الإمامُ عليٌّ الهادي (ع)

أعوذُ بالله من الشيطانِ الرجيمِ

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي انْحَسَرَتِ الأَوْصَافُ عَنْ كُنْه مَعْرِفَتِه، ورَدَعَتْ عَظَمَتُه الْعُقُولَ، فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغاً إلى بُلُوغِ غَايَةِ مَلَكُوتِه، هُوَ اللَّه الْحَقُّ الْمُبِينُ، أَحَقُّ وأَبْيَنُ مِمَّا تَرَى الْعُيُونُ، لَمْ تَبْلُغْه الْعُقُولُ بِتَحْدِيدٍ فَيَكُونَ مُشَبَّهاً، ولَمْ تَقَعْ عَلَيْه الأَوْهَامُ بِتَقْدِيرٍ فَيَكُونَ مُمَثَّلًا، خَلَقَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ تَمْثِيلٍ، ولَا مَشُورَةِ مُشِيرٍ، ولَا مَعُونَةِ مُعِينٍ، فَتَمَّ خَلْقُه بِأَمْرِه وأَذْعَنَ لِطَاعَتِه، فَأَجَابَ ولَمْ يُدَافِعْ وانْقَادَ ولَمْ يُنَازِعْ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وحده لا شريكَ له، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه (ص).

 

عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّهُ لَيْسَ لِمَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ مَتْرَكٌ، ولَا فِيمَا نَهَى عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مَرْغَبٌ، عِبَادَ اللَّهِ فاتقوا الله، واحْذَرُوا يَوْماً تُفْحَصُ فِيهِ الأَعْمَالُ، ويَكْثُرُ فِيهِ الزِّلْزَالُ، وتَشِيبُ فِيهِ الأَطْفَالُ، واعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ عَلَيْكُمْ رَصَداً مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وعُيُوناً مِنْ جَوَارِحِكُمْ، وحُفَّاظَ صِدْقٍ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ، وعَدَدَ أَنْفَاسِكُم.

 

أمَّا بعدُ: فنظراً للاقترابِ من ذكرى استشهادِ الإمامِ عليِّ بن محمدٍ الهاديِّ (ع) صار من المناسب الحديثُ حولَ شيءٍ ممَّا يتَّصلُ بإمامتِه (ع).

 

فالإمامُ الهاديُّ هو الإمامُ العاشرُ من أئمةِ أهلِ البيت (ع)، وقد دلَّت النصوصُ الدينيَّةُ المتواترةُ على إمامتِه وعصمتِه، فمضافاً إلى النصوصِ العامَّةِ كحديثِ الثقلينِ المتواترِ وحديثِ السفينةِ وحديث انَّ الأئمةَ بعد الرسولِ (ص) اثنا عشر وغيرِها من الأحاديث العامَّةِ المتواترةِ عن الرسولِ (ص) وعليٍّ (ع) والتي لا يُمكن انطباقُها في عصرِ الإمامِ الهادي (ع) إلا عليه، فمضافاً إلى ذلك، فإنَّ ثمةَ ثلاثَ طوائفَ من الرواياتِ تدلُّ على إمامةِ الإمامِ الهاديِّ (ع) بالنصِّ الخاصِّ، وهي تبلغُ بمجموعِها حدَّ التواتر وتفوقُ بل إنَّ كلَّ طائفةٍ من الطوائفِ الثلاثِ تبلغُ باستقلالِها حدَّ التواترِ بقطعِ النظرِ عن الطوائفِ الأخرى.

 

أما الطائفة الأولى:

فهي التي تصدَّت لتعدادِ أسماءِ الأئمةِ الاثني عشرَ واحداً تلوَ الآخر، واشتملت على ذكرِ الإمامِ الهاديِّ(ع) باسمِه واسمِ أبيه وانَّه الإمامُ العاشرُ من أئمةِ أهل البيتِ (ع)، هذه الطائفةُ من الرواياتِ تفوقُ باستقلالِها حدَّ التواتر، نذكرُ منها روايةً واحدةً نظراً لمحدوديةِ الوقت:

 

وهي صحيحةُ محمَّدِ بنِ مسلمٍ قال: قال أبو جعفرٍ (عليه السلام)، قالَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) لعليِّ بن أبي طالبٍ (ع): يا عليُّ أنا أولى بالمؤمنين من أنفسِهم، ثم أنتَ يا عليُّ أولى بالمؤمنين من أنفسٍهم، ثم الحسنُ، ثم الحسينُ، ثم عليُّ بنُ الحسينِ، ثم محمَّدُ بنُ عليٍّ، ثم جعفرُ بنُ محمَّدٍ، ثم موسى بنُ جعفرٍ، ثم عليُّ بنُ موسى، ثم محمَّدُ بنُ عليٍّ، ثم عليُّ بنُ محمَّدٍ، ثم الحسنُ بنُ عليٍّ، ثم الحجَّةُ بنُ الحسنِ، الذي تنتهي إليه الخلافةُ والوصايةُ، ويغيبُ مدةً طويلةً، ثم يظهرُ، ويملأُ الارضَ عدلاً وقسطاً كما مُلئتْ جوراً وظلماً"(1).

 

هذه الروايةُ أوردَها الفضلُ بن شاذانَ في كتابِه إثباتِ الرجعةِ: عن شيخِه فُضالةَ بنِ أيوبَ، عن أبانِ بنِ عثمان، عن محمدِ بنِ مسلمٍ عن أبي جعفر الباقر (ع) عن آبائِه عن الرسولِ الكريمِ (ص)، فالروايةُ صحيحةُ السندِ، وفُضالةُ بن أيوبَ من مشايخِ الفضلِ بن شاذانَ قال عنه النجاشيُّ: "كان ثقةً في حديثِه، مستقيماً في دينِه"(2)، ووثَّقه الشيخُ الطوسيُّ، وأما أبانُ بنُ عثمانَ ومحمدُ بن مسلمٍ فهما من أجلاءِ الطائفةِ وممَّن أجمعتِ الطائفةُ على تصحيحِ ما يصحُّ عنهم وأقرَّوا لهم بالفقهِ كما أفاد ذلك الكشِّي.

 

ومفادُ الروايةِ صريحٌ في المطلوبِ حيث عدَّ الرسولُ (ص) عليَّ بن محمدِ بنِ عليِّ بنِ موسى بنِ جعفرٍ ضمنَ الأئمةِ الإثني عشر الذين وصفَهم بأنَّهم أولى بالمؤمنينَ من أنفسِهم وأنَّ لهم الوصايةَ والخلافةَ بعد الرسولِ (ص) واحداً تلوَ الآخر إلى تنتهي الوصايةُ والخلافةُ إلى الحجَّةِ بن الحسنِ، ويغيبُ مدةً طويلةً ثم يظهرُ ويملأُ الأرضَ عدلاً وقسطاً كما مُلئت جوراً وظلماً، هذا المضمونُ بتفاصيلِه وردَ في الكثيرِ من الرواياتِ، وقد وقفتُ رغم الكسلِ وضعفِ الهمَّةِ على العشراتِ منها في كتابِ الفقيهِ والخصالِ والعيونِ والعللِ وكمالِ الدينِ والتوحيدِ للشيخِ الصدوقِ وكفاية الأثرِ للخزَّاز القمِّي والغَيبةِ للشيخِ الطوسيِّ والغيبةِ للنعمانيِّ والكافي للشيخِ الكليني وغيرِها من مصادرِ الحديثِ المعتبرةِ، فرواياتُ النصِّ الخاصِّ على إمامةِ الأئمةِ الإثني عشر لا يختصُّ بنقلِها الشيخُ الكليني كما يتوهَّم البعضُ، فالكلينيُّ رحمه الله لم ينقل معشارَ ما وصلَنا عن الرسولِ (ص) وأهلِ بيتِه (ع) في ذلك بأسانيدَ متَّصلةٍ، وفيها الصحيحُ والحسنُ والموثَّقُ رغم انَّنا لسنا بحاجةٍ إلى ملاحظةِ الأسانيد بعد أنْ كانت الرواياتُ في ذلك متواترةً، ومع التواترِ لا تكونُ ثمة حاجةٌ لملاحظةِ السندِ كما هو ثابتٌ وواضحٌ في علمي المنطقِ والأصولِ وكذلك علمِ الدرايةِ والحديثِ.

 

وأما الطائفة الثانية:

فهي الرواياتُ التي يتصدَّى فيها الإمامُ السابقُ للنصِّ على امامةِ الإمامِ الذي يليه أو هو والذي يَلي مَن يليه، وحجيَّةُ هذه الطائفةِ من الرواياتِ تنشأُ إمَّا عن انتهاءِ ذلك الإخبار إلى الرسولِ (ص) أو عن الفراغِ في مرحلةٍ سابقةٍ عن إمامةِ وعصمةِ الإمامِ الذي تصدَّى للإيصاءِ لمَن يليه في الإمامةِ، وهذه الطائفةُ من الرواياتِ تبلغُ أيضاً باستقلالِها حدَّ التواترِ، وإذا انضمَّت إليها رواياتُ الطائفةِ الأولى المتصدِّيةِ لتعدادِ الأئمةِ (ع) فإنَّها تفوقُ حدَّ التواترِ دون ريبٍ، ومن هذه الرواياتِ نذكرُ روايةً واحدة للتيمُّن ولمحدوديَّة الوقت:

 

أوردها الشيخُ الكلينيُ في الكافي عن عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيه عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ أَبُو جَعْفَرٍ (ع) مِنَ الْمَدِينَةِ إلى بَغْدَادَ فِي الدَّفْعَةِ الأُولَى مِنْ خَرْجَتَيْه قُلْتُ لَه عِنْدَ خُرُوجِه: جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ فِي هَذَا الْوَجْه، فَإِلَى مَنِ الأَمْرُ بَعْدَكَ؟ فَكَرَّ بِوَجْهِه إِلَيَّ ضَاحِكاً، وقَالَ: لَيْسَ الْغَيْبَةُ حَيْثُ ظَنَنْتَ فِي هَذِه السَّنَةِ، فَلَمَّا أُخْرِجَ بِه الثَّانِيَةَ إلى الْمُعْتَصِمِ صِرْتُ إِلَيْه، فَقُلْتُ لَه: جُعِلْتُ فِدَاكَ أَنْتَ خَارِجٌ، فَإِلَى مَنْ هَذَا الأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ؟ فَبَكَى حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُه ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: عِنْدَ هَذِه يُخَافُ عَلَيَّ، الأَمْرُ مِنْ بَعْدِي إلى ابْنِي عَلِيٍّ"(3).

 

والروايةُ من حيثُ السند في أعلى درجاتِ الصحَّةِ، فإسماعيلُ بن مِهران ثقةٌ معتمَدٌ عليه كما أفادَ الشيخُ النجاشي والشيخُ الطوسي، ووصفَه العيَّاشي بالتقيِّ الثقةِ الخيِّرِ الفاضلِ، وبقيَّةُ رجالِ السندِ من أجلاءِ الطائفةِ، فالروايةُ في غاية الصحَّة. وأما دلالةُ الرواية فنصٌّ في المطلوبِ حيثُ صرَّحَ الإمامُ أبو جعفرٍ الجوادِ (ع) بقوله: "الأَمْرُ مِنْ بَعْدِي إلى ابْنِي عَلِيٍّ".

 

وأما الطائفةُ الثالثةُ:

فهي الرواياتُ المتصدِّية للإخبارِ عمَّا كان يصدرُ عن الإمامِ الهادي (ع) من كراماتٍ وخوارقَ للعادةِ التي لا تصدرُ إلا ممَّن اصطفاهمُ اللهُ لدينِه وجعلَهم حجَّةً على عبادِه خصوصاً وأنَّ هذه الكراماتِ قد صدرتْ عن الإمامِ (ع) مقترنةً بدعوى الإمامةِ، والكرامةُ الخارقةُ المُقترنةُ بالدعوى مقتضيةٌ لثبوتِ الدعوى، كما هو الشأنُ في دعوى النبوَّةِ، فإنَّ واحداً من وسائلِ الإثباتِ القطعيِّ للنبوَّة هو صدورُ المعجزةِ المقارِنةِ لدعوى النبوَّةِ، وكذلك الإمامةُ فإنَّ مِن وسائلِ إثباتِها هو صدورُ الكرامةِ الخارقةِ المُقترِنةِ بدعوى الإمامةِ، ولا فرقَ بينَ المعجزةِ والكرامةِ من جهةِ انَّ كلاً منها خارقٌ للعادة، والفرقُ بينهما إنَّما هو من جهةِ الإصطلاحِ، فصدورُ العملِ الخارقِ للعادةِ إنْ كان مُقترِناً بدعوى النبوَّةِ سُمِّيَ معجزةً، وإنْ صدرَ مقترِناً بدعوى الإمامةِ سُمِّيَ كرامةً.

 

فالطائفةُ الثالثةُ التي نَتمسَّكُ بها لإثباتِ إمامةِ الإمامِ الهاديِّ(ع) وكذلك سائرِ الأئمةِ (ع) هي الرواياتُ المتصدِّيةُ للإخبارِ عمَّا كان قد صدرَ عن الإمامِ الهاديِّ(ع) من كراماتٍ خارقةٍ للعادةِ، كالإخبارِ عن بعضِ المغيَّباتِ التي يتبيَّنُ بعد وقتٍ يسيرٍ مطابقتُها للواقعِ، وكالإستجابةِ الفوريَّةِ لدعائِه، وهذانِ العنوانانِ جامعانِ لأكثرِ المعجزاتِ والكراماتِ التي تصدرُ عن الأنبياءِ والأوصياءِ (ع).

 

ويبلغُ عددُ هذه الرواياتِ الحاكيةِ لما كان يصدرُ عن الإمامِ (ع) من كراماتٍ حدَّ التواتر الإجمالي، وذلك يقتضي القطعَ بصدورِ بعضِها في الجملةِ، وذلك وحدَه كافٍ لإثباتِ المطلوب.

 

والمرادُ من التواتر الإجمالي هو أنْ تشترك أخبارٌ كثيرةٌ جداً في افادةِ مدلولٍ واحدٍ رُغمَ انَّ هذه الأخبارَ مختلفةٌ في مدلولاتِها المطابقيَّةِ، بمعنى انَّ كلَّ واحدٍ أو كلَّ مجموعةٍ من هذه الأخبارِ سِيقتْ لإفادةِ معنىً مختلفٍ عن المعنى الذي سِيقت له المجموعةُ الأخرى من هذه الأخبارِ ولكنَّها جميعا تشترك -رغم اختلاف ما سِيقت له- في افادة مدلولٍ واحدٍ، فالمدلولُ المطابقيُّ -باصطلاح المناطقةِ- لمجموعِ الأخبارِ مختلِفٌ ولكنَّ المدلولَ التضمُّني أو الإلتزامي مشتركٌ بين مجموعِ الأخبارِ، فالتواترُ يكونُ لذلك يكون متمحِّضاً في المدلولِ التضمُّنيِّ أو الإلتزاميِّ وهذا هو المعبَّر عنه بالتواترِ الإجمالي. وهو من وسائلِ الإثباتِ القطعيِّ دونَ اشكالٍ بل إنَّ أكثرَ القضايا الاعتقاديةِ والتأريخيَّةِ والفقهيةِ والعلميَّةِ التي يُستدلُّ عليها بالتواترِ يكونُ المرادُ من ذلك التواترِ هو التواترُ الإجمالي، وقد يُعبَّرُ عنه بالتواترِ المعنوي.

 

ومثالُ ذلك: لو وردتْ خمسُ رواياتٍ مفادُها انَّ قتلى قريشٍ في غزوةِ بدرٍ كانوا سبعينَ مقاتلاً قتلَ منهم الإمامُ عليٌّ (ع) ثلاثينَ أو أربعَ وثلاثينَ واشتركَ بقيةُ المسلمينَ في الباقي، ووردتْ خمسُ رواياتٍ مثلاً مفادُها انَّ عليَّاً (ع) قتلَ من بني عبدِ الدارِ يومَ أحدٍ خمسةً أو ثمانيةً وهم الذين كانوا يحملونَ رايةَ قريشٍ قتلَهم مبارزةً وهي أدلُّ على الشجاعةِ والبسالةِ، ووردَ في أخبارٍ أخرى عديدةٍ انَّ أكثرَ المقاتلينَ من المسلمينَ انهزموا يومَ أُحدٍ ولم يثبُتْ مع رسولِ اللهِ (ص) سوى عددٍ يسيرٍ من الصحابة وكان عليُّ بن أبي طالبٍ (ع) في طليعة من ثبتوا، وورد ايضاً انَّ أكثر المسلمينَ انهزموا يومَ حنينٍ ولم يثبُتْ مع رسول الله (ص) سوى عددٍ لا يتجاوز أصابع اليد كان عليٌّ (ع) في طليعتِهم، ووردَ في أخبارٍ أخرى عديدةٍ انَّ عليَّاً (ع) قتلَ يومَ الأحزابِ عمرو بنَ ودِّ العامريِّ وكان من أشجعِ فرسانِ العربِ، وورد انَّ علياً (ع) قتلَ يومَ خيبرٍ مرحباً اليهودي وكانَ من أقوى فرسانِ اليهودِ، وورد كذلك انَّ الإمامَ عليٍّ ذهبَ وحدَه إلى بابِ الحُصنِ في خيبرٍ ولم يكترثْ بالسهامِ التي كانت تتوالى كرشقِ المطر من سطوحِ وأبراجِ الحُصنِ، ثم اقتلعَ بابَ الحُصنِ وكانَ لا يفتحُه إلا أربعونَ رجلاً أو يزيدون، وورد انَّ عليَّاً كان صاحبَ لواءِ رسولِ الله (ص) في كلِّ المعاركِ التي خاضَها الرسولُ الكريمُ (ص) وهكذا.

 

فإنَّ الملاحِظ لمجموعِ هذه الأخبارِ الكثيرةِ جدَّاً يجدُ أنَّ كلَّ طائفةٍ منها سِيقت لإفادةِ معنىً مختلِفٍ عن المعنى الذي سِيقت له الطائفةُ الأخرى، فالطائفةُ الأولى مثلاً سِيقت لإفادةِ انَّ عليَّاً (ع) قتلَ قُرابةَ النصفِ من قتلى قريشٍ يومَ بدرٍ، وهذا المعنى مختلِفٌ عن المعنى الذي سِيقتْ لإفادتِه الطائفةُ الثانيةُ من هذه الأخبارِ حيثُ تصدَّتْ الطائفةُ الثانيةُ للإخبارِ عن انَّ عليَّاً (ع) قتلَ من بني عبدِ الدارِ خمسةً أو ثمانية ممَّن تعاقبوا على حملِ رايةِ قريشٍ يوم أُحدٍ، وهكذا فإنَّ الطائفةَ الثالثةَ تحدَّثتْ عن ثباتِ عليٍّ (ع) بعد هزيمةِ المسلمينَ يوم أُحد، وتحدَّثت الطائفةُ الرابعة عن موضوعٍ رابعٍ، والخامسةُ عن موضوعٍ خامس، وهكذا فإنَّ موضوعَ كلِّ طائفةٍ من هذه الأخبارِ مختلِفٌ عن موضوعِ الأخرى، إلا انَّ هذه الأخبارَ المختلِفةِ في مدلولاتها المطابقيَّة تشتركُ في مدلولٍ التزاميٍّ واحدٍ وهو انَّ عليَّ بن أبي طالب (ع) كان شجاعاً، فإنَّ هذا المعنى تشتركُ جميعُ هذه الأخبارِ الكثيرةِ في افادتِه، ولهذا يُقال إنَّ هذا المدلولَ -وهو انَّ عليَّاً (ع) شجاعٌ- ثابتٌ بالتواترِ الإجمالي.

 

ومع اتَّضاحِ المرادِ من التواترِ الإجمالي يتَّضحُ أنَّ أكثرَ القضايا الفقهيَّةِ والتأريخيَّةِ والعقائديَّةِ وغيرِها التي يُستدلُّ عليها بالتواترِ إنَّما يُستدلُّ عليها بالتواترِ الإجمالي، وأما التواترُ اللفظيُّ أو التواترُ في المدلولِ المطابقيِّ فلا يكادُ يتَّفق إلا نادراً.

 

فحرمةُ الخمرِ مثلاً من القضايا الفقهيَّةِ القطعيَّةِ الثابتةِ بالتواتُرِ، إلا انَّ التواتُرَ الذي انتجَ اليقينَ بحُرمةِ الخمرِ في شريعةِ الإسلامِ ليس هو التواتُر اللفظي، إذ إنَّ الرواياتِ التي قالتْ: "الخمرُ حرام" قد لا يصلُ عددُها العشرَ رواياتٍ، وليس جميعُها نقيَ السند لكنَّه ورغم ذلك لا يرتابُ أحدٌ من المسلمينَ في تواتُرِ النصِّ على حرمةِ شُربِ الخمرِ، ومنشأُ ذلك هو انَّه وردتْ رواياتٌ عديدةٌ توعَّدتْ شاربَ الخمر بالنارِ، ورواياتٌ أخرى أفادتْ انَّ شاربَ الخمرِ يُقامُ عليه الحدُّ، ولعنتْ طائفةٌ أخرى من الرواياتِ شاربَ الخمرِ وساقيه، وتصدَّتْ رواياتٌ أخرى للنهيِ عن بيعِ الخمر، وأفاد بعضُها انَّ الخمر من الأعيانِ النجسةِ، ووصفتْ بعضُ الرواياتِ شاربَ الخمرِ بالعاصيِّ والآثمِ وشبَّهتْ المدمنَ عليه بعابدِ الوثَنِ، فمِن مجموعِ هذه الطوائفِ من الرواياتِ وشبهِها تَحصَّل عندنا يقينٌ بحرمة شربِ الخمرِ منشأُه التواترُ لكنَّ هذا التواترَ ليس لفظيَّاً ولا هو تواترٌ في المدلولِ المطابقيِّ، إذ انَّ كلَّ طائفةٍ من هذه الرواياتِ متصدِّيةٌ لموضوعٍ مختلِفٍ عن موضوعِ الطائفةِ الأخرى، وكلُّ طائفةٍ لا تُشكِّلُ وحدَها تواتُراً بل لا يصلحُ بعضُها لإثباتِ مدلولِها لضعفِها إلا انَّ مجموعَ هذه الطوائف يبلغُ ويفوقُ حدَّ التواترِ، وهي جميعاً تشتركُ في مدلولٍ التزاميٍّ واحدٍ وهو حرمةُ شربِ الخمرِ، فحرمةُ شربِ الخمر ثابتٌ إذن بالتواترِ الإجمالي، وذلك هو منشأُ القطعِ بهذه القضيَّةِ.

 

كذلك هو الشأنُ فيما يتَّصلُ بالإخباراتِ عمَّا كان يظهرُ من كراماتٍ على يدِ الإمامِ الهاديِّ (ع) فعددٌ منها تحدَّثَ عن ابرائِه الفوريِّ للمرضى كابرائه للأبرصِ حيثُ سألَه الدعاءَ فما زاد الإمامُ (ع) على قولِه: "عافاكَ اللهُ"(4) ثلاثاً فعاد وكأنَّه لم يكن مبتلى بهذا الداءِ الذي كان قد صاحبَه طويلاً، وآخر لم يزدْ الإمامُ (ع) على أنْ حرَّك شفتيهِ ومسَحَ بيدِه على موضعِ الداء وجهرَ ببسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ ثلاثاً فلم يقمْ المريضُ من موضعِه وفيه من مرضِه كثيرٌ أو قليلٌ، وعددٌ من الرواياتِ تحدَّثتْ عن اخبارتِه التفصيليَّةِ عن شئونٍ كانتْ من مكنونِ الغيبِ وهي مستفيضةٌ جدَّاً، وعددٌ من الرواياتِ تحدَّثتْ عن اجابتِه عن أسئلةٍ كان الوافدونَ قد أعدُّوها قبل دخولِهم عليه فأجابَهم عنها قبلَ أنْ يسألوه عنها أو يقرأونَها عليه، وتعدادُ هذه الطوائفِ من الرواياتِ يطولُ لكثرتِها وتشعُّبِ مضامينِها، وكلُّ طائفةٍ من هذه الرواياتِ وإنْ لم تبلغْ بمفردِها حدَّ التواترِ وليس جميعُها نقيَ السند وقابلاً للإثباتِ لكنَّه ونظراً لكثرتِها واشتمالِها على ما هو معتبرٌ سنداً ونظراً لاختلافِ الناقلينَ لها وتبايُنِ ظروفِهم وأحوالِهم وتباعدِ مواطنِهم وتعاقبِ النقلِ للقضايا المختلفةِ ما يزيدُ على ثلاثةِ عقودٍ هي مدَّةُ إمامةِ الإمام الهادي (ع) يتشكَّلُ من ملاحظةِ هذه الإعتباراتِ وشبهِها ومن مجموعِ هذه الرواياتِ الكثيرةِ مايتحققُ به التواترُ الإجماليِّ. بل إنَّ التواترَ الإجماليَّ يتحقَّقُ بما دون هذا العددِ من الإخباراتِ مع ملاحظةِ الاعتباراتِ المذكورةِ وغيرِها.

 

لذلك تكونُ هذه الاخباراتُ صالحةً للإثباتِ القطعيِّ للقضيَّةِ التي تشتركُ كلُّ هذه الإخباراتِ في الدلالةِ عليها، وهي صدورُ الكراماتِ الخارقةِ للعادةِ عن الإمامِ الهاديِّ، وحيث إنَّها مقترِنةٌ بدعوى الإمامةِ لذلك تكونُ صالحةً للإثباتِ القطعيِّ لإمامةِ الإمامِ الهاديِّ (ع).

 

وثمة طرقٌ برهانيَّةٌ أخرى على إمامةِ الإمامِ الهادي (ع) لا يتَّسعُ الوقتُ لاستعراضِها.

 

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ / فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ / إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾(5)

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

29 من جمادى الآخِرة 1437هـ - الموافق 8 أبريل 2016م

جامع الإمام الصّادق (عليه السّلام) - الدّراز


1- لاحظ إثبات الهداة للحر العاملي: ج1 / ص651.

2- أوردَها الفضلُ بن شاذانَ في كتابِه إثباتِ الرجعةِ.

3- الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص323.

4- ..............................

5- سورة الكوثر.