أحسِنوا جِوارَ النعمِ فإنَّها وحشيَّة (2)
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ
بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، اللهم لك الحمدُ في الليلِ إذا يغشى، وفى النهارِ إذا تجلَّى، ولك الحمدُ في الآخرةِ والأولى، ولك الحمدُ كما أنت أهلُه وكما حمدكَ الحامدونَ، ولك الحمدُ عددَ ما أَحصى كتابُك وأحاطَ به علمُك، اللهمَّ لك الحمدُ حمداً خالداً بخلودِك، ولك الحمدُ حمداً دائماً بداومِك، ولك الحمدُ حمداً لا أمدَ له دونَ بلوغِ مشيتِك، ولك الحمدُ حمداً لا يتناهى دونَ منتهى علمِك، ولك الحمدُ حمداً يبلُغُ رضاكَ ويُوجِبُ مزيدَك، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ (ص).
عبادَ اللهِ أُوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ والاجتهادِ في دينِه، واعلموا أنَّه لا يُغني اجتهادٌ ليس معه ورعٌ، وإنَّ لأهلِ التقوى علاماتٍ يُعرفون بها: صدقُ الحديثِ، وأداءُ الأمانةِ، والوفاءُ بالعهدِ، وقِلَّةُ الفخرِ والبُخلِ، وصِلةُ الأرحامِ، ورحمةُ الضعفاءِ، وبذلُ المعروفِ، وحُسنُ الخُلقِ، وسعةُ العلمِ فيما يُقرِّبُ إلى الله عزَّ وجلَّ، طوبى لهم وحُسنُ مآب.
وردَ في المأثورِ عن الإمامِ أبي الحسنِ عليِّ بن موسى الرضا (ع) انَّه قال: "أحسِنوا جِوارَ النِعَمِ فإنَّها وحشيَّةٌ، ما نأتْ عن قومٍ فعادتْ إليهم"(1).
كنَّا قد توقَّفنا عندَ هذا التساؤلِ: كيفَ نُحسِنُ تدبيرَ النِعمِ فنحفظُها من الزوالِ ونستجلبُ بحُسنِ تدبيرِها المزيدَ؟
وسوفَ نقتصرُ في مقامِ الجوابِ عن هذا التساؤلِ على ما يتَّصلُ بالنِعَمِ الشخصيَّة في مقابلِ النِعَمِ العامَّة التي أشار إليها القرآنُ الكريمُ في مثلِ قولِه تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾(2) وقولِه تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾(3) فهذه الآيةُ والتي سبقتَها تُشيرانِ إلى ما تَبتلي به المجتمعاتُ من نكساتٍ اقتصاديَّةٍ تنشأُ عن انصرافِ الإنسانِ عن قِيَمِ السماءِ والتشريعِ الإلهيِّ الذي جاءتْ به الأنبياءُ، والذي يتقوَّمُ بالعدلِ والإحسانِ، ويُصانُ بتقوى اللهِ تعالى، فلو أنَّهم أقاموا كتبَ السماءِ والتزموا نهجَها وأَعمَلوا السياسةَ الإلهيَّةَ في تدبيرِ معاشِهم واقتصادِهم لكانتْ نعمُهم وافرةً، ولما جاعَ فقيرٌ على هذه الأرضِ، ولَوَسِعهم التحفُّظَ من زوالِ النِعَمِ أو شحَّتِها، ولكنَّهم أعرضوا واعتمَدوا وسائلَ ونُظُماً مُجحِفةً وظالمةً تقومُ على الجشعِ والاستكثارِ خشيةَ النفادِ وانسياقاً مع طبيعةِ النَهَمِ التي لا تعرفُ معنى الرِواءِ والشبَعِ، ومن ذلك رشَحَ الاكتنازُ للثرواتِ والاحتكارُ والربا والاستحواذُ بغيرِ وجهِ حقٍ، والابتزازُ والاستعمارُ والاستضعافُ، وعلى ذلك قامتْ أكثرُ الحروبِ الطاحنةِ منذُ صدرِ التاريخِ إلى يومِ الناسِ هذا، فمُختلفُ السياساتِ الاقتصاديَّةِ التي اعتمدَها الإنسانُ على امتدادِ التأريخِ بعيداً عن قِيمِ السماءِ لم تُنتجْ استغناءَ الإنسانِ عن الظلمِ والحروبِ، ولم تدفعْ عنه الانتكاساتِ المتعاقبةَ، ولم ترفعْ شبحَ الجوعِ عن فقراءِ القارَّاتِ كلِّ القارَّاتِ، ولم تُلغِ الطبقيةَ الفاحشةَ بل هي في تفاحشٍ مطَّردٍ حتى بلغَ الحالُ أنْ يستحوذَ أقلُّ من ثلثِ العالمِ على أكثر من ثلثي ثرواتِ العالم، ويتقاسمُ أو يتصارعُ أكثرُ من ثلثي العالمِ على أقلَّ من ثلثِ ثرواتِ العالمِ، كلُّ ذلك يُعبِّرُ عن الفشلِ الذريعِ لكلِّ السياساتِ المتعاقبةِ التي اعتمدَها الإنسانُ بعيداً عن قيمِ السماءِ ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾(4).
فالحديثُ لن يكونَ حول النعمِ العامَّة بل سيتمحَّضُ حولَ النِعَمِ الشخصيَّةِ وكيف نُحسنُ جوارَها حرصاً على بقائِها وعدمِ زوالِها، وقد تصدَّت الرواياتُ الواردةُ عن أهلِ البيتِ (ع) لبيانِ ما يقتضي دوامَ الِنعَمِ وحفظَها من الزوالِ، ويُمكنُ اجمالُ ما أفادتْه الرواياتُ في مقامِ بيانِ ما يُحقِّقُ حُسنَ الجِوارِ للنِعمِ في أمورٍ خمسة:
الأمر الأول: دوامُ الشكرِ للنِعَم: وهو من أقوى مقتضياتِ بقاءِ النِعمِ وحمايتِها من الزوالِ، ويُؤيدُ ذلك ما وردَ عن أميرِ المؤمنينَ (ع) أنَّه قال: "أحسنُ الناسِ حالاً في النِعَمِ من استدامَ حاضرَها بالشكر"(5) فهي تدومُ بالشكرِ، وهو أثرٌ غيبي يمنحُه اللهُ عزَّ وجلَّ للشاكرينَ وإنْ لم نُدركْ وجهَ الصلةِ بين الشكرِ ودوامِ النعمةِ، وهذا ما صحَّحَ توصيفَ هذا الأثرِ بالغيبي، فهو محضُ منحةٍ إلهيَّةٍ يُكافأُ بها الشاكرونَ لنِعَمِ اللهِ تعالى، لكنَّ الشكرَ وحدَه غيرُ كافٍ للحظوةِ بهذه المِنحةِ الإلهيَّةِ، فالموعودُ بهذه المِنحَةِ الإلهيَّةِ هو مَن يكونُ دائمَ الشكرِ للهِ تعالى كما أفاد أمير المؤمنين بقوله: "من استدام حاضرَها بالشكر"، ومِن ذلك نفهمُ معنى قولِه تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾(6) فالزيادةُ وعدٌ إلهيٌّ مرتَّبٌ على الشكرِ، والمراد من قوله: "شكرتم" هو دوامُ الشكرِ لأنَّ النعمةَ ببقائِها للآنِ الثاني نعمةٌ مُستجِدَّةٌ، فإذا لم تشكرْ في الآنِ الثاني فإنَّك تكونُ قد شكرتَ على نعمةٍ قد مضتْ ولم تشكرْ على نعمةٍ قد استجدَّتْ حتى تستحقَّ دوامَها للآنِ الثالث، فالوعدُ بالزيادةِ والتي منها دوامُ النعمةِ إنَّما هو في فرضِ دوامِ الشكرِ، ولهذا وردَ عن الإمامِ الباقرِ (ع) انَّه قال: "ومَن أُعطيَ الشكرُ لم يُحرمِ الزيادة، ثم تلا أبو جعفرٍ(ع): ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾"(7) فهو (ع) قد طبَّق الآيةَ الشريفةَ على من أُعطيَ صِفةَ الشكرِ فالذي يستحقُ الزيادةَ هو المتَّصفُ بالشكرِ الذي يصحُّ نعتُه بالشكورِ، ولا يصحُّ وصفُ أحدٍ بالشكورِ ما لم يكنْ دائمَ الشكرِ.
ثم إنَّ دوامَ الشكرِ يَتحقَّقُ بكثرةِ اللهجِ بشكرِ اللهِ تعالى على نحوٍ يكونُ منبعُه استحضارَ الشعورِ بالامتنانِ للهِ تعالى في القلب، أما اللهجُ بشكرِ اللهِ دونَ استشعارِ الامتنانِ لله تعالى لا يُصحِّحُ وصفَ فاعلِه بالشكورِ، لأنَّ الشكرَ من الذكرِ المقابِلِ للغفلةِ، والذكرُ والغفلةُ من شئونِ النفسِ، واللهجُ بالذكرِ في اللسانِ ما هو إلا مَظهرٌ لذكرِ القلبِ، فإذا كانَ القلبُ غافلاً فالذكرُ باللسانِ لا يُعدُّ ذكراً واقعاً، ولذلك قال اللهُ تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾(8) فقد يُعدُّ المرءُ من الغافلينَ وإنْ كان لسانُه يَلهجُ بذكرِ اللهِ تعالى.
إذنْ فالشاكرُ بلسانِه دون استشعارِ الامتنانِ ليس ذاكراً بل هو غافلٌ، ولذلك قد لا يكونُ مستحقَّاً لأنْ يمنحَه اللهُ دوامَ النعمةِ وزيادتَها، وأسوأُ من الشاكرِ الغافلِ عن استشعارِ الامتنانِ للهِ تعالى هو مَن يشكرُ بلسانِه وهو يستشعرُ أنَّ ما بيدِه من النِعمِ إنَّما حصَّلها بجهدِهِ وعَرقِ جبينِه وحُسنِ تدبيرِه ورجاحةِ عقلِه، فلولا ذلك لما كان ميسوراً. فمثلُ هذا لا يُعدُّ من الشاكرينَ بل قد يعدُّ من الجاحدينَ، ومثلُه يُخافُ عليه من زوالِ النعمةِ عنه، ولو اتَّفق دوامُها في يدِه فإنَّه قد يكونُ استدراجاً من الله تعالى، عاقبتُه الهلاكُ في الدنيا أو الآخرةِ.
ثم إنَّ مِن شكرِ النعمةِ هو أداءُ حقِّها، ومن حقِّها أنْ لا يُعصي اللهَ تعالى بها، لأنَّ العاصيَ بنعمِ الله تعالى إمَّا أنْ يكونَ غافلاً، والغافلُ لا يكونُ شاكراً، وإمَّا أنْ يكونَ ملتفتاً إلى انَّه يعصي اللهَ بنعمِه، ولا يجتمعُ ذلك مع الشعورِ بالامتنانِ، لأنَّ الشكرَ هو الشعورُ بالامتنانِ، إذ كيف يشعرُ بالامتنانِ للهِ حيثُ أنعمَ عليه وهو يُجابِهُ اللهَ تعالى باستعمالِ نعمِه في معاصيه، فمثلُه يكونُ جاحداً لنعمِ اللهِ تعالى وإنْ كان لسانُه يلهجُ بشكرِ اللهِ تعالى، فهو أشبهُ بمَن يضربُ أباه وهو يُثني على جميلِ صنيعِه معَه، فهل يعدُّ هذا ممَّن استجابَ لقولِه تعالى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾(9) فحقيقةُ الشكرِ هو الشعورُ بالامتنانِ الباعثِ على الطاعةِ والاستقامةِ إذ انَّ اللهَ تعالى لا يُريدُ منَّا أنْ نقولَ له شكراً فهو سبحانه لا ينتفعُ ولا يبتهجُ بشكرِ الشاكرينَ، فهو إنَّما يأمرُ بالشكرِ والذكرِ ليكونَ ذلك باعثاً للإنسانِ على الاستقامةِ في طريقِ الخيرِ والصلاح.
ثم إنَّ من آثارِ دوامِ الشكر هو استكمالَ النعمِ الناقصةِ، ومن آثار قلَّةِ الشكر هو نفورُ النعمِ بعد أنَ كان الإنسانُ في طريقِه للحصولِ عليها كاملةً وافرةً كما أفاد ذلك أميرُ المؤمنينَ (ع) فيما رُوي عنه: "إِذَا وَصَلَتْ إِلَيْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلَا تُنَفِّرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ"(10) وهذا يتَّفقُ كثيراً للإنسانِ يجدُ انَّ بوادرَ الحصولِ على النعمِ قد ظهرتْ له وانَّ صيرورتَها في يدِه كاملةً قريبٌ جداً فيغفلُ عن شكرِ اللهِ تعالى ويثقُ أنَّ النعمة صائرةٌ إليه لا محالة فيكونُ اغفالُه لشكرِ الله أو قلَّةُ شكرِه لربِّه سبباً لنفورِ هذه النعمةِ رغم انَّها كانت قريبةً منه ويُوشِكُ أن تكونَ في قبضتِه كاملةً، فالإمامُ (ع) يُشبِّه النعمةَ بالطيرِ الذي يكادُ أنْ يقعَ في شِباكِ الإنسانِ فيصيرُ في حوزتِه ولكنه يُخطأ في التربُّص به فيُزعجُه بحركةٍ تُفضي إلى نفورِ الطيرِ وعدم دخولِه في شباكِه، فالإنسانُ الذي يجدُ بوادرَ النعمةِ قد أقبلتْ فلا يكثرُ من الشكرِ هو بمثابةِ من نصبَ شباكاً لطيرٍ فلما كاد أنْ يقعَ فيه أزعجَه فنفَر، "إِذَا وَصَلَتْ إِلَيْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلَا تُنَفِّرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ"(11) فحين يبتغي الإنسانُ فرصةً لدراسةٍ أو عملٍ كان يرغبُ فيه، فإذا بدت بوادرُ الحصولِ على هذه الرغبةِ فإنَّ عليه أن يُكثرَ من الشكر وأن لا يثقَ بأنَّ الأمر قد تمَّ فإنَّ الوثوقَ واغفالَ الشكر قد يُضيِّعُ عليه هذه الفرصةَ بعد أنْ كانت قريبةً من يدِه.
الأمر الثاني: الذي يقتضي دوامَ النعمةِ ويقتضي عدمُها زوالَ النعمة هو العدلُ والإحسانُ: كما وردَ عن الإمامِ الرضا (ع) انَّه قال: "استعمالُ العدلِ والاحسانِ مؤذِنٌ بدوامِ النعمةِ"(12).
ومعنى ذلك أنَّ من يُدير نعمَ اللهِ التي منحَه إيَّاها على أساسِ من العدلِ والإحسانِ فإنَّ اللهَ تعالى يُكافئُه بدوامِ تلك النِعَمِ عليه، أما إذا استطالَ بها على الضُعفاء كما لو كان له أُجَراءُ في معملِه أو مؤسستِه فلم يفِ لهم بحقوقِهم أو بخَسَهم أُجورَهم أو كان يقسو عليهم فيُدخلُ الأذى على قلوبِهم بإهانتِه لهم وتَحقيرِهم أو يُكلِّفُهم فوق ما يُطيقونَ أو فوق ما يستحقُّه عليهم، فمثله يكونُ ظالماً غاشماً ومَن كان كذلك فقدْ عرَّضَ نعمتَه للزوالِ، وكذلك فإنَّ من الظلمِ أن يستدينَ فيُماطلُ في أداءِ الدينِ رغمَ قدرتِه أو يُستأجرُ على عملٍ فلا يَحرصُ على اتقانِ عملِه أو لا يُنجزُه في وقتِه، فإنَّ ذلك من الظلمِ المفضي لزوالِ النعمةِ أو زوالِ بركتِها. وكذلك فإن من الظلم البخسُ في العقودِ وعدمُ الوفاءِ بالشروط والغشُ والكتمُ للعيبِ أو الغبنِ في المعاملةِ.
وكذلك فإنَّ من الظلمِ التضييعَ لحقِّ من استرعاكَ اللهُ أمرَهم كالزوجةِ والأبناءِ والأبوين، فإنَّ من أنعمَ اللهُ عليه فشحَّ بها على أبويه أو ضيًعَ حقَّ أبنائِه فلم يُحسن تربيتَهم ولم يرعَ أقواتَهم وتعليمَهم وعلاجَهم أو كانَ له اخوةٌ صغارٌ أو أقاربُ ضعفاءُ فأهملَ النظرَ في شئونهم والرعاية لأحوالهم فإنَّه يكونُ بذلك قد عرَّضَ نعمتَه إلى الزوال، فالنعمةُ لا تدومُ مع الظلمِ خصوصاً حينَ يكونُ الظالمُ مؤمناً، فإنَّ اللهَ قد يُعجِّلُ بعقوبتِه تأديباً له، فهو تعالى قد لا يستدرجُه كما يستدرجُ الكافرينَ والفاسقينَ بل يُعجِّلُ بعقوبتِه لتأديبِه وكفايتِه من عذابِ الآخرةِ، ولذلك ينبغي أنْ يكونَ المؤمنُ على حذرٍ.
ثم إنَّ العدلَ وحدَه غيرُ كافٍ لحمايةِ النعمةِ من أنْ تكونَ في مَعرَضِ الزوالِ بل أضافَ الإمام الرضا (ع) -بحسب الرواية- إلى العدلِ الإحسانَ كالإحسانِ إلى الأجيرِ والأقاربِ والجيرانِ والأصدقاءِ، فإنَّ مَن حباهُ اللهُ تعالى بنعمةٍ ينبغي أنْ يستشعرَ المحيطونَ حوله بحلاوةِ نعمتِه عليهم فيكونَ وجودُه في وسطِهم بركةً عليهم، فيدعونَ له بأنْ يُديمَ اللهُ تعالى عليه النعمةَ.
الأمر الثالث: المقتضي لدوامِ النعمةِ هو الرُشدُ في تدبيرِها المعبَّرِ عنه بالاقتصادِ في المعيشةِ والإنفاقِ المقابلِ للتبذيرِ والإسرافِ، وقد أفادَ ذلك الإمامُ الكاظمُ (ع) فيما رُوي عنه قال: "مَن اقتصدَ وقَنِعَ بقيتْ عليه النعمةُ، ومن بذَّر وأَسرفَ زالتْ عنه النعمةُ"(13).
﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ / وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا / فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾(14)
خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور
4 من ربيع الآخِر 1437هـ - الموافق 15 يناير 2016م
جامع الإمام الصّادق (عليه السّلام) - الدّراز
1- تحف العقول عن آل الرسول (ص) -ابن شعبة الحراني- ص 448.
2- سورة المائدة / 66.
3- سورة الأعراف / 96.
4- سورة المائدة / 66.
5- عيون الحكم والمواعظ -علي بن محمد الليثي الواسطي- ص 123.
6- سورة إبراهيم / 7.
7- سورة إبراهيم / 7.
8- سورة الأعراف / 205.
9- سورة لقمان / 14.
10- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 16 ص 328.
11- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 16 ص 328.
12-عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج 2 ص 26.
13- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 75 ص 327.
14- سورة النصر.