عفة البطن والفرج

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين وخاتم النبيين حبيب اله العالمين وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

 

اللهم اخرجنا من ظلمات الوهم وأكرمنا بنور الفهم وافتح علينا ابواب رحمتك وانشر علينا خزائن علومك.

 

العفّة أعلى مراتب العبادة

يقول الإمام الباقر (ع): "ما من عبادةٍ أفضل من عفَّة بطنٍ وفرجٍ، وما من شيءٍ أحبُّ إلى الله تعالى مِن أنْ يُسأل، وما يدفع القضاء إلَّا الدعاء، وإنَّ أسرع الخيرِ ثواباً البرّ، وإنَّ أسرع الشرِّ عقوبةً البغي، وكفى بالمرء عيباً أن يُبصِرَ من الناس ما يعمى عنه مِن نفسه، وأنْ يأمر الناس بما لا يستطيع التحوُّل عنه، وأنْ يُؤذي جليسه بما لا يعنيه"(1).

 

هذه فقراتٌ قصار، لو التزمها إنسانٌ لبلغ الكمال، ولو التزمها مجتمعٌ لكان أكثر المجتمعات انتظاماً، وأكثرها كمالاً، إلَّا أنَّ الناس لمَّا أن انصرفوا عن الهدى، وعن قيم الدِّين الحنيف، تقهقروا وتراجعوا، وتسافلت بهم الدنيا، وابتعدت بهم عن حظِّهم الذي أراده الله تعالى لهم.

 

نقف على الفقرة الأولى والتي أفاد الإمام (ع) فيها بأنَّ العبادة ليست كما يتوهم الناس، العبادة على مراتب، وليس الحجُّ والعمرةُ والصلاةُ والصومُ هو أعلى مراتب العبادة، نعم هي من المراتب السامية، إلَّا أنَّها ليست في أعلى مراتب العبادة، إنَّ أعلى المراتب هي عفةُ البطن والفرج، فإذا عفَّ بطنُ الإنسان وفرجُه، تهيَّأت روحه للعبادة، أعني الصلاة والحج والصيام. وأمَّا إذا لم يعفَّ بطنه وفرجه، فإنَّه وإنْ صلى إلَّا أنَّ بينه وبين التوجُّه والتقرُّب حُجُباً وحواجزَ سميكة تحول بينه وبين الخشوع، وتحول بينه وبين التضرُّع لله تعالى، وأيُّ معنىً لهذه العبادة التي لا تُقرِّب إلى الله؟ وأيُّ معنى لهذه العبادة التي لا يستشعر الانسانُ معها الخشوع، ولا يستشعر معها القرب لله تعالى؟!، إذن، عفةُ الفرجِ والبطنِ هي وسيلةٌ لتحصيل آثار العبادة المعنوية.

 

ما معنى عفة البطن؟ وما معنى عفة الفرج؟

المقصود من عفَّة البطن والفرج

أ- معنى عفّة البطن

يتوهُّم الكثير من الناس أنّ معنى ذلك هو امتناع المؤمن عن أكل الخنزير والميتة وعن تناول الخمر والنجاسات إلا أنَّ الأمر ليس كذلك، فهذه مرتبة عالية من عفة البطن لكنَّ حدود المعنى لعفة البطن لا يتلخص في ذلك بل يشتمل ما هو أوسع من ذلك، ولهذا فقد يكون قرصاً من الشعير يتناوله الإنسان بغير وجه حق يكون منشًأ لدخول النار.

 

كثير منا سينكشف له يوم القيامة أنَّ منشأَ دخوله النار هو بطنه، وحينئذٍ يتساءل: إنِّي كنتُ ممتنعاً عن أكل الميتة، ولم أكن أتناول المُسكر أو النَّجس، فكيف كان بطني هو سبب دخولي لجهنم -والعياذ بالله-؟! هذا لأنه وإنْ عفَّ بطنه عن هذه الأمور، إلَّا أنَّه أهمل وأغفل الكثير من المحرَّمات التي تبدو من الطيِّبات، فأكل المغصوب- وإن كان حقيراً -كأكل الخنزير، قد يتناول الإنسان طعاماً دون إذن صاحبه، ودون رضاً منه، أو عن حياءٍ من صاحبه، فهذا من أكل الحرام، ويكون من فعل ذلك ممن لم يعفَّ بطنه، حينما أن يستولي الإنسان على أموال اليتامى والصغار، ويأكلها دون تورّع، ودونرعاية فهذا ممن لم يعفَّ بطنه. حين يستولي الإنسان على حقوق الضِّعاف من أهله، ثم يأكل منها فهو ممن لم يعفّ بطنه.

 

الكثير من الناس يجترح مثل هذه الذنوب وقد لا يستشعر الذنب، يأكل حقَّ أهل البيت (ع)، فيأكل الخمس دون أدنى استجرام، ودون أن يشعر أنَّه يأكل أموال اليتامى -يتامى آل محمد-، ولا يؤدي حقَّ الله من خمس، ومظالم، ويأكلها، ويطعم أبناءه إياها، وهو يقول أو يدعي لنفسه أنه ممن عفَّ بطنه، يأكل أموال إخوته بعناوين متعددة، بالفحوى مثلا، ويظن بأن الأمر لا يستحق التوقف، فما هو إلّا طعام قليل، أو أموال قليلة، يستدين من بعض الناس فلا يؤدِّي ما عليه من ديون، هذا ممن يأكل الحرام، وكذلك من يماطل في أداء الدين، فبعد أن يستدين، ويستعجل صاحبه حتى يعطيه ما يطلب من دين ولكنه حين الوفاء يماطل، وهو يملك أن يفي بدينه فلا يفي به، فهذا ممن لم يعفَّ بطنه. عفة البطن ليست هي الإمتناع عن أكل الميتة وحسب، ثمة من عليه حقوقٌ لا يراعيها، وعليه ديون لا يؤدِّيها -تسامحاً وإهمالاً، أو تسويفاً-، ثم ينتظر أن يكون ممن يرضى الله عنهم؟! فهو إذا وقف إلى الصلاة أقامها، ويتمُّ الحج والعمرة، بل قد يحجّ في كلِّ عام، ويزور مقامات المعصومين(ع)، والحال أنَّ عليه ديونا للناس لا يؤديها وحقوقا، لله عز وجل لم يكترث بأدائها، ويحسب أنه في طاعة وإنما هو في معصية. فالطريق إلى حجِّ بيت الله إذا كان مستلزماً لتأخير أداء الديون التي عليه، هذا الطريق محفوف بلهب جهنم، هكذا علمنا أهل البيت (ع). وأفادوا: إنَّ عفة البطن تعني حبس النفس والامتناع عن تناول مطلق الحرام مهما كان حقيراً، فعفة البطن إذن ليست مقصورة على امتناع المؤمن عن أكل الميتة، ولحم الخنزير وحسب. فأكثر الناس لا يأكل الميتة، وأكثر الناس لا يأكل لحم الخنزير، ولا يتناول المسكر -أجلكم الله جميعا-، ولكن قد يجترح ذنبا أكبر؛ فيأكل الرِّبا. إنّ أكل الخنزير لم يعبِّر عنه القرآن بأنه حرب لله تعالى، ولكنَّ أكل الربا حرب لله ولرسوله، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ/ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ..﴾(2) والقرآن لم يقل أن من أكل الخنزير فإنما يأكل في بطنه ناراً ولكن من أكل مال اليتيم فهو يأكل في بطنه ناراً. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾(3).

 

ب- معنى عفَّة الفَرْج

ليس معنى عفَّة الفّرْج أن يمتنع الإنسان عن الزنا وحسب، فمن كان يسير في طريق الزنا ولكنَّه قد لا يتفق له أن يرتكب هذه الفاحشة العظمى، فهذا لن يُكتب عند الله بأنه عفيف الفرج؛ لأن النَّظر الحرام ينافي عفَّة الفرج قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ / إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ / فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾(4) أي المتجاوزون لحدود الله. فالنظر الحرام، والحديث الحرام، والمجلس الحرام، كلُّ ذلك من العدوان والتجاوز لحدود الله وهو ما يُنافي عفَّة الفرج. فلا يكفي أن يمتنع الإنسان عن الزنا لكي يكون عفيف الفرج، فهو لو امتنع عن الزنا ولكنه لم يمتنع عن النظر إلى الصور المنافية للعفة والحشمة بواسطة الأجهزة الحديثة فهو ممن لم يعف فرجه بل هو مصداق لقوله تعالى: ﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾(5) وكذلك من امتنع عن الزنا ولم يمتنع عن المزاح ومفاكهة النساء ولم تمتنع المرأة عن مفاكهة الرجال ومضاحكتهم فإن مثل ذلك ينافي عفة الفرج. الكثير من الناس كانوا يستوحشون من الزنا ولكنَّهم ونتيجة التَّساهل في مُقدَّماته تحوّل هذا الإستيحاش إلى أُنس، أنسٌ بالفاحشة، وقد وقفنا على قضايا كثيرة يأنس الإنسان -رغم ايمانه الظاهر- بالفاحشة؛ بدعوى أنَّ ذلك ناشئ عن عُلقةٍ، وعن عُشقٍ وحبّ! كَثُر الزنا في بين الناس ولذلك كَثُر موت الفُجئة، وازددنا فقراً وتعاسة. تحسبون أنَّ الله عز وجل لا يعاقب الإنسان بسلطان جائر؟ قد يكون تحكُّم سلاطين الجور في رقابنا، وفي أرزاقنا، وفي مقدّراتنا، عقوبة لنا؛ لأننا ابتعدنا عن خطِّ التقوى والإيمان والعمل الصالح. إنَّ الله -عز وجل- قد يعاقب الإنسان في رزقه وفي أمنه؛ نتيجة جوره على نفسه، وتجاوزه لحدود ربِّه. لا نفهم مبرِّراً لما يحصل في أوساط المؤمنين من علاقات وطيدة بين الجنسين بعنوان الزمالة في العمل، أو الزمالة في الدراسة! هذا أمرٌ فظيع، استعظمه الله، واستعظمه رسول الله، واستعظمه أهل بيت رسول الله (ص)، واستصغرناه وأَنسنا به، وألفناه واعتبرناه أمراً مستساغاً! فانجرَّ الأمر، وزلُقت القَدَم، ووقعنا في الكثير من المحذورات الشرعيّة دون أن نرى لها أيّ وحشةٍ في نفوسنا!

 

أهل البيت (ع) أكَّدوا على أنه إذا عفَّ البطن، وعفَّ الفرج، كُفِيَ الإنسان أكثر مصادر الذنوب. لو تبحثون عن مناشئ الذنب عند الإنسان لوجدتم أنَّ أكثر هذه المناشئ أحد امرين: شهوة البطن، وشهوة الفرج. فلشهوة البطن يحتال على الناس، ويغشّ، ويمكر، ويُرابي، ويكذب؛ ليتحصَّل على الأموال. ويترتَّب على ذلك الجشع، والطمع والشراهة، كلها ذنوب جوارحيَّة، وأمراض قلبية، تنشأ عن شهوة البطن.

 

أما شهوة الفرج فهي كذلك منشأٌ لكثير من الذنوب. أهل البيت (ع) أفادوا: إن الإنسان المؤمن إذا حادث المراة الأجنبية، وأكثر من الحديث معها، نبت النِّفاق في قلبه، وأي شيئ أسوء من النفاق؟ ألم يعد اللهُ عز وجل المنافقين بالخلود في قعر جهنم؟: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾(6) أيحسن بنا بعد ذلك أن نتساهل في الأمر، ونضاحك النساء، ونتحادث معهنّ دون حواجز، ثم نقول إننا محصَّنون عن الوقوع في الفاحشة! كيف يكون التحصن دون تحرٍّ ومحاذرة، يقول أهل البيت (ع): "من رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه"(7)، أنت على شفير، فإذا حِمت حوله ففي النهاية سوف تسقط.

 

إذن فشهوة البطن، والفرج، هما مصدر الكثير من الذنوب، لذلك كان العفاف أحبّ إلى الله -عز وجل- من الكثير من الملكات. وعبَّر عنها الإمام الباقر (ع) بأنَّها من أعلى مراتب العبادة، ويقول الإمام عليٌّ (ع): "ما المجاهدُ الشهيد في سبيل الله بأعظم أجراً ممن قدر فعفّ، يكاد العفيف أن يكون ملَكا من الملائكة"(8)، فالعفة ليست أمراً ميسوراً فهي بحاجة إلى مجاهدة، وهي بحاجة إلى قلبٍ قويّ، وإرادة صلبة، حينها يتمكَّن من تجاوز المُغريات، فإذا تجاوزها كاد أن يكون ملَكاً من الملائكة، وهو في مرتبة المجاهد، والمجاهدون على مراتب، وأعلى مراتب الجهاد الشَّهادة، ويقول الإمام: "وما المجاهد الشهيد بأعظم أجرا من العفيف"!.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- جامع أحاديث الشيعة ج14 / ص205، كشف الغمة -ابن أبي الفتح الإربلي- ج2 / ص329-330.

2- سورة البقرة / 278-279.

3- سورة النساء / 10.

4- سورة المؤمنون / 5-7.

5- سورة المؤمنون / 7.

6- سورة النساء / 145.

7- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص167 .

8- نهج البلاغة -خطب أمير المؤمنين- ص559 .