﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾

أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ

بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم

 

الحمدُ لله ربِّ العالمين، اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ حَمْداً لَا جَزَاءَ لِقَائِلِه إِلَّا رِضَاكَ، اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّه، ولَكَ الْمَنُّ كُلُّه، ولَكَ الْفَخْرُ كُلُّه، ولَكَ الْبَهَاءُ كُلُّه، ولَكَ النُّورُ كُلُّه، ولَكَ الْعِزَّةُ كُلُّهَا، ولَكَ الْجَبَرُوتُ كُلُّهَا، ولَكَ الْعَظَمَةُ كُلُّهَا، ولَكَ الدُّنْيَا كُلُّهَا، ولَكَ الآخِرَةُ كُلُّهَا، ولَكَ اللَّيْلُ والنَّهَارُ كُلُّه، ولَكَ الْخَلْقُ كُلُّه، وبِيَدِكَ الْخَيْرُ كُلُّه، وإِلَيْكَ يَرْجِعُ الأَمْرُ كُلُّه عَلَانِيَتُه وسِرُّه، ونَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه بَعَثَه بِالْحَقِّ نَبِيّاً دَالاًّ عَلَيْه وهَادِياً إِلَيْه فَهَدَى بِه مِنَ الضَّلَالَةِ واسْتَنْقَذَنَا بِه مِنَ الْجَهَالَةِ.

 

عبادَ اللهِ أُوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ تعالى والورعِ عن محارمِه، عبادَ اللهِ سلوا اللهَ اليقينَ، وارغبوا إليه في العافيةِ، فإنَّ خيرَ ما دامَ في القلبِ اليقينُ، فاصدقوا اللهَ فإنَّ اللهَ مع مَن صدقَ، ألا وقولوا الحقَّ تُعرَفوا به، واعمَلوا به تكونوا من أهلِه، وأدَّوا الأمانةَ إلى مَن ائتمنَكم، وصِلوا أرحامَ من قَطَعكم، وعودوا بالفضلِ على مَن حَرَمكم. وإذا عاهدتم فأَوفُوا، وإذا حكمتم فاعدِلوا، ولا تنابزوا بالألقاب، ولا يُغضبْ بعضُكم بعضاً، وأعينوا الضعيفَ والمظلومَ والغارمينَ وفي سبيلِ الله وابنِ السبيلِ، والسائلينَ وفي الرقابِ، وأفشوا السلامَ، وردُّوا التحيةَ على أهلِها بمثلِها أو بأحسنَ منها ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(1).

 

قال اللهُ تعالى في محكمِ كتابِه المجيدِ: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾(2).

 

الآيةُ المباركةُ من سورةِ الفرقانِ متصدِّيةٌ لبيانِ صفةٍ أخرى من صفاتِ عبادِ الرحمنِ، هذه الصفةُ هي الإعتدالُ في الإنفاقِ، وعبَّرتْ الآيةُ عن هذا المعنى أولاً بنفي ما يُقابلُ الإعتدالَ في الإنفاقِ وهما الإسرافُ والتقتيرُ، ثم أفادتْ أنَّ السلوكَ الذي عليه عبادُ الرحمنِ في الإنفاقِ هو القَوَام بين هذينِ الطرفينِ، فلا هو إسرافٌ ولا هو تقتيرٌ بل هو بينَ بينَ والذي هو تعبيرٌ آخر عن الوسطيةِ والاعتدالِ في الإنفاقِ.

 

فالقَوامُ هو الكَونُ في الوسطِ كما هو شأنُ مِعيارِ الميزانِ الذي يتوسَّطُ ويتحكَّمُ في كفتي الميزانِ، ويُعرفُ به التوازنُ من الرجحانِ لإحدي الكفتينِ، وسُمي بالقَوامِ لاستقامتِه واعتدالِه، فحينَ تكونُ كفتا الميزانِ متوازنةً يكونُ معيارُ الميزانِ مستقيماً معتدلاً. فإلانفاقُ الذي يكونُ عليه عبادُ الرحمنِ هو الذي لا يَميلُ فيه معيارُ الميزانِ تجاهَ أحدِ طرفي الإسرافِ أو التقتيرِ. وهذا هو الذي عبَّر عنه الإمام الباقر (ع) كما في روايةِ الحلبي بالحسنةِ بين السيئتين، قال (ع) لأحدِ أبنائِه: يا بُني عليك بالحسنةِ بين السيئتينِ ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ فأسرفوا سيئةٌ، وأقتروا سيئةٌ، وكان بين ذلك قَواماً حسنة، فعليك بالحسنةِ -وهي القَوام- بين السيئتين.

 

هذا وقد تصدَّت للحضِّ على الوسطيَّةِ والإعتدالِ في الإنفاقِ آياتٌ عديدةٌ:

منها: قولُه تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾(3) والمرادُ من العفوِ هو الوسطُ والاعتدالُ في الانفاقِ، كما هو مفادُ العديدِ من الرواياتِ الواردةِ عن أهلِ البيتِ (ع) كمعتبرةِ ابنِ أبي عميرٍ، عن (بعضِ أصحابِه)، عن أبي عبدِ اللهِ (عليه السلام) في قولِ اللهِ عزَّ وجلَّ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ قال (ع): العفوُ الوسط.

 

ومِن الآياتِ الآمرةِ بالإعتدالِ والناهيةِ عن التطرُّفِ في الإنفاقِ قولُه تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾(4) فمؤدَّى الآيةِ هو الأمرُ بالإعتدالِ والوسطيَّةِ في الإنفاقِ، ذلك لأنَّ المرادَ من النهيِ عن جعلِ اليدِ مغلولةً إلى العُنُقِ هو التقتيرُ، والمرادُ من النهيِ عن بسطِها كلِّ البسطِ هو التبذيرُ والإسرافُ، فلم تبقَ سوى الحالةِ الوسطى بينهما، إذ لايخلو الإنفاقُ من إحدى هذه الحالاتِ الثلاثِ، فإذا كان التقتيرُ منهيَّاً عنه، وكان الإسرافُ منهيَّاً عنه تعيَّنَ من ذلك أنْ يكونَ المأمورُ به هو الإنفاقُ المتوازنُ والمعتَدِلُ.

 

ومعنى اليدِ المغلولةِ إلى العُنقِ هي اليدُ المصفَّدةُ والمشدودةُ إلى العُنقِ، وإذا كانت كذلك فهي غيرُ قادرةٍ على فِعلِ أيِّ شيءٍ يُنتظر فعلُه من جارحةِ اليدِ كالإعطاءِ الذي يتمُّ عادةً بواسطةِ اليدِ، فالنهيُ عن جعلِ اليدِ مغلولةً ليس نهياً عن ربطِ اليدِ إلى العُنقِ، لأنَّ ذلك لا يفعلُه عاقلٌ اختياراً بل هو تعبيرٌ أريدَ به الكنايةُ عن التقتيرِ والبُخلِ، فالعربُ إذا أرادتْ أن تُعيِّرَ أحداً بالبُخلِ قالتْ: إنَّ يدَه مغلولةٌ، وهذا هو معنى ما افترتْ به اليهودُ على اللهِ تعالى حينَ قالوا: ﴿يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ فهم أرادوا مِن هذه الفِريةِ القولَ بأنَّ الله جلَّ وعلا بخيلٌ لا يُعطي ولا يَرزُقُ (تعالى اللهُ عما يقولونَ علوَّا كبيرا)، أو أنَّهم أرادوا من قولِهم: ﴿يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ مضافاً لذلك انَّه جلَّ وعلا قد فرِغ من تقديرِ الأشياءِ منذُ الأزلِ، فلا يَملكُ تغييرَ ما كان قد قدَّره وقضاهُ، فهو عاجزٌ عن أنْ يمنحَ خيراً لم يكن مُقدَّراً منذُ الأزل أو يَصرفَ سوءً لم يكنْ مقدَّراً منذُ الأزلِ، فقلمُ التقديرِ في ذلك قد جفَّ بزعمِهم، والأمورُ لا تسيرُ وفقَ التدبيرِ اليومي للهِ جلَّ وعلا. ولهذا لا يصحُّ انتظارُ الرزقِ من اللهِ تعالى أو سؤالُه سعةَ الرزقِ، لأنَّه بزعمِهم لا يَقْدِرُ أنْ يُغيِّرَ ماهو مقدَّرٌ لكلِّ أحدٍ من رزقٍ منذُ الأزلِ، وقد شنَّعَ اللهُ تعالى على اليهودِ قولَهم: ﴿يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ فقال تعالى: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾(5) فليس من شيءٍ يحولُ دون مشيئتِه، فهو يرزقُ مَن يشاءُ بما يشاءُ، ويمنعُ رزقَه مَن يشاءُ، ومَن شاءَ له الرزقَ قد يشاءُ له الحِرمانَ منه أو مِن بعضِه، وقد يشاءُ له الزيادةَ فيه، ومن قَدَرَ عليه رزقَه قد يَمنحُه متى شاء السعةَ في الرزقِ، فيداه مبسوطتانِ، ومعنى أنَّهما مبسوطتانِ هو أنَّ له تعالى القدرةَ المطلقةَ على فعلِ ما يشاءُ.

 

فالتعبيرُ باليدِ المغلولةِ في كلا الموردين أريدَ منه الكناية إما عن التقتيرِ في الإنفاقِ والبخلِ كما في قولِه تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ﴾ أو الكناية عن العجزِ أو البخلِ كما فيما حكاهُ اللهُ تعالى عن قولِ اليهودِ: ﴿يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ﴾.

 

وأما قولُه: ﴿وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ فهو نهيٌ عن الإسرافِ والتبذيرِ، فاليدُ المبسوطةُ كل البسطِ لا يكادُ يستقرُّ فيها شيءُ، ولذلك صحَّ أنْ يُكنَّى بها عن التبذيرِ والإسرافِ، ولهذا حين سُئلَ الإمامُ الصادقُ (ع) عن الآيةِ قبضَ بيدِه على حصيَّاتٍ صغار ثم بسطَ يدَه على آخرها فلم تبقَ فيها من حصيَّةٍ، فقال هذا هو البسطُ كلُّ البسط، وعاقبةُ البسطِ كلِّ البسطِ هو أنْ يقعدَ الإنسانُ بعدَه ملوماً محسوراً، لأنَّ ما عندَه محدودٌ، فإذا أنفقَه كلَّه كان حظُّه من ذلك الندمَ والحسرةَ وتوبيخَ العقلاءِ، لأنَّه قد لا يتهيأُ له الإستعاضةُ عمَّا أنفقَ. فالبسطُ الذي يَحمدُه العقلاءُ ولا تعقُبُه حسرةٌ إنَّما يليقُ باللهِ جلَّ وعلا فهو الغنيِّ المطلقُ الذي لا تنفدُ خزائنُه، لذلك ردَّ القرآنُ على اليهودِ فريتَهم بقوله: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ وقال تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾(6).

 

فالبسطُ المجاوزُ لحدِّ الاعتدالِ مذمومٌ في حقِّ الإنسانِ كما انَّ القبضَ المجاوزَ لحدِّ الإعتدالِ مذمومٌ، ولأنَّه قد تحدَّثنا فيما سبَق عن الإسرافِ ومساوئِه فالحديثُ في المقامِ سوف يتمحَّضُ حولَ التقتيرِ والذي هو التضييقُ في الإنفاق، يقالُ قتَّرَ الرجلُ على نفسِه وعياِله فهو مقتِّرٌ بتشديدِ التاء أي أنَّه ضيَّق على نفسِه وعيالِه في النفقة اختياراً رغم قدرتِه على التوسعةِ، وعلى خلافِ ذلك حينَ يُقال أقترَ الرجلُ فإنَّه بمعنى افتقرَ، ومنه قولُه تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ﴾(7) فالموسِعُ هو الغنيُّ، والمقتِرُ هو الفقيرُ لضيقِ حالِه وقِلَّةِ ذاتِ يدِه، فهو لا ينفقُ أو هو مقلٌّ في النفقةِ لكنَّ ذلك لم ينشأ عن اختيارٍ منه وإنَّما نشأ عن ضيقِ ذاتِ يدِه، فالمُقتِرُ هو الفقيرُ، وأمَّا المقتِّر بتشديدِ التاءِ فهو المضيِّقُ اختيارًا على نفسِه أو عيالِه في النفقةِ رغم قدرتِه، فقولُه تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ يعني لم يُضيِّقوا على أنفسِهم وعيالِهم في النفقةِ، فإنَّ التقتيرَ والإقتارَ من البُخلِ الذي هو من مساوئِ الأخلاقِ، فالآيةُ تَصفُ عبادَ الرحمنِ بأنَّهم ليسوا بُخلاءَ. وقد وردَ عن الرسولِ الكريمِ (ص) انَّه قال: "خَصلتانِ لا تجتمعانِ في مؤمنٍ: البُخلُ، وسوءُ الظنِّ بالرزقِ"(8) وورد عنه (ص) انَّه قال: "خُلُقانِ لا يجتمعانِ في مؤمنٍ: الشُّحُّ، وسوءُ الخُلُق"(9).

 

وحدُّ التقتيرِ المنافي للإيمانِ والموجبِ للوقوعِ في الإثمِ هو الذي يُؤدِّي إلى منعِ الحقِّ الواجبِ، ويشهدُ لذلك ما رُوي في مجمعِ البيانِ أنَّ أحدَهم سألَ النبيَّ (ص) عن قولِه تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ فقال (ص): "مَن أعطى في غيرِ حقٍّ فقد أسرَف، ومَن منعَ عن حقٍّ فقد قَتَّرَ"(10).

 

فالنفقةُ على الزوجةِ مثلاً حقٌّ واجبٌ، فإذا منعَ الرجلُ زوجتَه اختياراً من نفقتِها أو أنقصَ منها أو أنفقَ عليها بما هو دونَ شأنِها وحاجتِها فهو مقتِّرٌ ومُستحقٌّ على تقتيرِه الإثمَ، لأنَّه منعَ حقَّاً واجباً عليه، وكذلك مَن منعَ أولادَه وأبويه ممَّا يجبُ عليه من النفقةِ أو أنفقَ عليهم بما دونَ حاجتِهم المتعارفةِ رغم قُدرتِه على الوفاءِ بحاجتِهم فمثلُه يكونُ مقتِّراً وهو موزورٌ بتقتييرِه عليهم، وكذلك مَن كان عليه حقوقٌ واجبةٌ من زكاةٍ أو خُمسٍ أو مظالمَ أو كفارةٍ فمنعَها من أربابِها أو أو أنقصَ شيئاً ممَّا وجبَ عليه منها أو أخَّرَ الموقتَ منها عن وقتِه دونَ عذرٍ فهو مُقتِّرٌ موزورٌ، وهو أولى الناسِ بوصفِ البخيلِ، ويشهدُ لذلك ما رُوي عن النبيِّ الكريمِ (ص) أنَّه قال: "إنَّما البخيلُ حقَّ البخيلِ الذي يمنعُ الزكاةَ المفروضةَ في مالِه، ويمنعُ البائنةَ في قومِه، وهو فيما سوى ذلك يُبذِّر"(11) فهو يُمسكُ مالَه عمَّا يجبُ عليه ويُنفقُه فيما لا يجبُ بل فيما يُعدُّ تضييعاً للمالِ، فهو مبذِّرٌ وهو في ذاتِ الوقتِ بخيلٌ والناسُ يحسبونَه من ذوي السخاءِ والكرمِ، وهو يَحسبُ نفسَه كذلك ولكنَّ الرسولَ (ص) وصفَه بحسبِ الرواية بأنَّه أولى الناسِ بوصفِ البخيلِ، لأنَّه أمسكَ عن أداءِ حقٍّ هو لازمٌ عليه ويُؤكِّدُ هذا المعنى أيضاً ما رُوي عن الرسولِ الكريمِ (ص) انَّه قال: "أبخلُ الناسِ من بخِلَ بما افترضَ اللهُ عليه"(12) وكذلك ما رُوي عن أميرِ المؤمنينَ (ع) أنَّه قال: "البخلُ بإخراجِ ما افترضَه اللهُ سبحانَه من الأموالِ أقبحُ البخلِ"(13).

 

فالإمتناعُ عن أداءِ الحقوقِ الواجبةِ أقبحُ البُخلِ وهو الذي تَوعَّد اللهُ فاعلَه بالنارِ، قال تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾(14).

 

ودون هذه المرتبة من البُخلِ في القبحِ التضييقُ في النفقةِ على النفسِ والعيالِ بما لا يَبلغُ حدَّ التفريطِ بالحقوقِ الواجبةِ، فإنَّ ذلك من البُخلِ الممقوتِ الذي تترتَّب عليه آثارٌ تربويَّةٌ سيئةٌ قد نتحدَّثُ عنها فيما بعدُ إنْ شاءَ اللهُ تعالى.

 

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ / فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ / إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾(15)

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

22 من جمادى الآخِرة 1437هـ - الموافق 1 أبريل 2016م

جامع الإمام الصّادق (عليه السّلام) - الدّراز


1- سورة المائدة / 2.

2- سورة الفرقان / 67.

3- سورة البقرة / 219.

4- سورة الإسراء / 29.

5- سورة المائدة / 64.

6- سورة النحل / 96.

7- سورة البقرة / 236.

8- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 74 ص 172.

9- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 74 ص 173.

10- تفسير مجمع البيان -الشيخ الطبرسي- ج 7 ص 311.

11- معاني الأخبار -الشيخ الصدوق- ص 245.

12- الأمالي -الشيخ الصدوق- ص 73.

13- "البخل بإخراج ما افترضه الله تعالى في الأموال من أقبح البخل" عيون الحكم والمواعظ -علي بن محمد الليثي الواسطي- ص 20.

14- سورة آل عمران / 180.

15- سورة الكوثر.