من هم شرُّ النَّاس؟

 

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا.

 

اللهمَّ أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبوابَ رحمتك، وانشر علينا خزائنَ علومك.

 

قال الله تعالى في محكم كتابِه المجيد:

﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيْمِ  .. إِنَّ شَرَّ الدوابَّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ البُكْمُ الذِّيْنَ لاَ يَعْقِلُوْن﴾([1])

صدق الله مولانا العليُّ العظيم.

 

روى الشيخ الطبرسي عن الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: "هم بنو عبد الدار، لم يُسلِم منهم غير مصعب بن عمير، وسويد بن حرملة، كانوا يقولون: نحن صمٌّ بكمٌ عمَّا جاء به محمد (ص)، وقد قُتلوا جميعا بأحد، كانوا أصحاب اللواء"([2]).

 

وروى في مجمع البيان عن الإمام الباقر (ع) أنَّه قال: نزلت الآية في بني عبد الدار، لم يكن أسلم منهم غير مصعب بن عمير، وحليفٍ لهم يُقال له سويبط"([3]).

 

وقد ذكر هذا المضمون آخرون من علماء العامَّة وقالوا: إنَّ هذه الآية المباركة نزلت في بني عبد الدار، حيث لم يُسلم منهم من أحد إلا مصعب ابن عُمَير ورجل آخر، ثم إنَّ الله عزَّ وجلَّ قتل بني عبد الدار جميعًا يوم أُحد([4]).

 

مقتل بني عبد الدار بسيفِ عليٍّ (ع):

وبمناسبة قولهم إنَّ الله عزَّ وجل قتل بني عبد الدار يوم أُحد، نُشير إلى كيفية قتلهم، فبعد هزيمة المشركين يوم بدر، حنِق المشركون على المسلمين وعلى رسول الله (ص) وأخذوا يُعبئون أنفسهم من أجل معاودة الحرب على الإسلام وعلى المسلمين وعلى رسول الله (ص) فكانت غزوة أُحد، خرج المسلمون وعسكروا عند جبل أُحد واتَّخذوه ظهرًا لهم يحميهم من غائلة المشركين، وواجهوا المشركين من وجهٍ واحد، عبأ رسولُ الله (ص) جيشه فأعطى الراية -راية الأنصار- إلى سعد بن عبادة، وأعطى رايةً إلى مصعب بن عُمَير وهو من بني عبد الدار، وأعطى اللواء الأعظم لعليِّ بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام) حيث إنَّ اللواء الأعظم كان بيده في كلِّ المشاهد كما أكَّدت على ذلك الروايات المستفيضة حتى ورد أنَّه سُئل رسول الله (ص) مَن يحمل لواءك لواء الحمد يوم القيامة؟ قال: ومَن عسى أنْ يحمل لوائي يوم القيامة غير الذي يحملُه في الدنيا وهو عليُّ بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام).

 

عبأ المشركون أنفسهم وكان زعيمهم هو أبا سفيان فحرَّض بني عبد الدار وعيَّرهم حيث إنَّهم لم يشاركوا مشاركةً تُذكر يوم بدر، فكان ذلك دافعًا لهم لأنْ يحمل سيدُهم ورائدهم طلحة بن أبي طلحة لواء المشركين الأعظم، يذكر مؤرخو السنة أنَّ رسول الله (ص) رأى في المنام قُبَيْل معركة أُحد أنَّه يركب أو يقود كبشًا عظيمًا فتأوَّل رسول الله (ص) ذلك بأنَّه سوف يُقتل كبش المشركين أي قائد جيشهم، تعبَّأ المشركون وتعبَّأ المسلمون فكان اللواءُ الأعظم بيد عليٍّ (ع) وكان لواء المشركين بيد طلحة ابن أبي طلحة قائد وسيد بني عبد الدار، تقدَّم طلحة بن أبي طلحة وركز اللواء الأعظم ثم دعا المسلمين للمبارزة، فبرز إليه عليُّ بن أبي طالب (ع) حيث هو كان حامل لواء الرسول (ص) فقال ابن أبي طلحة لعليٍّ (ع) يا قضم كنتُ أعلم أنَّه لا يجرؤ على مبارزتي أحدٌ غيرك. أمَّا عليٌّ (ع) فلم يجبه فهو في مثل هذه المواطن قليل الكلام كثير الفعل، بدأت المبارزة.

 

لم يُمهله عليٌّ (ع) حتى ضربه ضربةً منكرة على هامته ففلقها فبلغت لحييه، سقط الرجل فتهلَّل وجهُ رسول الله ثم كبَّر تكبيرًا عاليًا تعبيرًا عن ابتهاجه بمقتل طلحة بن أبي طلحة، وبعد أنْ سقط الرجلُ أعرض عنه عليٌّ (ع) فقيل له لِمَ تُجهز عليه وتقتله؟ فقال (ع) سألني الرحِم بعد أنْ ضربته فرحمتُه وتركتُه، وكنتُ أعلم أنَّ الله تعالى قاتله بهذه الضربة، ثمَّ تقدم ابن طلحة بن أبي طلحة ابن المقتول فقتله عليٌّ (ع) ثم تقدم أخو طلحة فقتله علي (ع) ثم تقدم ابنٌ آخر لطلحة فقتله عليٌّ (ع) وهكذا ظلَّ يتقدم بنو عبد الدار واحدًا تلوَ الآخر فيلقى كلٌّ منهم المصيرَ الذي لقيه من سبقه وذلك بمنظرٍ من المسلمين والمشركين، ينظرون إلى عليٍّ (ع) مبهورين من عظيم بأسه فكان كلَّما تقدَّم له أحدٌ من بني عبد الدار قطَّه أو قدَّه حتى أتى على آخرهم وكانوا تسعة أو ثلاثة عشر، وهم مجموع بني عبد الدار.

 

فهذا هو معنى قول المؤرِّخين أنَّ الله قتلهم يوم اُحد، وبعد أن سقط هؤلاء الفوارس الأشاوس ذبَّت الهزيمةُ في قلوب المشركين وأصابهم الفزع والهلع فانهزموا حتى استصرختهم النساء وأخذت امرأة من بني عبد الدار الراية وركزتها لعلَّ فلول قريش تلتئم بعد أنْ تشرذمت ولكن دون جدوى.

 

معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ ..﴾:

نعود إلى الآية المباركة التي ورد أنَّها نزلت في بني عبد الدار والذين قتلهم اللهُ عزَّ وجل يوم أحد بسيف عليِّ ابن أبي طالب (عليه السلام) يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِنْدَ اللهِ﴾ فكلمة "شر" في الآية تعني الآكثر شرًّا، فهي صيغة مفاضلة، والمقصود من ﴿شَرَّ الدَّوَابَّ﴾ هو أسوأ الدواب، والدوابُّ جمع دابَّة وهي مطلقُ ما يدبُّ على الأرض من الأحياء، فيصدقُ هذا الاسم على الإنسان، والبهائم، والزواحف، والحشار، وجميع الأحياء التي تدبُّ على الأرض من خلق الله جلَّ وعلا، يقول الله عزَّ وجل إنَّ أسوأ الدوابِّ وأكثرها شرًّا الصمُّ البكمُ الذين لا يعقلون، أي الذين منحهم الله العقل والسمع واللسان فاختاروا تعطيلها فأصبحوا وكأنَّهم صمٌّ بكم لا يعقلون.

 

ولماذا هم شرُّ الدواب؟ لأنَّ الله عزَّ وجل ميَّزهم عن سائر الحيوانات بالسمع واللسان والعقل فلم ينتفعوا منها بشيء، لذلك فهم كالأنعام كما ورد في آيةٍ أخرى بل هم أضلُّ، نحن هنا لا نريد التحدُّث حول مفاد الآية المباركة بنحو التفصيل وإنَّما غرضنا من تلاوتها هو التمهيد بها لاستعراض بعض الروايات الواردة عن الرسول الكريم (صلَّى الله عليه وآله) والواردة عن أهل بيته (ع) في بيان مصاديق شرِّ الناس حتى نجتنبهم ونحاذر أنْ نكون منهم.

 

فمن هم شر الدواب وشرُّ الناس؟

تصدَّت العديد من الرروايات لبيان مَن هم شرُّ الناس، ومن هم أكثر الناس سوءً وخسَّةً، فمِن ذلك ما ورد عن الرسول الكريم (ص) أنَّه قال: "ألَا أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِ رِجَالِكُمْ قُلْنَا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّه، فَقَالَ: إِنَّ مِنْ شِرَارِ رِجَالِكُمُ الْبَهَّاتَ الْجَرِيءَ الْفَحَّاشَ، الآكِلَ وَحْدَه والْمَانِعَ رِفْدَه، والضَّارِبَ عَبْدَه والْمُلْجِئَ عِيَالَه إِلَى غَيْرِه"([5]).

 

فالواجد لهذه الخصال -بمقتضى الرواية الشريفة- هو مِن شرار الرجال:

 

والبهّات: هو كثير التعيير والتعييب للناس لسوء ظنِّه وبذاءة لسانه، يعيب هذا وينتقصُ من ذاك، ويغتاب هذا ويتَّهمُ ذلك، فلا تراه إلا ساخطًا على خلق الله، لا يُعجبه من الناس أحد، فإذا مرَّ عليه زيد انتقده، وإذا مرَّ عليه اسم عمروٌ عابه أو سفَّه رأيه أو انتقص من قدره ؛ فهذا من شرار خلق الله، فلأنَّه سيءٌ لذلك يرى الناس سيئين مثله، فالبهّات هو الذي يتَّهمُ الناس ويعيبهم ويُكثر من نقدهم على غير وجه حقٍّ، ويكثرُ من غيبتهم والإساءةِ إليهم، وإساءة الظنِّ بهم فهذا من شرِّ الدواب الذي أشارت إليهم الآية المباركة.

 

وأمَّا الجريء: فهو الجسور الذي لا يبالي ولا يعبأ بالناس، يفعل كلَّ ما يحلو له، لذلك ورد عن أهل البيت (ع): "إن لم تستح؛ فافعل ما شئت" فالحياء من الإيمان، والحياء لباس الأخيار وحلية الأبرار، أما الجرأة والجسارة فهي حلية الأشرار، فالجريء يتجرأ على الناس دون النظر إلى مقاماتهم، يتجرأُ عليهم في غَيبتهم، ويتجاسرُ عليهم في محضرهم، ويقترفُ الأفعال المخزية والمشينة دون أن يستشعر الخجل، فذلك هو المقصود من الجريء.

 

وأمَّا الفحَّاش: فهو البذيءُ اللسان السبَّاب، الذي يقدحُ في أعراض الناس، ويتعاطى الألفاظ الوضيعة التي تخدش الحياء، والألفاظ المستقبحة والمستبشعة والمستهجنة، فهذا هو الفحَّاش، فلا تكادُ تخلو فقرةٌ ينطق بها دون أن تكون مشتملةً على كلمة سوء أو كلمة فُحش أو شتيمة أو سُباب أو نقدٍ أو تعيير، هذا هو الفحَّاش.

 

وأمَّا الآكل وحده: فهو أحد اثنين: إمَّا أنْ يكون متكبرًا يستنكفُ من أنْ يأكلَ معه صبيٌّ، يخشى على ثيابه أنْ تتسخ أو أنْ يأكلَ معه فقيرٌ لأنَّ ذلك لا يناسب مقامه وعلوِّ منزلته بحسب زعمه أو أنَّه يقول في نفسه إذا أكلتُ مع هذا الصنف من الناس فسوف يتوهمون أنِّي مثلهم وفي مستواهم فتذهب هيبتي وتذوب الحواجز التي بيني وبينهم لأنَّ المشاركة في الأكل عادةً ما تكسرُ الحواجز، لذلك يحثُّ أهلُ البيت(ع) الناس على حضور الولائم، وإطعام الطعام، لماذا؟ لأنَّ طبيعة الأكل الجماعي يبعثُ على المؤانسة ويكسرُ الكثير من الحواجز التي تكون بين الناس.

 

فهذا الإنسان لا يُريد أن تذوبَ الحواجز بينه وبين الناس، لأنَّه يرى نفسه أرفعَ منهم، فالذي يأكلُ وحده إمَّا أنْ يكون جبَّارًا متغطرسًا يسوؤه أنْ يأكلَ معه الآخرون لأنَّه يراهم دون مستواه ومقامه، فهو ينظر إليهم باستعلاء وفوقيَّة، فالآكل وحده إمَّا أن يكون كذلك أو يكون بخيلًا يخشى أن يأكل الآخرون من طعامه أو أنْ يضطر إلى دعوتهم لو استجاب وحضر إلى ولائمهم، فاعتبار الآكل وحده من شرار الناس إمَّا أن يكون المراد منه الإشارة إلى كونه متكبرًا أو الإشارة إلى كونه بخيلًا، ولعلَّ الأرجح هو أنَّ الرواية أرادت الإشارة إلى الأول وهو أن يكون منشأ اختياره الأكل وحده هو التكبُّر والاستعلاء وذلك لأنَّ البخل قد أُشير إليه في الفقرة التي بعدها وهي قوله (ص): "والمانع رفده".

 

والمانع رفده: هو مَن يمنع عطاءه لبخله وشدَّة تعلُّقه بأمواله، فهو لا يُنفق ولا يتصدَّق، وإذا أعطى كان عطاؤه قليلًا ويمنُّ كثيرًا، هذا لو اضطر إلى العطاء حياءً أو لغاية في نفسه وإلا فكثيرًا ما يكون عطاؤه باللسان، كما يقول الشاعر: جود الرجال من الأيدي وجودهم من اللسان، ولكنَّك تسمعُ منه جعجعةً ولا ترى طحنا، أعطينا وبذلنا وسوف نفعل ولدينا مشاريع خيريَّة، يتفاخر أمام الناس ويتباهى بعطاءاته الوهميَّة التي لا واقع لها فهو ممَّن: ﴿يُحِبُونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾([6]).

 

ويضرب عبده: فهو سيء الخُلُق يظلم من هو أضعفُ منه فيبخسُه حقَّه وقد يحرمه من حقِّه، وقد يتعدَّى عليه فيضربه أو يُؤذيه، فتجدُ بعضَ الناس يضرب خادمَه، ولا يتحرَّج أن يسبَّه وكأنَّه ليس من البشر، وإذا كان في موقع الرئيس فإنَّه يتعالى على منهم دونه في العمل يزجرهم دون مبرِّر ويمتهنهم وقد يشتمهم، وقد يُكلِّفهم فوق ما يُطيقون، فهذا من شرار الناس.

 

والمُلجئُ عياله إلى غيره: وذلك بأن يتخلَّى عن مسئوليته تجاههم لبخله، فيلجأون إلى غيره، أو يسيءُ إلى عياله فيكرهونه، فيبحثون عن متنفَّسٍ عند غيره، فحين لا يجدُ العيال رعايةً وعطفًا من مُعيلهم فإنَّهم يبحثون عمَّن يرعاهم ويعطفُ عليهم، وحينذاك قد يعطف عليهم الخيِّرون، وقد يعطف عليهم الأشرار فيقتبسون الشرَّ والفساد منهم، فكان الأب هو السبب، لأنَّه ألجأ عياله إلى غيره، فهو لذلك من شرار الناس.

 

ويقولُ الرسول الكريم (ص) في موطنٍ آخر كما في الخصال: "ألا أُخبركم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: المشاؤون بالنميمة، المفرِّقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العيب"([7]).

 

فمَن هو النمَّام؟

هو الذي يُوغر صدرك على أخيك، يسمعُ منه حديثًا يُغيظك فينقله إليك، فقد يكون قاصدًا لإيقاع الفتنة والوقيعة بين الأحبَّة وقد لا يكون قاصدًا وعلى كلا التقديرين فهو نمَّام لأنَّ ما فعله سوف ينشأ عنه وقوع العداوة بين الطرفين، فهذا الأثرُ السيء سوف يتحقَّق بقطع النظر عن قصد الناقل أو عدم قصده، ولذلك لا ينبغي للمؤمن أنْ يكون على رسْلِه ينقلُ كلَّ ما يسمعُه دون حساب ودون أن يتأمَّل في العواقب، فقد تكون عاقبة نقله للحديث الذي سمعَه التفريق بين زوجين أو بين أخوين أوصديقين، وقد تترتَّب على نقله للأحاديث دون رعاية قطيعةٌ كاملة بين قبيلتين أو أُسرتين، وقد تترتَّب عن ذلك ثاراتٌ وتُسفك لذلك الدماء وتُستباح الحقوق والحرمات، لذلك فالنمَّام من شرارِ الناس.

 

الباغون للبراء العيب: ثمة أناسٌ إذا وجدوا عيبًا في إنسان أفشوه فهؤلاء سيئون، وأسوأُ منهم مَن يبحثون عن عيوب الناس بغية إفشائها، فيتتبعون أحوال الناس ويرصدون أفعالهم وأقوالهم ومتى ما عثروا على عيبٍ أو خطيئةٍ لأحد فرحوا بها وجدُّوا في إفشائها بين الناس، فمثل هؤلاء يتحمَّلون وزرين عظيمين الأول هو تتبُّع عثرات المؤمنين وهو من أعظم الذنوب وأشنعها، والثاني هو أفشاؤها وإذاعتها بين الناس، وهو من أقبح الظلم والتعدِّي على حرمات الناس، وعاقبة ذلك وخيمة في الدنيا والآخرة ففي الحديث: أنَّ "مَنْ سَلَّ سَيْفَ الْبَغْيِ قُتِلَ بِه ومَنْ حَفَرَ لأَخِيه بِئْرًا وَقَعَ فِيهَا، ومَنْ هَتَكَ حِجَابَ غَيْرِه انْكَشَفَ عَوْرَاتُ بَيْتِه"([8]).

 

وثمة صنف من الناس هم أسوأ من هذين الصنفين، وهم الذين أشار إليهم الرسول(ص) بقوله: "الباغون للبراء العيب" فهؤلاء حين لا يجدون عيبًا فيمن يتتبعون أحواله فإنَّهم يختلقون له عيوبًا رغم علمهم ببراءته ويعملون على ترويجها وإذاعتها فهؤلاء قد جمعوا بين الكذب والتببع لعثرات المؤمنين وإفشاء السيء من القول فهؤلاء هم أسوأ الأصناف الثلاثة.

 

نختم الحديث بعرض سريع لبعض ما أُثر أمير المؤمنين (ع) من جوامع الكلِم في هذا الصدد:

 

شرُّ الناس مَن لا يقبلُ العذرَ:

يقول أميرُ المؤمنين (ع): "شرُّ الناس مَن يظلم الناس، وشرُّ الناس من يغشُّ الناس، وشرُّ الناس مَن لا يقبلُ العذرَ ولا يُقيلُ الذنب"([9]).

 

أخطأ أخوك في حقِّك ثم جاءَ إليك يعتذر فلماذا لا تقبل عذره؟! فأنت من شرار الناس فكان ينبغي أن تلتمسَ له عذرًا لا أن تلجئه إلى الإعتذار، ومعنى أن تلتمس له عذرًا أن تقول في نفسك لعلَّه كان غاضبًا، لعلَّه لم يقصد، لعلَّه ندِم، أنا لا أحبُّ أن أراه في موضع الاعتذار فيبدو عليه الانكسار تلك هي أخلاق المؤمن، وأما السيئ من الناس فهو حين يُخطأ الآخرون يجد في ذلك فرصةً لاخضاعهم واذلالهم وذلك بتهويل خطئهم واجبارهم على الاعتذار له في محضر الناس ليكونوا في موقع المهانة، مثل هذا الإنسان ينطوي على مرضٍ في قلبه.

 

شرُّ الناس مَن لا يُبالي:

ويقول أمير المؤمنين (ع): "شرُّ الناس مَن لا يُبالي أنْ يراه الناس مسيئًا"([10]).

 

وهذا هو الوقِح الذي لا يعرف معنى الحياء، ولذلك لا يُنتظر من مثله إلا القبيح من الأفعال، لأنَّ القلب إذا خلا من الحياء لم يبقَ من وازعٍ يمنع من صدور الفواحش منه والمخزيات.

 

شرُّ الناس مَن لا يشكر النعمة:

ويقول أمير المؤمنين (ع): "شرُّ الناس مَن لا يشكر النعمة، ولا يرعى الحُرمة"([11]).

 

فأسوأ الناس مَن يُسدي إليه الآخرون معروفًا فلا يشكرهم بل يتنكَّر لفضلهم، وأسوأ منه من يقابل الإحسان بالسوء فهو يتستر على الفضل والاحسان فإذا ظهر له سوء فيمن أحسن إليه عمل على إشاعته بين الناس حرصًا منه على تصغير من أحسن إليه في أعين الناس فمثل هذا يُعدُّ من شرار الناس كما أفاد أمير المؤمنين (ع).

 

شرُّ الناس من لا يُرجى خيرُه:

ويقول أمير المؤمنين (ع): "شرُّ الناس من سعى بالإخوان ونسي الإحسان، وشرُّ الناس من لا يُرجى خيرُه"([12]).

 

فثمة أناسٌ لا يخطرون على بال حين الحاجة لماذا؟ لأنَّه لا خير فيهم ولا نفعَ يُرتجى منهم، وثمة أناسٌ كلَّما وقعت فاقة أو نشبت معضلة فإنَّهم يكونون الملجأ والمرجع، فالخيرُ منهم مأمول، لذلك يقصدُهم الناس يتوقعون رفدهم ومؤازرتهم فهؤلاء هم خيار الناس وأما الفريق الآخر الذين لا يُنتظر منهم نفع ولا يعبأون بما أصاب الناس فهؤلاء من شرار الناس.

 

شرُّ الناس من لا يثقُ بأحدٍ لسوءِ ظنِّه:

ويقول أمير المؤمنين (ع): "شرُّ الناس من لا يثقُ بأحدٍ لسوءِ ظنِّه، ولا يثقُ به أحدٌ لسوءِ فعله"([13]).

 

فهذا لا يثق بأحد لأنَّه سيء الظنِّ ويتوهم أنَّ كلَّ الناس مثله سيئون، ولا يثق به أحد وذلك ليس لسوء ظنِّهم به بل لسوء فعله وقبيح خصاله وما صار يُعرف عنه من الختل والغدر والخديعة والغش، فمثل هذا يكون من شرار الناس.

 

شرُّ الناس مَن يرى أنَّه خيرُهم:

ويقول أمير المؤمنين (ع): "شرُّ الناس مَن يرى أنَّه خيرُهم"([14]).

 

وهذا أيضًا يُعدُّ من شرار الناس، إذ أنَّ العجب بالنفس مِن أسوأ الخصال وأقبح الأدواء النفسيَّة، فهو يرى نفسه أنَّه أفضل الناس، وأورع الناس، وأتقاهم وأعبدهم الناس، وأكثرهم فهمًا وعلمًا وفطنةً، فتراه إذا تحدَّث فإنَّه يُعلي من شأنِ نفسه، ويرمي الآخرين بعدم الفهم وأنَّه ينقصُهم الوعي والحكمة، فهو وحده الحكيم والخبير الذي لا تفوتُه شاردة ولا واردة فمثل هذا الإنسان مبتلىً بداء العظمة لذلك فهو غارقٌ في نفسه مكبَّل بأوهامه ونرجسياته يعظِّم ذاته ويحتقر الآخرين ويستبدُّ برأيه إلى أن يهلك فهو من شرار الناس وأمَّا صفة الخيِّر فهو من يحترم الناس فيحرص على أنْ يجمع عقولهم إلى عقله، فيرى أن تجاربهم وآراءهم وأفهامهم جديرة بالإهتمام والرعاية لذلك فهو يحرص على مشاورتهم فيأخذُ عنهم إذا استجود رأيهم ويحترمهم إذا لم يقتنع برأيهم.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


[1]- سورة الأنفال / 22.

[2]- جوامع الجامع -الطبرسي- ج2 / ص16.

[3]- تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج4 / ص449.

[4]- المعارف -ابن قتيبة الدينوري- ص70.

[5]- الكافي -الكليني- ج2 / ص292.

[6]- سورة آل عمران / 188.

[7]- الخصال -الصدوق- ص183.

[8]- الكافي -الكليني- ج8 / ص19.

[9]- جامع أحاديث الشيعة -البروجردي- ج13 / ص418، عيون الحكم والمواعظ ص293، 295.

[10]- عيون الحكم والمواعظ ص295.

[11]- عيون الحكم والمواعظ ص293.

[12]- عيون الحكم والمواعظ ص294.

[13]- عيون الحكم والمواعظ ص295.

[14]- عيون الحكم والمواعظ ص293.