفة المسلم هي الأداء لحق السلطان وليس له المطالبةُ بحقِّه بل يلزمه شرعاً الصبر والطاعة، وإنْ جلدَ السلطانُ ظهرَه وأخذ ماله.

 

وهذه الثقافةُ الخطيرة التي سادتْ وتجذّرت بفعلِ السياسةِ الأمويّة لم يكن مِن الممكن تصحيحُها لو لم يتصدَّ لذلك رجلٌ هو بحجمِ الحسين (عليه السلام) ولم يكن التصدّي بمستوى التضحية، فالحسينُُ قدّم نفسَه قرباناً لله مِن أجل أن يُعيد الأمّةَ إلى المسار الصحيح، يقول عليه السلام: "أيّها الناس إنّ رسول الله (ص) يقول: مَنْ رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاًّ لِحُرَمِ الله ناكثاً عهدَه مخالفاً لسنَّة رسولِ الله (ص)، يعملُ في عبادِ الله بالإثمِ والعدوان، فلم يغيِّر عليه بفعلٍ ولا قول كان حقّاً على الله أنْ يُدخله مدخله، ألا وإنَّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعةَ الرحمن، وأظهروا الفساد وعطَّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء وأحلُّوا حرام الله، وحرَّموا حلاله وأنا أحقُّ مَنْ غيَّر..."(3).

 

وأمّا نصيحةُ بعض أصحابه له بعدم الخروجِ على يزيد أو بعدم التوجّه إلى الكوفة فلأنّ حساباتِهم كانت سياسيّة، ولأنّهم أنفسَهم كانوا ممّن شملهم الداءُ وأصابَهم الوهنُ واستبدَّ بهم الخوفُ واليأسُ والإحباط، لذلك فهم لا يفهمون لغةَ الحسين (عليه السلام) ولا يُدركون أبعادَ خروجِه ونهضتِه.

 

فهذا ابنُ عبّاس رحمه الله الذي لا نشكُّ في إخلاصِه للإمام الحسين (عليه السلام) يتمنّى لو كان يتمكّنُ مِن حبسِ الحسينِ (عليه السلام) والحيلولةِ دون خروجه، ذلك لأنّه لم يكنْ قادراً على استيعابِ معنى التضحيةِ والاستشهاد، إذ هي لغةٌ لا يفهمُها إلاّ أهلُ البصائر ولا يقفُ على أبعادِها إلاّ مَن تجرَّدت روحُه عن كلِّ علائقِ الدنيا، فكم هو غريبٌ قولُ الحسين (عليه السلام): "إنِّي لا أرى الموتَ إلاّ سعادة والحياةَ مع الظالمين إلاّ برما"(4) فهو يأنسُ بالموت والآخرونَ تُؤنسُهم الحياة.

 

وقد تمكّن الإمامُ الحسين (عليه السلام) مِن تحقيقِ غايتِه، ولم يتمكّنِ النظامُ الأموي مِن إرغامِ الحسينِ على خياره رغمَ ما بذلَه مِن وسعٍ، وما اعتمدَه مِن وسائلَ لا تصمدُ أمامَها أقوى الإرادات، وهذا هو معنى انتصارُ الدمِ على السيف.

 

وهكذا تبخّر النظامُ الأموي وتلاشتْ أطروحتُه الراميةُ لتقويضِ بُنَى الإسلام وخُلدَ الحسينُ وخلدتْ مبادؤه.

 

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ / وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا / فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾(5)

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

9 من محرّم الحرام 1437هـ - الموافق 23 أكتوبر 2015م

جامع الإمام الصّادق (عليه السّلام) - الدراز


1- الفتوح -ابن أعثم الكوفي- ج5/ 20، 21، مقتل الحسين -الخوارزمي- ج1 / 272 .

2- "... ألا وإن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين بين الذلة والسلة، هيهات منا الذلة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإني زاحف بهذه الأسرة مع قلة العدد وخذلة الناصر" تحف العقول عن آل الرسول (ص) -ابن شعبة الحراني- ص 58. اللهوف -السيد ابن طاووس- ص59، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج14 / 219 .

3- تاريخ الطبري -محمد بن جرير الطبري- ج 4 ص 304. أنساب الأشراف -البلاذري- ج3/ 171، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4/ 48 . الفتوح -ابن أعثم- ج5/ 81 .

4-مناقب آل أبي طالب -ابن شهر آشوب- ج 3 ص 224. شرح الأخبار -القاضي النعمان- ج3 / 150، المعجم الكبير -الطبراني- ج3/ 115 .

5- سورة النصر.