حديث حول سورة الطور (2)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وخاتم النبيين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد -اللهم صل على محمد وآل محمد- وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

 

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وأفتح علينا أبواب رحمتك، وأنشر علينا خزائن علومك.

 

قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَالطُّورِ / وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ / فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ / وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ / وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ / وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ / إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ / مَا لَهُ مِن دَافِعٍ﴾(1)

صدق الله مولانا العلي العظيم

 

توقَّفنا في جلسةٍ سابقة عند الآية الأولى من سورة الطور وهي قوله تعالى: ﴿وَالطُّورِ﴾ وقلنا: إنَّ الله تعالى أقسم في هذه الآية المباركة بالطور، وأنَّ الطور يُطلق ويُراد منه الجبل العظيم المعبَّر عنه بالطَوْد، ولكنَّه وكما هو رأيُ أكثر المفسِّرين والعلماء أنَّ المراد من الطور في هذه الآية جبلٌ مخصوص معيَّن، وهو الجبل الذي أوحى الله عنده إلى نبيِّه موسى (ع).

 

الطور جبلٌ مقدَّس:

والواضح من آياتٍ عديدة أنَّ الله عزوجل قدَّس هذا الجبل وبارك فيه وجعل له شأناً متميِّزاً كما يُستفاد ذلك من مثل قوله تعالى مخاطباً موسى (ع): ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾(2) فالآية وصفت الوادي الذي كان فيه جبل الطور وصفته بالوادِي المقدَّس، وقال تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ﴾(3)، فوصف البقعة التي فيها جبل الطور بأنَّها بقعةٌ مباركة، ولعلَّه لذلك أقسم القرآن الكريم بالطور في موردين:

 

أقسم به في سورة الطور في مطلعها فقال تعالى: ﴿وَالطُّورِ﴾.

 

وأقسم بالطور في سورة التين فقال تعالى: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ / وَطُورِ سِينِينَ﴾(4). وسينين وسيناء اسمان لمسمَّىً واحد أو وصفان لموصوفٍ واحد، وهو الجبل الذي كلَّم الله فيه أو عنده موسى تكليما، ولقد كان لهذا الجبل المبارك والمقدَّس شؤوناتٌ عديدة ذكرها القرآن الكريم أو ذكر بعضها، ونحن هنا نٌشير بنحو الإيجاز الشديد إلى بعض هذه الشؤونات التي وقعت وكان لها أثرٌ واضح في تاريخ الرسالات.

 

شئوناتٌ وقعت لجبل الطور:

من هذه الشؤونات التي أشار إليها القرآن الكريم هي أن هذا الجبل كان هو الموضع الذي كلَّم اللهُ عزوجل فيه موسى تكليما، ولعلَّه النبيُّ الوحيد الذي كانت وسيلة الإيحاء إليه هي التكليم، وكان التكليم في ذلك الموضع المبارك وهو جبل طور سيناء أو عند سفح جبل طور سيناء، وقد تصدَّى القرآن لتبيان هذا الشأن في عددٍ من الآيات:

 

منها: قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا / وَنَادَيْنَاهُ -نحن من ناده رب العزة من ناداه- مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾(5).

 

وقال تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ﴾(6) الذي كان بينه وبين شعيب حيثُ ذكرنا في جلسةٍ سابقة انَّه كان ثمة عقد أو شرطٌ شرطه شعيب على موسى وهو أن يكون أجيراً عنده ثمان سنين ويكون ذلك الشرط هو الصداق الذي أصدقه موسى بنت شعيب (ع) فحين قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين شعيب ﴿وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا﴾(7) كان الليل بهيماً والطقس بارداً، بل كان شديد البرودة كما يستفاد من بعض الروايات وكما تُشير إليه الآية حيث أن موسى (ع) وعد زوجته أن يأتي لها بجذوة من النار التيآنسها لعلها تصطلي -أي لعلها تتدفئ- فـ ﴿آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ / فَلَمَّا أَتَاهَا﴾(8) أي وصل إلى تلك النار التي كان قد آنسها من بعيد ﴿نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ﴾(9) فالمتحدِّث هو الله، والمتكلم هو الله تعالى ﴿إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ / وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا﴾(10) إلى آخر الآية.

 

معنى تكليم الله تعالى لموسى (ع):

وقد تصدَّى أهل البيت (ع) لبيان المراد من تكليم الله تعالى لموسى (ع)، فليس المراد من نسبة الكلام لله تعالى هو ذاته المراد من نسبة الكلام لسائر الناس كما أفاد أمير المؤمنين (ع) قال: "كلم موسى تكليما بلا جوارح وأدوات ولا شفة ولا لهوات سبحانه و تعالى عن الصفات" فكلام سائر الناس يخرج من اللهوات وأطراف اللسان وذلك شأن من له جارحة وتعالى الله عز وجل أن تكون له جوارح، وإنَّما خلق اللهُ الصوت والكلام والألفاظ في الشجرة فانبعث الكلام منها، فلم يكن يعلم موسى من أين يصدر الكلام، أي أنه لم يكن يعلم جهته فكان الصوت يبدو وكأنَّه أمامه وكأنَّه فوقه وكأنَّه عن يمينه وكأنَّه عن شماله ومن خلفه، كما أفاد ذلك الإمام الرضا (ع) قال: "فكلَّمه الله تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وامام، لانَّ الله عز وجل أحدثه في الشجرة ثم جعله منبعثاً منها حتى سمعوه من جميع الوجوه".هذا هو التكليم وكان مضمون التكليم الذي خاطب الله به موسى: ﴿إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ / وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ﴾.

 

هذه المسألة وقعت موقع الجدل الشديد بين الفرق الإسلامية ونحن المنزِّهة الذين نزَّهنا اللهَ عزوجل عن التجسيم وما يلزم منه التجسيم، وقلنا إنَّ الله عز وجل لا يتكلَّم كما يتكلم سائر الناس، وفي مقابل قولنا ومذهبنا وما نتبنَّاه اعتماداً على ما أفاده أهل البيت(ع) ذهب بعضهم كالحنابلة إلى أنَّ الآية محمولةٌ على ظاهرها اللفظي وأنَّ الكلام قد صدر حقيقةً من الله وأنَّ الكلام من الصفات الذاتية لله، فكما انَّ الحياة والعلم من صفات الله الذاتية فكذلك هو الكلام من صفات الله الذاتية فهو ليس مخلوقاً لله تعالى وإنما هو صفة من صفاته، لذلك قالوا إنَّ القرآن ليس مخلوقاً، وأنَّ مَن قال بأنَّ القرآن مخلوق فهو ضالٌّ كافرٌ مبتدع فيقولون بأنَّ الكلام قديمٌ أزليٌّ بأزليَّة الذات المقدسة، فكما انَّ علم الله ازليٌ بأزليَّة الذات المقدسة والحياة فكذلك هو كلامه تعالى أزليٌّ بأزليَّة الذات المقدسة وصفة من صفات الله الذاتية القديمة، هذا كلام خاطئ لا وجه من الصحة فيه أصلاً، ولسنا الآن بصدد الحديث والمناقشة له.

 

هذه هي أحد الشؤونات التي وقعت للجبل المبارك فهو الموضع الذي كُلِم عنده موسى (ع)، وفيه أو عنده كانت الشجرة التي وجدها موسى والنار تنبعث منها إلى عنان السماء، وكانت الملائكة تُحلِّق حول هذا الموضع المبارك، كما يُستفاد ذلك من الدعاء المأثور: "وأسألك اللهم! بمجدك الذي كلمت به عبدك ورسولك موسى بن عمران عليه السلام في المقدسين فوق إحساس الكروبيين فوق غمائم النور فوق تابوت الشهادة، في عمود النار وفي طور سيناء".

 

التوراة نزلت عند جبل الطور:

ثمة شأنٌ آخر لهذا الجبل المبارك أشار إليه القرآن الكريم، وهو انَّ هذا الجبل كان هو الموضع الذي تلقَّى فيه موسى (ع) وحيَ التوراة، فقد أُوحي إليه بالتوراة عند هذا الموضع، فموسى (ع) بعدما سار بأهله وعاد بها إلى مصر وكُلٍّف بالرسالة في طريق عودته إليها وبعد ان تصدَّى للدعوة والتبليغ ووقع ما وقع بينه وبين فرعون ثم غَرِق فرعون وجنوده واستقرَّ الأمر لبني إسرائيل حينذاك أمر الله عزوجل موسى(ع) بالهجرة من جديد إلى جبل الطور من أجل أن يتلقَّى هناك وحيَ التوراة، فتأهب للرحيل وأخبر قومه أنَّ ميقاته مع ربِّه عند الطور سيمتدُّ ثلاثين ليلة، ثم أتمَّ الله عزوجل ذلك بعشر ليال، فأصبح ميقات موسى أربعين ليلة، في هذه الفترة التي امتدَّت لأربعين ليلة نزل كتاب التوراة على موسى (ع) وعاد به إلى قومه يحمله في ألواح، فحين عاد إليهم وجدهم أو وجد كثيراً منهم يعبدون العجل، فألقى الألواح واشتدَّ غضبه عليهم، قال تعالى: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ / وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾(11) إلى آخر الآية المباركة.

 

فإذن هذا شأنٌ ثانٍ من الشؤونات التي وقعت لجبل الطور فهو الموضع الذي نزلت فيه التوراة على قلب موسى(ع)، ونزلت على هيئة ألواح وصحائف أو أن موسى حينما كان يتلقى الوحي من عند الله عز وجل إما بالتكليم أو بإيحاء جبرئيل (ع) كان يكتب ما يُوحى إليه، ثم حمل تلك الألواح إلى قومه، هذا شأن ثان.

 

طلبوا رؤية الله فصُعقوا ثم أحياهم الله:

الشأن الثالث من الشئونات التي وقعت لجبل الطور هو انَّه الموضع الذي وقعت فيه الصاعقة التي أماتت سبعين رجلاً من قوم موسى ثم بعثهم الله بعد موتهم ليسمعوا كلام الله تعالى.

 

فبعد أنْ عبد بنو إسرائيل أو أكثرهم العجل، وتصدى موسى (ع) لمعالجة ذلك وأحرق العجل وطرد السامري، وكان قد أخبرهم أنَّه قد تلقَّى التوراة من عند ربِّه وإنَّه قد سمع الله تعالى يكلِّمه ويُناجيه، قالوا: لن نصدِّقك حتى نسمع كلام الله، وكانوا قرابة السبعمائة ألف بحسب بعض الروايات، وهو مجمل شعب بني إسرائيل آنذاك، ومن الواضح انَّه يصعب أخذ كلَّ هذا العدد إلى طور سيناء، فاختار من السبعمائة ألف -كما ورد في الرواية عن الإمام الرضا (ع)- سبعين ألفاً، ثم اختار من السبعين ألفاً سبعة آلاف، ثم اختار من السبعة آلاف سبعمائة رجل، ثم اختار من السبعمائة سبعين رجلاً، وهم الذين أخذهم ورحل بهم إلى جبل الطور، فهؤلاء رغم أنَّهم كانوا صفوة الصفوة وكانوا خيار الأخيار من بني إسرائيل، ولكنهم أُشربوا في قلوبهم العجل، هؤلاء أسمعهم الله عزوجل كلامه بالمعنى الذي بيناه، حيث ورد في الروايات عن الإمام الرضا (ع) أنه حينما بلغ بهم موسى الوادي الذي عنده الطور صعد موسى إلى الجبل وتركهم عند السفح، وسأل موسى ربَّه أن يكلمه بحيث يسمعه هؤلاء السبعون، فكلم الله موسى (ع) بحيث يسمع هؤلاء السبعون ذلك الكلام، فكانوا كما ورد عن الإمام الرضا(ع) يسمعون كلاماً يملأ الوادي لا يعلمون جهته، فلا يدرون أهو صادر من أمامهم أو من خلفهم أو هو صادرٌ من جهة أيمانهم أو شمائلهم أو من فوقهم أو من تحت أرجلهم لا يعلمون من أين يصدر ذلك الكلام، ولكنَّهم سمعوه سمعاً وجدانياً لا يشوبه شكٌ ولا ريب.

 

لذلك أذعنوا حيث لم يسعهم الإنكار إلا انَّهم بعدما سمعوا كلام الله تعالى طلبوا من نبيِّهم موسى أمراً عظيماً كما وصف القرآن-: ﴿فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً﴾(12) وحينما سألوا موسى أن يُريهم ربَّهم جلَّ وعلا جهرةً ﴿أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾(13) فماتوا عن آخرهم وفي آية أُخرى: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ﴾(14)، والآية الأولى قالت: ﴿أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾، والمراد منهما معنىً واحد، أي انَّ الرجفة التي نشأت عن الصاعقة انتهت بهم إلى الموت الحقيقي التام، فأصبحوا جثثاً هامدة، حينها خاطب موسى (ع) ربَّه أنه لو أمتهم قبل ذلك أو بعد ذلك لكان ذلك أصدق لقولي وأفلج لحجتي، لأنِّي لو عُدت لهؤلاء الإسرائيليين وقلتُ لهم إنَّ أصحابكم طلبوا أو سألوا أمراً عظيما ًفأهلكهم الله فلن يصدقوني وسيقولون ذهبت برجالنا ليشهدوا بما ادَّعيت:من السماع لكلام الله فقتلتهم وأهلكتهم فلستَ صادقاً فيما ادعيت أنَّ الله يكلمك، لذلك وقع موسى(ع) في حيرة ولم يكن يعلم ما هو التدبير الإلهي في هذا الأمر لكنَّه سلَّم لأمر الله وتدبيره: ﴿قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ﴾ ﴿أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ﴾(15).

 

فأعاد الله إليهم الحياة ليعودوا فيشهدوا، وحينما عادت إليهم الحياة، -هذا جنس غريب من البشر!! لا ينقضي منه العجب!! كلُّ تلك الأمارات والدلائل الواضحة التي لم يحظَ بها غيرهم لكنَّهم ظلُّوا سادرين في غيِّهم، فبعد أن أفاقوا من تلك الموتة قالوا: نحن سألناك أن تُرينا الله جهرة، ولسنا محظيين عند الله تعالى، فلن نطلب منك هذا الطلب ولكن اسألْ ربَّك وأنت الصادق أنْ يُريَك نفسه، فإذا أخبرتنا انَّك رأيته جهرةً فسوف نُصدِّقك، اصعد وحدك للجبل واسأل ربَّك أنْ تراه جهرة فنحن لن نطلب ذلك خشية أن تُصيبنا صاعقة أخرى ولكنَّك محظيٌّ عند ربِّك فاطلب منه أن تراه وسوف نُصدقك إذا أخبرتنا برؤيته، فقال لهم موسى (ع): ألا تفهمون، إنَّ الله تعالى لا يُرى بالأبصار، ثم هبط الوحي على موسى (ع) فأخبره: إنَّ الله تعالى لا يمكن أن يُرى ولكن لا بأس في النزول عند طلبهم فاسأل ربَّك أنْ تراه جهرة حتى تتجلَّى لهم آيةٌ أخرى من آيات الله لعلَّهم يعقلون .

 

﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾:

قُدِّر لذلك الجبل أنْ يزول بحماقات هؤلاء، ذلك الجبل الذي كان طوداً عظيماً، قدَّرته بعض الروايات، بأنَّه يمتدُّ إلى فرسخٍ في فرسخ، قُدِر لهذا الجبل العظيم أن يزول، فسأل موسى (ع) أنْ يرى ربَّه جهرة: ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ﴾(16) هذا الجبل العظيم ﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ﴾ فهو تعليق على شيء إذا لم يقع فالمعلق عليه لن يتحقق، ﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾ لكنه لم يستقر، ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا﴾ يعني انَّه تحوَّل إلى رماد، إلى ترابٍ ناعم، ذلك الجبل الصخري الشديد القاسي المتطاول إلى عنان السماء، ذلك الجبل قد تحول إلى ركام ثم انبسط، يعني أصبح قاعاً صفصفا، ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى﴾، أي أصابه الرعب والفزع، فموسى صاحب القلب الكبير الذي كان يتلقى الوحي تكيلماً، فزع وصُعق، ثم أغمي عليه، ﴿فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾(17).

 

معنى قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ﴾:

في الروايات الواردة عن أهل البيت(ع) انَّ معنى قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ﴾ هو انَّه تجلَّت آيةٌ من آيات الرب لذلك الجبل فصار الجبل دكَّا، وثمة رواية أنَّ نوراً من أنوار الحجُب بمقدار سمِّ الخياط -الخرق الذي يكون في رأس الإبرة- تجلَّى للجبل فصيَّره دكَّا، كما ورد ذلك في دعاء السمات: "وبنورك الذي قد خرَّ من فزعه طور سيناء"، فطور سيناء هو ذلك الجبل الذي قدَّرت سعته بعض الروايات بالفرسخٌ في فرسخ أو أنَّ قطعة منه كانت فرسخاً وهي التي رفعها الله عزوجل على بني إسرائيل فصارت كأنَّها ظلة، فإذا كان بنو إسرائيل سبعمائة ألف فما هو حجم وسعة تلك القطعة من الجبل التي أظلَّتهم!! تلك القطعة كانت جزءً من جبل الطور الذي تحَّول إلى قاعٍ صفصف.

 

نستكمل الحديث فيما بعد.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة الطور / 1-8.

2- سورة طه / 12.

3- سورة القصص / 30.

4- سورة التين / 1-2.

5- سورة مريم / 51-52.

6- سورة القصص / 29.

7- سورة القصص / 29.

8- سورة القصص / 29-30.

9- سورة القصص / 30.

10- سورة القصص / 30-31.

11- سورة الأعراف / 142-143.

12- سورة النساء / 153.

13- سورة الأعراف / 155.

14- سورة النساء / 153.

15- سورة الأعراف / 155.

16- سورة الأعراف / 143.

17- سورة الأعراف / 143.