معنى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾

أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم

بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم

 

الْحَمْدُ لِلَّه ربِّ العالمين، الْمُرْتَدِي بِالْجَلَالِ بِلَا تَمْثِيلٍ، والْمُسْتَوِي عَلَى الْعَرْشِ بِغَيْرِ زَوَالٍ، والْمُتَعَالِي عَلَى الْخَلْقِ بِلَا تَبَاعُدٍ مِنْهُمْ ولَا مُلَامَسَةٍ مِنْه لَهُمْ، لَيْسَ لَه حَدٌّ يُنْتَهَى إلى حَدِّه، ولَا لَه مِثْلٌ فَيُعْرَفَ بِمِثْلِه، ذَلَّ مَنْ تَجَبَّرَ غَيْرَه، وصَغُرَ مَنْ تَكَبَّرَ دُونَه، وتَوَاضَعَتِ الأَشْيَاءُ لِعَظَمَتِه، وانْقَادَتْ لِسُلْطَانِه وعِزَّتِه، وكَلَّتْ عَنْ إِدْرَاكِه طُرُوفُ الْعُيُونِ، وقَصُرَتْ دُونَ بُلُوغِ صِفَتِه أَوْهَامُ الْخَلَائِقِ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه (ص).

 

فَاتَّقُوا اللَّه عبادَ اللهِ وأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، ولَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ شَيْءٍ مِمَّا عِنْدَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ أَنْ تُصِيبُوه بِمَعْصِيَةِ اللَّه، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَه إِلَّا بِالطَّاعَةِ.

 

يقولُ اللهُ تعالى في مُحكَمِ كتابِه المجيدِ: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾(1)

 

الشهودُ بمعنى الحضور:

الآيةُ المباركةُ من سورةِ الفُرقانِ واقعةٌ في سِياقِ الآياتِ المتصدِّيةِ لتَعدادِ صفاتِ عبادِ الرحمنِ، فالآيةُ تصفُ عبادَ الرحمنِ بأنَّهم لا يَشهدونَ الزورَ، ومعنى انَّهم لا يَشهدونَ الزورَ هو انَّهم لا يَحضرونَ مجالسَ الزورِ، فالشهودُ في الآيةِ بمعنى الحضورِ، كما هو معناه في قولِه تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾(2) أي فمَنْ حضرَ منكمُ الشهرَ فليصُمْه.

 

ولو كان المرادُ من الآيةِ وصفَ المؤمنين بأنَّهم لا يُدلونَ بشهادةِ الزورِ كما احتملَ البعضُ لكان المناسبُ أن يَتعدَّى الفعلُ ﴿يَشْهَدُونَ﴾ إلى مفعولِه بالباء فيقالُ لا يشهدونَ بالزورِ، نعم الآيةُ تتضمَّنُ هذا المعنى، وذلك لأنَّه إذا كان من صفاتِ المؤمنِ أنَّه لا يحضرُ مجالسَ الزورِ فأولى من ذلكَ أنَّه لا يُدلي بشهادةِ الزور، لأنَّه حينَ يحضرُ مجالسَ الزورِ قد لا يفعلُ شيئاً سوى الحضورِ ورغم ذلك فهو ممتنعٌ عن الحضورِ لهذه المجالسِ، فإذا كانت هذه هي صفتُه فهو متَّصفٌ -لا محالة- بأنَّه لا يُدلي بشهادةِ الزورِ من طريقٍ أولى، فإذا قيل: إنَّ زيداً لا يحضرُ مجالسَ الغيبةِ فإنَّ المتفاهمَ عرفاً من ذلك هو انَّه لا يُقارفُ الغيبة، لانَّه إذا كان قد نزَّه نفسَه عن حضورِ مجالسِ الغيبةِ فإنَّه يكونُ قد نزَّه نفسَه عن مقارفةِ الغيبةِ من طريقٍ أولى.

 

فالآيةُ المباركةُ -إذن- تصفُ المؤمنين بأنَّهم لا يحضرونَ مجالسَ الزورِ وتصفُهم ضِمناً بأنَّهم لا يُدلونَ بشهادةِ الزورِ.

 

معنى الزورِ بحسبِ مدلولِه العرفيِّ واللغويِّ:

وأمَّا ما هو المرادُ من الزورِ فهو بحسبِ مدلولِه العرفيِّ يعنى التمويهَ والتزيينَ لمثلِ الباطلِ ليظهرَ في مظهرِ الحقِّ، ومن ذلك اضفاءُ أماراتِ الصدقِ على الخبرِ الكاذبِ ليظهرَ في مظهرِ الصدقِ، فالزورُ أخصُّ من الكذبِ من هذه الجهةِ، فقد يكونُ الكذبُ مفضوحاً فلا يُعبَّر عنه في مثل هذا الفرضِ انَّه من الزورِ، وقد يكونُ الكذبُ مزوَّقاً ومرتَّباً ومكتنِفاً بما يُوجبُ التلبيسَ على السامعِ فيحسبُه لذلك صدقاً، فهذا هو الزور، فالزورُ هو الكذبُ غيرُ المكشوفِ الذي يعتني صاحبُه بتنميقِه وتزويقِه ووضعِه في سياقٍ يخفى معه على السامعِ انَّه كذبٌ، فهذا هو الزورُ.

 

من الزورِ تلبيسُ الباطلِ لباسَ الحقِّ:

ومن الزورِ صَوغُ الباطلِ من الأدلةِ أو الأفكارِ أو العقائدِ بحيثُ يتوهُّمُ الغافلُ أو المتسرِّعُ أو ضعيفُ العقلِ أنَّها صحيحةٌ ومطابِقةٌ للحقِّ والواقعِ، والحالُ انَّها ليست سوى أوهامٍ وضلالاتٍ، فالباطلُ قد يكونُ مفضوحاً وبيِّنُ الفسادِ فهذا لا يُوصفُ بأنَّه من الزورِ، وقد يُلبَّسُ الباطلُ لباسَ الحقِّ ويُصاغُ في قوالبَ تبدو للمتسرِّعِ أنَّها برهانية وانَّها حقٌّ فمثلُ هذا الباطلِ يُقالُ عنه انَّه من الزورِ. فإذن ليس كلُّ باطلٍ فهو من الزورِ، فالباطلُ الذي يصدقُ عليه وصفُ الزورِ هو الباطلُ الذي يَظهرُ في مظهرِ الحقِّ والصوابِ، فالزورُ في هذا الموردِ هو الباطلُ الموجبُ للإفتتانِ والاغترارِ المساوق لمعنى التضليل.

 

من الزور تزيينُ القبيح ليظهرَ في مظهرِ الحسَن:

وكذلك فإنَّ من الزورِ تزيينُ القبيحِ من الخصالِ أو الأفعالِ ليظهرَ في مظهرِ الحسَنِ، كما لو وصفَ أحدُهم ضربَ اليتيمِ بغيرِ وجهِ حقٍّ أنَّه تأديبٌ أو وصفَ الغشَّ والاختلاسَ والغدرَ بأنَّها دهاءٌ وذكاءٌ ورجاحةُ عقلٍ أو وصفَ أحدُهم السلبَ والنهبَ وسفكَ الدمِ الحرامِ بأنَّه حزمٌ وعزمٌ وبأسٌ.

 

فضربُ اليتيمِ تشفِّياً والغشُ والاختلاسُ والسلبُ والنهبُ وسفكُ الدمِ الحرامِ كلُّها من الظلمِ القبيحِ، فحين تُسمَّى بغيرِ مسمَّياتِها وتُضفى عليها الأسماءُ المُستحسَنةِ فذلك من الزورِ. وكذلك حين تُوصفُ الخَلاعةُ كالرقصِ في محافلِ الرجالِ بأنُّه من الفنِّ والإبداعِ، ويُوصفُ المجونُ والتهتُّكُ والطربُ بأنَّه من الفنِّ، ويوصفُ الخمرُ بأنَّه مشروبٌ روحيٌّ، وتُصنَّفُ الفاحشةُ في سياقِ الحريةِ الشخصيَّةِ ويجعلُ القمارُ في عداد التسليةِ والترويحِ عن النفسِ فمثلُ هذه التوصيفاتِ والسياقاتِ مشمولةٌ لعنوانِ الزورِ.

 

والمتحصَّلُ انَّ المرادَ من الزورِ بحسب مدلولِه العرفيِّ واللغويِّ معناه التمويهُ والتلبيسُ والتزيينُ للباطلِ والخطأِ والشرورِ لإظهارِها في مظهرِ الحقِّ والصوابِ والخيرِ.

 

مجالسُ الزورِ لا تختصُّ بمجالسِ الإدلاءِ بشهادةِ الزور:

وعليه فمعنى قولِه تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ هو مدحُ المؤمنينَ بأنَّهم لا يحضرونَ مجالسَ الزورِ، فهم لا يحضرونَ المجالسَ التي يتمُّ فيها الكذبُ والافتراءُ على الناسِ أو القذفُ لأعراضِهم، فمجالسُ الزورِ لا تختصُّ بمجلسِ القضاءِ الذي يتمُّ فيه الإدلاءُ بشهادةِ الزورِ والكذبِ على رجلٍ أو امرأةٍ بل تشملُ مطلقَ المجالسِ التي يتمُّ فيها التناولُ لأعراضِ الناسِ بالكذبِ والافتراءِ والقذفِ، فهذا هو المصداقُ الأولُ لمجالسِ الزورِ التي يتنزَّه المؤمنونَ عن حضورِها وشهودِها.

 

المصداقُ الثاني لمجالسِ الزور:

والمصداقُ الثاني هو الحضورُ لمجالسِ الضلالِ التي يتمُّ فيها التزيينُ للأفكارِ والمعتقداتِ الباطلةِ لإظهارِها في مظهرِ الأفكارِ الصائبةِ والمحقَّةِ، ويتمُّ فيها أيضا التناولُ لآياتِ اللهِ وشرائعِه إما بالسُخريةِ منها أو حرفِها عن مساقِها أو التزهيدِ فيها أو ما أشبهَ ذلك، فمثلُ هذه المجالسِ هي من أجلى مصاديقِ مجالسِ الزورِ التي يتنزَّه المؤمنونَ عن حضورِها وشهودِها، وقد نهى القرآنُ في أكثرِ من موضعٍ عن ارتيادِ مثلِ هذه المجالسِ، قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾(3).

 

المصداقُ الثالثُ لمجالسِ الزور:

والمصداقُ الثالثُ من مصاديقِ مجالسِ الزورِ هي المجالسُ التي تُزيِّنُ المعصيةَ وتبعثُ على الإستئناسِ بها إما بتناولِ الحديثِ عنها بما يُوجبُ التهوينَ لها ورفعَ الإستيحاشِ منها كأنْ يتحدَّثُ المتحدِّثُ فيها عن الفواحشِ فيبرِّرُ لاقترافِها بالقولِ مثلاً: إنَّها حاجاتٌ انسانيَّةٌ تقتضيها الفطرةُ ويُشنِّعُ على مَن يَجعلُها من القبائحِ أو يتحدَّثُ فيها المتحدِّثُ عن المعصيةِ ويُزيِّنُها للسامعينَ ويُغريهم بمقارفتِها ويُرغِّبُهم في التعاطي لها. فمثلُ هذا المجلسِ يكونُ من مجالسِ الزورِ، وكذلك فإنَّ المجالسَ التي يتمُّ فيها الاقترافُ الفعليُّ للمعصيةِ تكونُ من مجالسِ الزورِ، فإنَّ أثرَها في تزيينِ المعصيةِ والإغراءِ بها ونفيِ الإستيحاشِ منها أبلغُ من تأثيرِ الحديثِ الذي يتمُّ فيه التبريرُ للمعصيةِ والترغيبُ في اقترافِها.

 

فحينَ يرتادُ الإنسانُ مجلساً يُلعبُ فيه القمارُ مثلاً فإنَّ أثرَ هذا الحضورِ لو تكرَّرَ هو انتفاءُ الاستيحاشِ من هذه المعصيةِ والاستصغارُ لشأنِها رغم انَّها عظيمةٌ في الدينِ، وبعد أن ينتفي الإستيحاشُ من هذه المعصيةِ عن النفسِ يحلُّ محلَّها بعدَ حينٍ الأنسُ بها ثم الرغبةُ فيها ثم المقارفةُ لها دون تأثُّمٍ ولا مبالاةٍ. وذلك إنَّما نشأَ عن الحضورِ أولاً لهذا المجلسِ، ولهذا وردَ النهيُ المشدَّدُ عن النظرِ إلى مَن يلعبُ بآلاتِ القمارِ، ووردَ النهيُ كذلك عن الحضورِ إلى مائدةٍ يُشربُ عليها الخمرُ، ذلك لأنَّها من مجالسِ الزورِ لاقتضائِها تزيينَ المعصيةِ والأنسَ بها.

 

منشأُ اعتبارِ مجالسِ الغناءِ من مجالسِ الزور:

وممَّا ذكرناه يتَّضحُ منشأُ تطبيقِ أهلِ البيتِ (ع) الآيةَ الشريفةَ على الغناءِ، فقد وردَ عن أهلِ البيت (ع) انَّ المرادَ من قولِه تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ هو انَّ عبادَ الرحمنِ لا يحضرون مجالسَ الغناءِ، فمِن ذلك ما وردَ في الصحيحِ عن أبي الصباحِ الكنانيِّ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) فِي قَوْلِه عَزَّ وجَلَّ: ﴿والَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ قَالَ (ع): الْغِنَاءُ"(4) أي لا يشهدونَ ولا يَحضرونَ مجالسِ الغناءِ.

 

فمنشأُ اعتبارِ مجالسِ الغناءِ من مجالسِ الزورِ هو انَّ حضورَها وشهودَها يَنتِجُ عنه الاستئناسُ بهذه المعصيةِ، إذ إنَّ الحضورَ والشهودَ له أبلغُ الأثرِ في تزيينِ هذه المعصيةِ في النفسِ والأُنسِ بها وارتفاعِ الاستيحاشِ منها.

 

وثمةَ منشأٌ آخر ظاهراً لاعتبارِ شهودِ الغناءِ وحضورِ مجالسِه شهوداً وحضوراً لمجالسِ الزورِ، وهذا المنشأُ هو انَّ قصائدَ الغناءِ وأشعارَه تتضمَّنُ غالبًا الإغراءُ بالمعاصي وتزيينُها في نفسِ المتلقِّي بل وتُوثِّقُ حالةَ العشقِ والرغبةِ في مقارفةِ هذه المعاصي وتصوغُها في قوالبَ انسانيَّةٍ ووجدانيَّةٍ تُفضي إلى الحنينِ مثلاً للمرأةِ الصبيحةِ والنظرِ إلى مُحيَّاها والشوقِ إلى محادثتِها والخلوةِ بها ومكابرةِ الأعرافِ والأخطارِ في سبيلِ وِصَالِها. ولهذا يرقُّ دينُ الرجل ويرقُّ دينُ المرأةِ بالإصغاءِ إلى هذه المعاني، وتَهونُ عليه وعليها المعصيةُ، ومن هنا أكَّدتِ الرواياتُ الواردةُ عن أهلِ البيتِ(ع) أنَّ الغناءَ يُنبتُ النفاقَ في القلبِ، كما في مثل صحيحةِ عَنْبَسَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "اسْتِمَاعُ الْغِنَاءِ واللَّهْوِ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الزَّرْعَ"(5).

 

بل إنَّ تزيينَ الغناءِ للمعاني الباطلةِ في النفسِ يحصلُ حتى لو كانت معاني ألفاظِ الغناءِ خاليةً من الإغراءِ بالمعصيةِ فإنَّ الإيحاءاتِ التي تُحدثُها ايقاعاتُ الصوتِ الغنائي تُفضي إلى ذاتِ الأثرِ من التزيينِ للباطلِ، ولهذا يَشعرُ الإنسانُ بالخفَّةِ بالطربِ والنزوعِ للهو والحنينِ للمعاني الباطلةِ حتى لو كانتْ لغةُ الغناءِ غيرَ مفهومةٍ لدى المتلقِّي كما لو كانت لغةُ الغناءِ من غيرِ لغة المتلقِّي بل إنَّ هذه الإيحاءاتِ تَحدثُ في النفسِ حتى لو كانت معاني ألفاظِ الغناءِ صحيحةً كما لو كانتْ قرآناً. ولهذا وردَ النهيُ المشدَّدُ عن تلاوةِ القرآنِ بألحانِ أهلِ الفسوقِ.

 

فإيقاعاتُ الصوتِ الغنائي تُنبتُ النفاقَ في النفسِ مطلقاً وتُحدِثُ في النفسِ النزوعَ للَّهو والطربِ وتمجُّ العقلَ وتبعثُ في الإنسانِ الرغبةَ في البقاءِ تحتَ تأثيرِ هذه الأجواءِ، ولهذا ورد عن أهلِ البيتِ (ع) انَّ ايقاعاتِ أصواتِ المعازفِ تُنبتُ النفاقَ رغم انَّها صوتٌ بلا ألفاظٍ، فمِن ذلك ما رواه الكلينيُّ بسندِه عن كُلَيْبٍ الصَّيْدَاوِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) يَقُولُ: "ضَرْبُ الْعِيدَانِ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْخُضْرَةَ"(6).

 

مجالسُ الغناءِ من مجالسِ الزورِ وقولُ الغناءِ من قولِ الزورِ:

ومن ذلك يتَّضحُ منشأُ اعتبارِ مجالسِ الغناءِ والمعازفِ من مجالسِ الزورِ التي لا يشهدُها عبادُ الرحمنِ. وإذا كانوا لا يشهدونَ الغناءَ ولا يَحضرونَ محافلَه فهم لا يتعاطونَه من طريقٍ أولى كما اتَّضح ذلك ممَّا تقدَّم في بدايةِ الحديث. على أنَّ الرواياتِ قد فسَّرتْ قولَ الزورِ بالغناءِ، كما في معتبرةِ زَيْدٍ الشَّحَّامِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) عَنْ قَوْلِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثانِ واجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾(7) فَقَالَ: الرِّجْسُ مِنَ الأَوْثَانِ الشِّطْرَنْجُ، وقَوْلُ الزُّورِ الْغِنَاءُ"(8) فمجالسُ الغناءِ إذنْ من مجالسِ الزورِ، وقولُ الغناءِ من قولِ الزورِ، فقولُ الزورِ المنهيُّ عنه لا يختصُّ بقولِ الكذبِ بل يشملُ مثلَ قولِ الغناءِ كما اتَّضحَ ممَّا تقدم.

 

وهنا أودُّ التنبيهَ على أمرينِ موجزينِ وأختمُ الحديثَ:

الأمر الأول: إنَّ المرادَ من النهي عن الحضورِ لمجالسِ الزورِ بمختلفِ مصاديقها كالمجالسِ التي يتمُّ فيها التناولُ للكذبِ والقذفِ أو المجالسِ التي يتمُّ فيها التضليلُ والتسويقُ للأفكارِ المنافيةِ للدينِ أو المجالسِ التي يتمُّ فيها الترويجُ للمعاصي والتزيينُ لها أو مجالسِ الغناءِ والطربِ، إنَّ المرادَ من النهي عن حضورِ هذه المجالسِ لا يعني النهيَ عن ارتيادِ هذه المجالسِ وحسب بل إنَّ النهيَ يشملُ مثلَ متابعتِها عبر القنواتِ الفضائيَّةِ ووسائلِ التواصلِ الاجتماعي وغيرِها، فإنَّ ذلك كلَّه يدخلُ تحتَ عنوانِ الشهودِ للزورِ المنهيِّ عنه في الآيةِ المباركة والرواياتِ الشريفةِ.

 

الأمر الثاني: هو أنَّه قد اتَّضحَ أنَّ أثرَ الغناءِ في القلبِ هو النفاقُ، وهو أسوأُ أثرٍ على الإطلاقِ، والظاهرُ بملاحظةِ طبيعةِ التناسبِ التكوينيِّ بين الغناءِ والنفاقِ بالنحو الذي أشرتُ إليه أنَّ هذا الأثرَ الممقوتَ لا يدورُ مدارَ التعمُّدِ والغفلةِ، فمَن تعاطى الغناءَ وإنْ كان غافلاً كان على خطرِ الابتلاءِ بهذا الأثرِ الممقوتِ، ولذلك تجدرُ بالمؤمنِ المتورِّعِ المحاذرةُ ليس من تعاطي الغناءِ وحسب بل المحاذرةُ من الإقترابِ إلى ما يُشبهُ الغناءَ، فإنَّ أميرَ المؤمنينَ (ع) يقولُ فيما رُوي عنه: "حلالٌ بيِّنٌ، وحرامٌ بيِّنٌ، وشبهاتٌ بين ذلك، فمن تركَ ما اشتبهَ عليه من الإثمِ فهو لما استبانَ له أتركُ، والمعاصي حِمى اللهِ، فمن يرتعُ حولَها يوشِك أنْ يدخلَها"(9).

 

فإنَّ الفاصلَ -أيُّها الإخوة- بين الصوتِ الغنائيِّ والترجيعِ الصوتي الذي يتعاطاهُ بعضُ الشبابِ في العزاءِ والمديحِ هذه الأيام أدقُّ من حدِّ السيفِ، فقد يدخلُ في الغناءِ ويخرجُ دونَ أنْ يَشعُرَ، فيكونُ قد أساءَ لأهلِ البيتِ ولسيدِ الشهداءِ (ع) وهو يطمحُ أن يكونَ قد أحسنَ، فحذارِ من خِداعِ النفسِ والتذرُّعِ بمثلِ الإبداعِ والفنِ، فإنَّ اللهَ تعالى لا يُطاعُ بالشبهاتِ.

 

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ / فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ / إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾(10)

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

21 من رجب 1437هـ  - الموافق 29 أبريل 2016م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز.


1- سورة الفرقان / 72.

2- سورة البقرة / 185.

3- سورة الأنعام / 68.

4- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 17 ص 304.

5- عن عنبسة عن أبي عبد الله (ع) قال: استماع اللهو والغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء الزرع" وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 17 ص 316.

6- الكافي -الشيخ الكليني- ج 6 ص 434.

7- سورة الحج / 30.

8- الكافي -الشيخ الكليني- ج 6 ص 435.

9- من لا يحضره الفقيه -الشيخ الصدوق- ج 4 ص 75.

10- سورة الكوثر.