حقيقةُ الدعوةِ إلى تأسيسِ فقهٍ جديد

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمَّد وآل محمَّد

المسألة:

ما هو المحذورُ من تأسيسِ فقهٍ جديد؟

الجواب:

الفقهُ الذي يعتمدُه الإماميَّةُ في مُختلفِ أبواب الفقه من الطهارةِ إلى الديات مُبتنٍ على ما تمَّ التلقِّي له من الكتاب المجيد والسنَّة الشريفة الواصلةِ من طريقِ أهلِ البيت (ع).

وأمَّا الإجماع فهو ليس مصدرًا من مصادر التشريع بنظر الإماميَّة قاطبة خلافًا لما عليه مذاهبُ العامَّة، نعم هو أحدُ الطُرق التي يتمُّ بها الوصول إلى السنَّة الشريفة شأنُه في ذلك شأنُ السيرة المتشرعيَّة، فكما أنَّ السيرة المتشرعيَّة ليست مصدرًا للتشريع وإنَّما هي من وسائل الكشف والإحراز للسنَّة كذلك هو الإجماع تثبتُ له الحجيَّة باعتباره كاشفًا عن السنَّة، ولا تثبتُ له الحجيَّة والدليليَّة في الموارد التي لا يكونُ فيها كاشفًا بمستوى القطع أو الاطمئنان عن السنَّة الشريفة.

وأمَّا العقل فالمُعتبرُ منه هو الكاشف قطعًا ويقينًا عن الحكم الشرعيِّ، وذلك لا يكادُ يتَّفقُ ولو اتَّفق فهو في غاية النُدرة، فلا يترتب عنه تأسيسُ فقهٍ جديد، وأما العقل الظنِّي فهو ساقطٌ عن الاعتبار باتِّفاق الإماميَّة قاطبة، فمصدرُ التشريع إذن عند الإماميِّة يتمحَّض في الكتاب والسنَّة، وعليه فالدعوةُ إلى تأسيسِ فقهٍ جديد يُساوقُ الدعوةَ إلى اعتمادِ مصدرٍ للتشريعِ غير الكتاب والسُنَّة الشريفة.

فالفقهُ المُعتمَد لدى أتباع مذهبِ أهلِ البيت (ع) لم يكنْ على امتداد تأريخِه المتَّصل بصدر الإسلام الأول قائمًا على مثل الإستحسان والقياس وسدِّ الذرائع والمصالح المرسَلة وما يُسمَّى بفقه المقاصد وفقه الأولويَّات والتحسينات وما أشبه ذلك، فلو كان مثلُ ذلك هو ما يَعتمدُه أو هو بعض ما يعتمدُه لأَمكنَ القولُ بأنَّه لا محذور من تأسيس فقهٍ جديد ولو في الجملة، أمَّا والحال أنَّ ما يعتمدُه يتمحَّضُ في الكتابِ والسنَّة فإنَّ التأسيسَ لفقهٍ جديد يُساوقُ التخلِّيَ عن مصدري التشريعِ أعني الكتابَ والسنَّة واعتمادَ مصادرَ أخرى للتشريع.

ونُمهِّد لبيان ذلك لغير المُختص بالقول:

إنَّ القضايا الفقهيَّة لدى الإماميَّة والتي هي مثلُ وجوبِ شيءٍ أو حرمتِه أو اباحتِه أو صحَّةِ فعلٍ أو فسادِه أو مانعيَّتِه للصحَّةِ أو اقتضائه للضمان أو الحدِّ أو القصاص، هذه القضايا يمكنُ تصنيفُها بلحاظ درجةِ احراز استنادِها إلى الكتابِ والسنَّة إلى أربعةِ أقسامٍ:

القسم الأول: ما يُعبَّر عنه بالضروريَّات وهي القضايا الفقهيَّة التي عُلم استنادها للدين بالضرورة أي أنَّ مُستَنَد انتسابِها للدين في غايةِ الوضوح، فليس ثمة احتمالٌ -وإنْ كان في أدنى مراتبِه- بعدم كونِها من الدين.

ومثالُ هذه القضايا الموصوفة بالضروريَّات هو وجوبُ الصلواتِ الخمس اليوميَّة ووجوبُ صيام شهر رمضان، ووجوب الزكاة في الأصناف التسعة ووجوب الحج، ومنها حرمةُ شرب الخمر وأكلُ لحم الخنزير والميتة وحرمةُ الزنا ونكاحِ المحارم، ومنها حدُّ السرقة واستحقاق وليِّ الدم للقصاص، ومنها أكثر أصول المسائل الفقهيَّة في عموم الأبواب الفقهيَّة من الطهارة إلى الديات، فكلُّ أبواب الفقه دون استثناء مشتملةٌ على مسائلَ وقضايا يُعلم استنادُها إلى الدين بالضرورة.

ومُستَندُ العلمِ بانتسابِها للدِّين غالبًا هو نصُّ القرآنِ عليها أو ثبوتُها بالسنَّة القطعيَّة الواصلةِ إمَّا بالتواتر المعنويِّ أو الإجماليِّ أو هي ممَّا دلَّت عليه ظواهرُ الكتاب المشفوعة بالسنَّة البيِّنةِ والمستفيضةِ أو هي ممَّا دلَّت عليه السنَّةُ المستفيضةُ المشفوعةُ بالتسالم المتلقَّى جزمًا يدًا بيدٍ أو المكتنِفة بالقرائن الموجبةِ للقطع لدى العقلاء لو اتَّفق لهم الإطلاعُ عليها.

القسم الثاني: هي القضايا الفقهيَّةُ المُستنِدة إلى أدلةٍ تُوجبُ الاطمئنان باستناد أحكام هذه القضايا للشرع، فهذه القضايا وإنْ لم يكن العلمُ باستنادها للدين ضروريًّا إلا أنَّه من الوضوح بمستوىً يطمئنُ الأسوياء من العقلاء بثبوت هذه النسبة، فالاطمئنان وإنْ لم يكنْ يمنعُ من احتمال الخلاف وعدم المطابقة للواقع إلا أنَّه احتمالٌ ضئيل لا يحول دون استقرار النفس بمطابقة متعلَّقِه للواقع، ولذلك يُعبَّرُ عنه بالعلم العادي فهو لدى العقلاء دون مرتبةِ القطع واليقين وفوق مرتبةِ الظنِّ العقلائي.

هذا النحو من القضايا الفقهيَّة يحتلُّ مساحةً واسعةً من أبواب الفقه، ويمكنُ التمثيلُ له بأكثر واجباتِ الصلاة وواجباتِ الحجِّ وأكثرِ المفطِّرات وأكثر النجاسات والمطهِّرات والشرائطِ العامَّة للتكليف والعقود والكثير من أحكام المواريث وما يجبُ فيه الحدُّ والكثير من أحكام القصاص والديات وشرائط العوضين والكثير من مسائل النكاح والطلاق وأكثرِ الموارد التي يجبُ فيها الخمس والكثير من مسائل القضاء والشهادات وغيرها من المسائل التي يقفُ عليها العارفُ بمدارك الأدلَّة في مُختلف أبواب الفقه.

فإنَّ كل َّهذه الفروع والقضايا الفقهيَّة ثبتتْ بأدلَّةٍ تُوجبُ الاطمئنان بمطابقتِها للأحكام الشرعيَّة الواقعيَّة، فأدلَّةُ هذه الفروع إمَّا هي الأخبارُ المستفيضة المشفوعةُ بشهرة العمل أو هي السيرُ العقلائيَّةُ المُحرَز بمستوى الاطمئنان اتصالُها بزمن النصِّ وإمضاؤها من قِبَل المعصوم (ع) أو هي السِيَرُ المُتشرعيَّة المُحرَز بمستوى الاطمئنان تلقِّيها عن المعصوم (ع).

والاطمئنان وإنْ لم تكن حجِّيتُه ذاتيَّة كما هو الشأنُ في القطع ولكنَّ الدليلَ القطعيَّ دلَّ على حجِّيتِه، فمدركُ حجِّيَّةِ الاطمئنان هو السيرة العقلائيَّة المقطوع إمضاؤها من قِبَل المعصوم (ع)، فالسيرةُ تارةً يكونُ إمضاؤها مُحرَزًا بمستوى الاطمئنان فهذه لا تصلحُ دليلًا على حجِّيَّة الاطمئنان لاستلزامِه للدور، وتارةً يكونُ إمضاءُ السيرة مُحرَزًا بمستوى القطعِ واليقين، وهذه هي مَدركُ حجِّيَّة الإطمئنان، فإمضاءُ الشارع لحجٍّيَّةِ الاطمئنان قطعيٌّ كما هو ثابتٌ في محلِّه، ولهذا فكلُّ المداركِ المُنتِجةِ للاطمئنان تكونُ حجَّة، وذلك لحجِّيَّة الاطمئنان.

القسم الثالث: القضايا الفقهيَّة المُستَنِدة إلى ما يُعبَّرُ عنه بالأدلَّة الإجتهاديَّة، ويُعبَّرُ عنها كذلك بالأماراتِ المُعتبَرة، وهذا القسمُ من القضايا الفقهيَّة لا يُعلمُ باليقين التفصيليِّ أنَّها مطابقةٌ للواقع، فهي قضايا ظنيَّة إلا أنَّ مُستندَها ممَّا قام الدليلُ القطعيُّ على اعتباره وحجِّيتِه.

ويُمكن التمثيلُ لهذا القسم من المسائل الفقهيَّة بأحكام الخلل في الصلاة والطهارة من الحدث وأحكام الخلَل في الحجِّ، والعديد من القواطع والموانع والشرائط في العبادات وبعض المفطِّرات وتروكاتِ الإحرام وبعض شرائط العوضين والشرائط المعتبرة في اقامة الحدِّ والقصاصِ وغيرها.

فهذه القضايا وشبهها ظنيَّة، وذلك لأنَّ مَدركها لا يُنتجُ القطع واليقين بمطابقة مؤدَّاه لما هو مرادُ الشارع واقعًا، نعم مَدركها ينتجُ الظنَّ بمطابقة مؤدَّاه لما هو مرادُ الشارع واقعًا، فمدركُها هو مثل أخبار الثقاة عن الرسول (ص) وأهل بيتِه (ع) أو الأخبارُ الموثوقة عنهم (ع) هذا من حيث الصدور، ومدركُها من حيث الدلالة هو ظواهرُ هذه الأخبار، فمثلُ هذه المدارك لا تُنتج القطع غالبًا، أي أنَّها لا تكشفُ عن الحكم الشرعيِّ كشفًا قطعيًا، ولذلك لا يصحُّ اعتمادُها لولا قيامُ الدليل القطعيِّ على اعتبارها وحجِّيتها.

فهذه المدارك المعبَّرُ عنها بالأدلَّة الاجتهاديَّة والأماراتِ المُعتَبرة إنَّما تأهَّلت للحجيَّة والمنجِّزيَّة والمعذريَّة لأنَّ الدليلَ القطعيَّ دلَّ على حجِّيتها وصلاحيتَّها للكشف عن الحكم الشرعي، وإلا فهي ليست حجَّةً بذاتها.

فأخبارُ الثقاة مثلًا لا تُفيد سوى الظنِّ بأنَّ مؤدَّاها قد صدر عن المعصوم (ع) وظواهرُ الأخبار لا تُفيد سوى الظنِّ بأنَّها هي مرادُ المعصوم (ع) لذلك لم يكن لنا أنْ نعتمدَ على هذا الظنِّ الحاصل من الظواهر وهذا الظنِّ بالصدور لولا علمُنا بأنَّ المعصوم (ع) قد قبِل منَّا الإعتمادَ على هذا الظنِّ أي أنَّه قد جعَل هذا الظنَّ حجَّةً علينا ولنا.

إذن فهذه الأماراتُ المُعتبرة وإنْ كانت مفيدةً للظنِّ لكنَّ حجِّيتها قطعيَّة بمعنى أنَّ الدليل الذي دلَّ على حجيَّتِها قطعيٌّ ويقينيٌّ.

ولتوضيح ذلك نُمثِّل بما لو قال الأب لأبنائه إنِّي سأسافر وأمكثُ طويلًا، فإذا جاءكم عنِّي ثقةٌ وأخبركم بأنِّي أطلبُ فعلَ شيءٍ أو تركَه فعليكم أنْ تلتزموا بما أَخبرَكم به عنِّي، وإذا أخبركم الثقةُ عنِّي بأنِّي قد أبحتُ لكم فعل شيءٍ فلكم أنْ تفعلوه، فإنِّي قد جعلتُ خبرَ الثقةِ حجَّةً بيني وبينكم.

فإذا سافر الأب وجاء بعد مدَّةٍ رجل يعرفونَه بالوثاقة وأخبرهم بأنَّه التقى بأبيهم وهو يطلبُ منهم القيام بالفعل الكذائي فإنَّ خبر هذا الثقة لا يفيدُ سوى الظنِّ بالصدق ولكنَّهم ملزمونَ بالعمل وفقَ مؤدَّى خبرِه وذلك لعلِمهم بأنَّ أباهم قد جعل خبر الثقةِ هو الطريق المُوصل لأوامرِه ونواهيه، ولهذا فخبرُ الثقة حجَّةٌ عليهم ولهم، فهو حجَّة عليهم بمعنى أنَّه لو عاد أبوهم من السفر فوجدهم لم يمتثلوا بالأمر الذي أوصلَه لهم الثقة فإنَّ له أنْ يدينَهم ويحتجَّ عليهم بأنَّه قد أعلمهم وطلب منهم قبل سفره بأنْ يعتمدوا خبرَ الثقة الذي يصلُهم عنه، فلو قالوا بأنَّه لم يحصل لنا من خبره سوى الظنِّ فإنَّ ذلك لن يكونَ مقبولًا منهم لأنَّهم يعلمونَ يقينًا بأنَّ أباهم قد جعل خبرَ الثقةِ طريقًا لأوامره، فمفادُ خبر الثقة وإن كان ظنِّيًّا ولكنَّ حجيتَه عليهم قطعيَّة.

وهو كذلك حجَّةٌ لهم بمعنى أنَّ الثقة لو جاءهم فأخبرهم بأنَّ أباهم قد أباح لهم التصرُّف في ثلث أموالِه فتصرَّفوا فيها بمقدار الثُلث ثم تبيَّن بعد عودة الأب أنّه لم يصدر منه ذلك، فلو وبَّخهم على ما فعلوا لكان لهم أن يحتجُّوا عليه بأنَّهم إنَّما تصرَّفوا في ثلث مالِه استنادًا إلى خبر الثقة الذي جعله طريقًا بينَه وبينَهم.

هكذا هو الشأنُ في الأمارات المعتبرة، فمفاداتُها وإنْ كانت ظنيَّة إلا أنَّ دليلَ حجيَّتها قطعيٌّ، فدليلُ حجيَّتها إمَّا هو التواتر مثلًا أو هو الأخبارُ المحتفَّة بالقرائن المُفيدة للعلم أو هو السير العقلائيَّة المقطوع بإمضائها دون السير التي نطمئنُ بإمضائها لأنَّ السيرة -كما ذكرنا- تارةً يكون امضاؤها مُحرَزًا برتبةِ القطع، وتارةً يكونُ مُحرَزًا بمرتبةِ الإطمئنان، فالأولى من الأدلة القطعيَّة، وهي التي تُعتمد لإثبات حجيَّة الأمارات والثانية إنَّما تُعتمد بعد الفراغ عن حجيَّة الإطمئنان.

إذن فالأماراتُ المفيدةُ للظنِّ لا تكونُ حجَّةً مالم يكن دليلُ حجيَّتها قطعيًّا، فمثلًا ظواهرُ الكلام لا يُفيدُ سوى الظنِّ بمقصود المتكلِّم، لذلك فالظواهر من الأمارات، وهل هي من الأمارات المُعتبرة أو هي من الأمارات غير المعتبرة؟ والجواب هو أنَّها تكونُ معتبرةً لو قام الدليلُ القطعيُّ على أنَّ الشارع جعلَها حجَّةً بينه وبين المكلَّفين، وحيثُ قام الدليلُ القطعيُّ على أنَّ الشارع قد جعلَها طريقًا للوصول إلى مقاصده لذلك ساغ للمكلَّفين اعتمادَ الظواهر في مقام التعرُّف على مُراداتِ الشارع.

القسم الرابع: القضايا الفقهيَّة المُستنِدة إلى ما يُعبَّرُ عنه بالأدلَّة العمليَّة ويُعبَّرُ عنها بالأُصول العمليَّة والأدلَّة الفقاهتيَّة، وهذه القضايا الفقهيَّة أيضًا لا يُعلم باليقين التفصيليِّ أنَّها مطابقةٌ للواقع ولكنَّه يُحرَز يقينًا أنَّ الشارع قد صحَّح الجريَ عليها في ظرفِ الجهل بالحكم الشرعي الواقعيِّ وفقدانِ الأمارة المُعتبرةِ على الحكم الشرعيِّ، اذن فهي قضايا فقهيَّة تعبَّد بها الشارعُ المكلَّفين في موارد عدم القدرة على الوصول للواقع، فهي تكاليف ظاهريَّة لم يعتنِ الشارع بمطابقتها أو عدم مطابقتها للواقع، وهي وإن كانت تكاليف ظاهريَّة لكنَّ مُستندَها قطعيٌّ بمعنى أنَّ الشارع أَمر أو صحَّح يقينًا الجريَ وفقها في ظرفِ جهل المكلَّف بالواقع الشرعيِّ.

ويُمكن التمثيل لهذه القضايا بإباحة شرب القهوة , وطهارة الحيوان مجهول الهويَّة، ونجاسة السائل الواقع طرفًا للعلم الإجمالي.

فهذه القضايا والمسائل الفقهيَّة مُستندُها ما يُعبَّرُ عنه بالأصول العمليَّة مثل أصالة البراءة والإباحة وأصالة الطهارة وأصالة الإحتياط، وهذه الأصول لا تكشفُ عن الحكم الشرعي الواقعيِّ وإنَّما تُحدِّد وظيفة المكلَّف الشرعيَّة في ظرف الجهل بالحكم الشرعي الواقعيِّ وفقدانِ الأمارة المُعتبرة على الحكم الشرعي.

فحين يشكُّ المكلَّفُ في حكم موضوعٍ من الموضوعات مثل إنقاذ الحيوان من الموت فلا يجدُ نصًّا قطعيًّا يُثبتُ وجوبه أو عدم وجوبِه كما لا يجدُ أمارةً معتبرة تثبتُ وجوب انقاذِه أو عدم وجوبه فإنَّ وظيفتَه العمليَّة الشرعيَّة هي اللجوء إلى أصالة البراءةِ من الوجوب فيبني على عدم وجوبِ إنقاذه، فأصالةُ البراءة في المثال لا تكشفُ عن أنَّ عدم وجوب الإنقاذ هو الحكم الواقعيُّ ولكنَّها تُثبت أنَّ ذلك هي وظيفةُ المكلَّف الشرعيَّة حين يجهل بالحكم الواقعي لهذا الموضوع، وكذلك لو علِم المكلَّف أنَّ أحد السائلَيْن لبنُ خنزيرة والآخر لبن شاة ولكنَّه لم يتمكَّن من تشخيص لبن الخنزيرة من لبن الشاة فإنَّ وظيفتَه هي اللجوء إلى الأصل العمليِّ، والأصلُ العمليُّ الجاري في المثال هو الاحتياط ولزوم ترك الشرب لكلا السائلين، فهذا الأصل ليس بصدد الكشف عن الحكم الشرعي الواقعيِّ لكلٍ من السائلَيْن وإنَّما هو بصدد بيان الوظيفة الشرعيَّة العمليَّة في مثل هذا الفرض الذي اشتبه فيه الحلالُ بالحرام وتعذَّر التمييز بينهما. وهكذا هو الشأن في سائر الأصول العمليَّة، فهي وإنْ لم تكن كاشفةً عن الأحكام الواقعيَّة ولكنَّها تكشفُ عن الوظائف العمليَّة التي قرَّرها الشارعُ في ظرف الجهل بالحكم وفقدانِ الأمارة المُعتبرة.

تلك هي أقسامُ مجمل القضايا والمسائل الفقهيَّة في مختلف أبوابِ الفقه دون استثناء، وقد لاحظتم أنَّها وإنْ كانت متفاوتة من جهة درجة إحراز استنادِها إلى الكتاب والسنَّة الشريفة نظرًا لتفاوت ما تُنتجُه مَداركُها إلا أنَّها تشتركُ جميعًا في أنَّ أدلَّة الحجيَّة الثابتةِ لمداركِها قطعيَّةُ الاستناد للكتاب والسنَّة الشريفة.

ومن ذلك يتبيَّنُ أولًا أنَّ اتِّهام فقهاءِ الإماميَّة باختراع فقهٍ ليس في الكتاب والسنَّة جنايةٌ بحقِّ الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم، ولعلَّ المدَّعي لذلك قد اعتراهُ الذهول من سعةِ المناقشات والمداولات فيما بينهم في مقام التحرِّي عمَّا هو مُرادُ الكتاب وفي مقام الفحص عمَّا ورد في السنَّة فتوهَّم أنَّهم يخترعون الأحكام، ولو كان قريبًا منهم لأدرك أنَّهم يستفرغون الوسع لفهم ما أراده الكتاب وما أرادتْه السنَّة.

ويتبيَّنُ أيضًا ممَّا ذكرناه أنَّ اعتماد الطُرق والمدارك التي قام الدليلُ القطعيُّ على حجيَّتها ومنجِّزيتها ومعذرِّيتها لايُنتجُ إلا هذا الفقه المتعارَف الذي عليه فقهاءُ الإماميَّة وانَّ الاختلاف المحدود بين الفقهاء إنَّما ينشأُ غالبًا عن الاختلاف في تشخيص صغريات هذه المدارك وأمَّا الإختلافُ في كبرى المدارك فمحدودٌ جدًّا وغير مؤثِّرٍ بمستوىً يترتَّبُ عنه تأسيسُ فقهٍ جديد.

وعليه فمَن رغِب في تأسيسِ فقهٍ جديد فعليه أنْ يَسلُكَ أحدَ مسلكين:

المسلك الأول: أنْ يبحثَ عن طُرقٍ ومداركَ للوصول إلى الكتاب والسنَّة غير هذه الطرق والمدارك المُعتمدَة في الفقه الإماميِّ، وهذه الطرقُ منحصرةٌ في إلى ثلاثة:

الأول: مداركُ وطرقٌ ظنيَّةٌ لم يقم دليلٌ قطعيٌّ على حجِّيتها

الثاني: مداركُ وطرقٌ ظنيَّة قام الدليلُ القطعيُّ الخاصُّ على حرمة اعتمادِها طريقًا للوصول إلى الكتاب والسنَّة، وذلك مثلُ القياسِ والاستحسان وسدِّ الذرئع وفتحِها.

الثالث: مدارك لم يقم دليلٌ على حجِّيتها وهي في ذات الوقت لا تُنتجُ حتى الظن بالحكم الشرعي، وغاية ما تُنتجُه هو الاحتمال.

فإذا تمَّ اعتماد هذه الطرق بأقسامها أو تمَّ اعتماد بعضها فإنَّ الأثر المترتِّب على ذلك هو التأسيسُ لفقهٍ جديد إلا أنَّ أحدًا من الإماميَّة لا يسعُه اعتماد شيءٍ منها، أما القسم الثاني فواضح بعد تواتُرِ النصوص الواردةِ عن أهل البيت (ع) والصريحةِ في حرمة اعتماد هذه المَدارك طريقًا للوصول إلى الكتاب والسنَّة الشريفة، وأما القسم الأول والثالث والتي يُمكن التمثيلُ لها بالرؤى والأحلام والحدس أو الذوق الشخصي وما يسمَّى بالتحسينات والمصالح الراجحة أو ما أشبه ذلك التي تعتمدُها بعض المذاهب فيكفي في سقوطِها عن الإعتبار والحجِّيَّة مضافًا إلى أنَّ معظمها ليست وسائل عقلائيَّة يكفي في سقوطِها عن الحجيَّة عدمُ قيام الدليل على حجِّيتها بل إنَّ الدليلَ القطعيَّ قام على عدم حجِّيتها وعلى حرمة اعتمادها طريقًا للوصول للكتاب والسنَّة وحرمة إسناد ما تُنتجُه من قضايا إلى الشارع، وأعني بالدليل الذي قام على عدم حجِّيتها هو عموماتُ الكتاب والسنَّة المتواترة التي نصَّت على حرمة العمل بالظنِّ غير المُعتَبر.

على أنَّ مثيرَ شبهةِ التأسيس لفقهٍ جديد لا نظنُّ به القبول بمثل هذه المدارك، فإنَّ مستوى الظنِّ الذي تُنتجه هذه المدارك أدنى بمراتبَ من مستوى الظنِّ الحاصل من الأمارات المُعتبرة، فلو لجأ إلى هذه الطرق والمدارك فقد نقض غرضَه وسلَك غيرَ طريق العقلاء في اعتماد المرجوح في مقابل الراجح إلا أنْ يكونَ رأيُه أنَّ الشارع قد تعبَّدنا بمطلق ما يُوجب الظنَّ والاحتمال أو ما يُوجب الظنَّ خاصَّة، وحينئذٍ عليه أنْ يُقيم لنا دليلًا قطعيًّا على حجِّية مطلق الظنِّ لأنَّه لا يصحُّ التعبُّد بالظنِّ بدليلٍ ظنِّيٍّ لاستلزامه الدور كما أنَّ عليه أنْ يردَّ النصوصَ القطعيَّةَ الصدور والدلالة التي دلَّت على حرمة العمل بمثل القياس وحرمة العمل بالظنِّ الذي لم يقم دليلٌ خاصٌّ وقطعيٌّ على حجِّيتة، إلا أنْ يبني على تماميَّة مقدمات الانسداد وحينذاك عليه أنْ يستثنيَ الظنون الناشئة عن مثل القياس لقيام الدليلِ القطعيِّ على حرمة اعتمادها، وبعده فسواءً كان مبناه الكشف أو الحكومة فإنَّه لن يسعَه الإعتماد على أكثر من الأمارات المُعتبرة لأنَّها وافيةٌ بمعظم الفقه ولا يصحُّ على المبنيين اللجوء إلى الأمارات غير المعتبرة لأنَّها دونها في الكاشفيَّة، فالمصيرُ إليها ترجيحٌ للمرجوح، وأما الباقي ممَّا لا تستوعبُه الأماراتُ المعتبرة فلا يؤثِّرُ في تأسيس فقهٍ جديد.

وقد يكونُ رأيُ مثيرِ الشبهة هو عدم العمل بمطلق الأمارات، المعتبرةِ منها وغيرِ المعتبرة، وحينئذٍ عليه أنْ يلتمسَ طُرقًا مُنتجةً لليقين عند الأسوياء من الناس وتكونُ قادرةً على استيعاب جميع الوقائع التي تصدَّت لها جميعُ الأبواب الفقهيَّة، فإذا وجد غيرَ الطُرق المُعتمدةِ لدى الإماميَّة -والتي هي طرقٌ مُعتمدةٌ كبرويًّا لدى جميع المسلمين بل هي مُعتمدةٌ كبرويًّا لدى عموم العقلاء- فإنْ وجد طرقًا يقينيَّة عند الأسوياء من الناس غير الطُرق المُعتمدة فعلا ًفسيُذعن له الجميعُ بالفضلِ والتميُّز إلا أنَّ عليه أنْ يكون على ثقةٍ تامَّة بأنَّها لن تُؤدِّيَ إلى تأسيس فقهٍ جديد فإنَّ الأماراتِ المُعتبرة لدى الإماميَّة إنَّما جُعلت لها الحجيَّة مِن قِبَل الشارع لأنَّها غالبةُ المطابقة مع الواقع كما هو المشهود بالوجدانِ حين تُعتَمَد هذه الطرقُ والأمارات في الشئون الحياتيَّة لدى العقلاء. وبذلك لن تكونَ هذه الطرق اليقينيَّة المُبتكرة مقتضيةً لأكثر من التغيير جزئيًّا في منظومة الفقه الإماميِّ. وهو مالا يُنتجُ النقض لمنظومة الفقه الإماميِّ حجرًا حجرًا والذي صرَّح مثيرُ الشبهة أنَّه لا يرى به بأسًا!!.

اعتمادُ مصادرَ أخرى للتشريع غيرِ الكتاب والسنَّة:

المسلك الثاني: أنْ يعتمدَ الراغبُ في تأسيس فقهٍ جديد على مصادر أخرى للتشريع غير الكتاب والسنَّة كأنْ يعتمدَ مواثيق الأمم المتَّحدة ومواثيق المنظمات الحقوقيَّة كما أشار إلى ذلك مثيرُ الشبهةِ إلا أنَّه لم يُبيِّنْ لنا أنَّه سيَعتمد هذه المصادر في طولِ الكتاب والسنَّة أو أنَّه سيعتمدُها في عَرْض الكتاب والسنَّة بحيثُ تكون مصدرًا مستقلًا للتشريع.

المواثيقُ الدوليَّة مصدرٌ في طول الكتاب والسنَّة:

فإذا كان مرادُه أنَّها ستكونُ في طُول الكتابِ والسنَّة فلذلك احتمالان:

الاحتمال الأول: أن تُعتَمد هذه المواثيق إذا كانت مطابقةً لما في الكتاب والسنَّة أو غير منافية، وهذا الاحتمال ينبغي أنْ يكونَ خارج دائرةِ الفرضِ المذكور لأنَّه يُلغي مصدريَّةَ هذه المواثيق للتشريع، فإنَّ هذه المواثيق إذا كانت مطابقةً للتشريع الإسلاميِّ فحجيَّتُها تنشأُ عن حجيَّة التشريع الإسلاميِّ، على أنَّه لن يترتَّب على ذلك تأسيسُ فقهٍ جديد، فكلُّ ما سوف يقعُ هو عرْضُ هذه المواثيق على الكتاب والسنَّة بالوسائل والطرق المعتمدة في الوصول إليهما، فما وجدناه مناقضًا تعيَّن رفضُه، وما وجدناه مطابقًا فهو المُعتمد، واعتمادُه في هذا الصورة لم ينشأ عن كونِه مُعتمدًا في المواثيق بل لكونِه مُعتمَدًا في الشريعة الإسلاميَّة، وإذا وجدناه غيرَ مطابقٍ ولكنَّه ليس منافيًا للشريعة فلا مانع في هذه الصورة من قبولِه بمعنى الإلتزام به التزامًا أدبيًّا، وأما فرضُه والإلزامُ به واعتبارُه جزءً من الشريعة فذلك لن يكونَ إلا مناقضًا للشريعة، وذلك لأنَّ الشارعَ لم يُلزمْ به بحسب الفرض فكيف يسوغُ لنا أنْ نحكمَ بلزومِه ثم نُسندُ هذا الحكم للشريعة؟!، وإذا لم نحكمْ بلزومِه فمعنى ذلك أنَّنا لم نعتمدْ هذه المواثيق، وذلك لأنَّها حكمت بلزومه وانَّه حقٌّ لازمٌ مثلًا ولم نحكم نحن بلزومِه، ولذلك قلنا إنَّ هذا الاحتمال ينبغي أنْ يكونَ خارجَ دائرةِ الفرض.

وأما القولُ بأنَّه يُمكنُ الحكمُ بلزومه في هذه الصورة ولكن بنحو الحكم الولائي فهو خارجٌ عن دائرة الفرض أيضًا لأنَّ الحكم الولائي ليس حكمًا من أحكام الشريعة وإنَّما هو من الأحكام السلطانيَّة التي هي من وظائف وليِّ الأمر وتخضعُ لتقديره.

الاحتمال الثاني: أن تُعتَمدَ هذه المواثيق في المساحة التي لم تتصدَّ الشريعةُ لبيان الحكم فيها فإنْ كان هذا الاحتمال هو المُراد فجوابُه لو ثبت وجودُ هذه المساحة فإنَّه لا يُصحِّحُ اعتماد هذه المواثيق باعتبارها جزءً من شريعة الإسلام، فلكلِّ مسلمٍ أنْ يعتمدَها لو قَدَّر أنَّ المصلحة تقتضي اعتمادَها لكنَّه ليس مُلزَمًا بها شرعًا إلا أنْ يتصدَّى وليُّ الأمر للحكم بإلإزام بها فيكونُ حكمه سلطانيًّا خاضعًا لتقديره وليس حكما شرعيًّا، على أنَّ هذا الاحتمال لو كان هو المراد فإنَّه لا يترتَّبُ عليه تأسيسُ فقهٍ جديد.

المواثيقُ الدوليَّة مصدرٌ في عَرْض الكتابِ والسنَّة:

وإذا كان المُرادُ من اعتماد المواثيق الدوليَّة مصدرًا للتشريع هو أنَّها مصدرٌ في عَرْض الكتاب والسنَّة فبناءً عليه نقول: إنَّ التشريعات الواردة في المواثيق الدوليَّة فيها ما هو مطابقٌ لمصدري التشريع الإسلامي، وفيها ما هو غيرُ منافٍ لمصدري التشريع الإسلامي، وفيها ما هو مناقضٌ أو مغايرٌ لما عليه التشريع في الكتاب والسنَّة، والصورة الأولى والثانيَّة يتَّضحُ الحالُ فيهما من ملاحظةِ ما ذكرناه في فرض الطوليَّة، ولهذا يتمحَّض الحديث حول الموارد التي تكون فيها تشريعاتُ المواثيق الدوليَّة مناقضةً أو مغايرةً لأحكام الشريعة الإسلاميَّة، فأيُّهما يتعيَّنُ تقديمُه؟

فإنْ قيلَ إنَّ المتعيَّن تقديمُه في هذا الفرض هو أحكام الشريعة وما جاء في الكتاب والسنَّة فذلك معناه أنَّ تشريعات المواثيق الدوليَّة ليست مصدرًا للتشريع في عَرْض الكتاب والسنَّة كما لم تكنْ مصدرًا للتشريع في فرض الطوليَّة، فلا يكون للدعوةِ إلى اعتماد التشريعات الدوليَّة مصدرًا للتشريع معنىً محصَّل، نعم يكونُ لهذه الدعوة معنىً محصَّل حين البناء على أنَّ المتعيَّن تقديمُه -في فرض المناقضة ومطلقِ المباينة- هو تشريعاتُ المواثيق الدوليَّة.

وبذلك يتَّضحُ أنَّ اعتماد المواثيق الدوليَّة مصدرًا للتشريع لا يتحقَّق إلا في فرض اعتمادِها في عَرْض الكتاب والسنَّة وتقديمِها على الكتاب والسنَّة في فرض المناقضةِ بل ومطلقِ المباينة، وهذا هو ما يرومُه مثيرُ الشبهة كما يتَّضحُ ذلك من كلماتِه في موارد عديدة، وبناءً عليه يتأسَّسُ فقهٌ جديدٌ ولكنَّ مصدرَه لن يكون الكتابُ والسنَّة وإنَّما هي المواثيق الدوليَّة!!.

وهذا الفقهُ الجديد سوف لن يكونَ محدودًا في مسائل متناثرة في بعض أبواب الفقه بل سوف يستوعبُ أكثرَ أبوابِ الفقه المتَّصلةِ بالأقتصاد والسياسةِ والنُظم العامَّة وأحكام الأسرة ومسائلِ النكاح والطلاق، ومطلق أحكام الأحوال الشخصيَّة وأحكام الجنايات الماليَّة والمدنيَّة والعقوبات المقرَّرة في أبواب الحدود والتعزيرات والقصاص والديات وأحكامِ القضاء والشهادات وغيرها.

فإنَّ تشريعاتِ المواثيق الدوليَّة في مختلف هذه الأبواب الفقهية مناقضةٌ أو مغايرة في معظمها للأحكام الشرعيَّة المُستندة إلى الكتاب والسنَّة، فإذا كان البناءُ هو تقديمَ التشريعات المُعتمَدة في المواثيق الدوليَّة، فذلك معناه أنَّ الكتابَ والسنَّة ليسا في عرض المواثيق الدوليَّة بل هما في طولِها، فما لا يُناقضُ أو يُغايرُ المواثيق الدوليَّة من أحكام الكتاب والسنَّة هو الذي يجوز اعتمادُه، وما سوى ذلك يتعيَّنُ فيه اعتماد التشريعات المقرَّرة في المواثيق الدوليَّة. فهل يُنتظَرُ ما هو أطمُّ وأنكى من ذلك؟!!.

ثم إنَّ البناءَ على اعتماد المواثيق الدوليَّة مصدرًا للتشريع وتقديمها على الكتاب والسنَّة في موارد المناقضة ومطلق المغايرة لا يقتضي استحداثَ فقهٍ جديد في الأبواب التي أشرنا إليها وحسب بل يقتضي استحداث فقهٍ جديد حتى فيما يتَّصل بالخطابات الشرعيَّة الموجَّهة لكلِّ مكلَّف بصفتِه الشخصيَّة، فالفقهُ الإسلاميُّ -اعتمادًا على الكتاب والسنَّة- يحظر على المكلَّف مثلًا شربَ الخمر واللعبَ بالقمار ومقارفةَ الزنا ومطلقَ الفواحش ويفرضُ على المرأةِ الحجاب وعلى الرجلِ الإحتشام كما يفرضُ على المكلَّف الصيام في شهر رمضان ويفرضُ على الغنيِّ الزكاة، وكلُّ ذلك -وشبهه كثير- مناقضٌ للحريَّة الفرديَّة التي هي أحد أهمِّ أركان التشريع في المواثيق الدوليَّة، ولذلك يتعيَّنُ تغيير هذه الأحكام الشرعيَّة وتحويلُها من أحكامٍ إلزاميَّة على المكلَّفين إلى توصياتٍ ونصائح.

وبما ذكرناه يتبيَّنُ أنَّ الدعوة لتأسيسِ فقهٍ جديد يُساوقُ الدعوةَ إلى التخلِّي عن مصدري التشريع أعني الكتابَ والسنَّة واعتمادِ مصادر أخرى للتشريع.

اعتمادُ القيم التي بُنيَ عليها التشريع في المواثيق الدوليَّة:

ثم إنَّ ما يُقال مِن أنَّ الدعوة لتأسيس فقهٍ جديد واعتمادِ مصادر أخرى للتشريع في الإسلام ليس بمعنى اعتماد التشريع في المواثيق الدوليَّة بل بمعنى اعتماد القيمِ التي بُني عليها التشريع عندهم، فهي قِيَمٌ إنسانيَّة تطابَقَ عليها العقلاءُ كما يشهدُ بذلك توقيعُ جميع الدول عليها وهي تُمثِّل شعوبها!!.

والجواب أولًا: إنَّ الدول التي وقَّعت لم تُوقِّعْ على القيم وحسب بل وقَّعت على المواثيقِ بما تشتملُ عليه من تفسيرٍ لهذه القيم وبما تشتملُ عليه من تشريعاتٍ، فهل التفسير والتشريعات الواردة فيها ممَّا تتطابق عليه العقلاء لأنَّهم وقَّعوا عليه لدوافع أو ضغوط سياسيَّة؟!

وثانيًا: ولو سلَّمنا ذلك وانَّهم لم يوقِّعوا إلا على القيم العامَّة فأيُّ جدوى من التوقيع على هذه القيم إذا كان لكلِّ أحدٍ الحقُّ في تفسيرها بما يُناسب متبنياتِه، ولكلِّ أحدٍ الحقُّ في تحديد مصاديق هذه القيم؟!

وثالثًا: ما هي هذه القِيَم التي تطابق العقلاءُ على صحَّتها واعتمدتْها المواثيقُ الدوليَّة فيما أسَّسته من تشريعات؟، ألسيتْ هي مثلُ العدالةِ والمساواةِ وحمايةِ الحقوقِ والحرِّيةِ الشخصيَّة؟، فهذه القِيَم وشبهها هي ذاتُها قيمُ التشريع في الكتابِ والسنَّة، وقد تصدَّى كلٌّ من القرآن والسنَّة لتفسيرِها وتحديدِ مواردها وتطبيقاتِها، فكلُّ أحكام الشريعةِ في مُختلف أبوابِ الفقه تطبيقٌ لهذه القيم وتفسيرٌ لمواردِها وحدودِ مدلولاتها ولكن وفقًا للأصول الإسلاميَّة، فيعود السؤال أيُّ التفاسير والتطبيقات والحدود لهذه القيم نعتَمِد في موارد الإختلاف والتباين بين ما عليه الكتابُ والسنَّة وما عليه المواثيقُ الدوليَّة؟

فحين تُفسِّرُ المواثيقُ الدوليَّة الحريَّةَ الشخصيَّة بما يقتضي استحقاق الإنسان لشربِ الخمر، والزنا عن تراضٍ، والسفورِ والتفاحش بين المثليين، واللعبِ بالقمار والاحتكار وتعاطي الربا وترى كلَّ ذلك ومثله من أجلى مصاديق هذا المبدأ، ويُفسِّرُ الإسلام الحريَّة بما لا يقتضي ذلك بل بما يقتضي حظرَ هذه السلوكيَّات ويصفُها بالمعاصي ويُعاقِبُ على مقارفتها أو مقارفة بعضِها في الدنيا قبل الآخرة ويعتبرُها من التجاوز لحدود الله، فأيُّ التفسيرين نعتمدُ لمبدأ الحريَّة التي لا ريبَ في أنَّها من القيم المُعتمدة في الدين.

وحين تُفسِّرُ المواثيقُ الدوليَّة العدالةَ والمساواة بما يقتضي استحقاق البنت لذاتِ الحصَّة التي يستحقُّها الولد في الميراث، وبما يقتضي إلغاء قوامة الزوج في الأسرة، وبما يقتضي سقوط ولاية الأب على البنت الصغيرة، وبما يقتضي سقوط حقِّ الزوج في العدَّة على المطلقة وسقوط عدة الوفاة، وبما يقتضي المنع من قطع يد السارق وبما يقتضي تجريم القصاص من القاتل المتعمِّد فأيُّ التفسيرين نعتمدُ في تفسير وتحديد تطبيقاتِ مبدأي العدالةِ والمساواة؟!

فإذا كان الجوابُ هو أنَّ المُعتمد في موارد الاختلاف والتبايُن هو الكتاب والسنَّة، فأيُّ معنىً للدعوةِ إلى اعتماد القيم التي ترتكزُ عليها المواثيق الدولية؟! وأيُّ فقهٍ جديدٍ سوف ينشأ عن ذلك؟! وإذا كان الجوابُ هو أنَّ المُعتمَد في موارد الاختلاف والتبايُن هو التفسيرُ والتطبيقات المقرَّرة في المواثيق الدوليَّة فذلك هو ما أردتُّم التنصُّلَ منه وهو اعتماد تشريعات المواثيق الدوليَّة مصدرًا للتشريع في مقابل الكتاب والسنَّة واعتماد الكتاب والسنَّة على حياءٍ مصدرًا ثانويًّا بل مصدرًا فخريًّا.

اعتمادُ القيم الدوليَّة المؤطَّرة بقيم الإسلام:

وإنْ قلتم نعتمدُ القيم التي بُنيت عليها تشريعات المواثيق الدوليَّة ولا نلتزمُ بتفسيرها وتطبيقاتِها بل نُفسِّرها وفقًا للقيم الإسلاميَّة.

فالجوابُ أولا: هو أنَّ القيم التي صادقت عليها الأمم وتطابقت عليها آراء العقلاء- كما تدَّعون فصار ذلك التطابقُ هو مِلاك حجَّيتها كما ذكرتم- إنَّما هي القيم العامَّة وليست هي القيم المؤطَّرة بقيم الإسلام، فإذا كان البناءُ هو عدم القبول بالقيم العامَّة مجردةً بل القبول بها في اطار القيم الإسلاميَّة فحينذٍ لا يصحُّ الاحتجاج بتطابقِ الأمم على توقيعها والمصادقة عليها لأنَّها لم تُوقِّع على القيم المؤطَّرة بالقيم الإسلاميَّة هذا أولًا.

وثانيًا: هو أنَّه لا معنى لاعتماد القيم التي بُنيت عليها المواثيق الدوليَّة استقلالًا لأنَّها ذاتها التي بُنيت عليها التشريعاتُ في الكتاب والسنَّة والفارق إنَّما هو في تفسير هذه القيم، فإذا كان البناءُ هو تفسيرَها في اطار القيم التي أسَّس لها الإسلام فنحنُ في غنىً عن ذلك، إذ إنَّ الشارع بنفسه قد تصدَّى لتفسيِرها وتحديدِ معالمِها ومواردِ تطبيقِها وفقًا للقيم الإنسانيَّة العامة والقيم التي أسَّس لها، فكلُّ التشريعاتِ الواردةِ في الكتاب والسنَّة هي تفسيرٌ وتطبيقٌ لهذه القيم، فـأيُّ معنىً بعد هذا لتفسيرِها وتحديدِ موارد تطبيقِها؟! فهل معنى ذلك هو التصدِّي لتحديد موارد تطبيقها في المساحة التى تركها الشارعُ للمكلَّفين أو لوليِّ الأمر؟، إنْ كان ذلك هو المُراد فذلك لا يترتَّب عنه استحداثُ فقهٍ جديد، فلماذا اذن كلُّ هذا الضجيج وهذه الزوبعة في أمرٍ هو من بديهيات الفقه الإسلامي؟!

وإذا كان المرادُ هو استحداثَ تشريعاتٍ أخرى لتكونَ بديلًا عن التشريعاتِ التي فرضها الكتابُ والسنَّة، فما هو المسوِّغُ لذلك؟ هل لأنَّ هذه التشريعات الواردة في الكتاب والسنَّة غيرُ منسجمةٍ مع مقتضيات القيم العامَّة والقيم التي جاء بها الإسلام وأنَّ التفسيرَ والتطبيق الذي تصدَّى لبيانه الكتابُ والسنَّة لهذه القيم لم يكن صائبًا؟! أو كان صائبًا ولكن ثمة ما هو أصوبُ منه وأجدرُ بالإعتماد؟! أيجرءُ مسلمٌ يدينُ لله تعالى بالتوحيد ولمحمَّدٍ (ص) بالنبوَّة على التفوُّهِ بذلك؟!

ثم إنَّه كيف يقبل مسلمٌ يحترمُ دينَه وعقلَه أن يستبدلَ تشريعًا فرضَه خالقُ الإنسانِ والأعلمُ بما يُصلحه وبلَّغ هذا التشريع رسولُه المؤيَّدُ بالوحي والعصمة كيف لمسلمٍ أن يستبدلَ هذا التشريع المعصوم بتشريعٍ تنسجُه عقولُ الرجال القاصرة بطبعِها عن الإحاطة بأوجه المصالح والمفاسد والتي هي في مَعرض الخطأ والخضوع للضغوط الإجتماعية والمؤثِّرات والنوازع الشخصيَّة والرواسبِ الثقافيَّة والتربويَّة؟! نعم يصحُّ ذلك لو كان البناءُ هو أنَّ ما جاء في الكتاب والسنَّة ليس من عند الله تعالى أو أنَّ نبيَّه (ص) الذي صدع بالرسالة لم يكن معصومًا، فلا مزية بناءً على ذلك للكتاب والسنَّة تقتضي تعيُّن العمل بما جاء فيهما من تشريعٍ، فهو تشريعٌ صدر عن إنسانٍ نستبدلُه بتشريعٍ يصدرُ عن إنسان!!.

أحكامُ الله تطبيقاتٌ متحرِّكة ومتغيِّرة بتغيُّر الزمان والظروف:

فإنْ قلتم -وقد قلتم- نحن أساسًا لا نُؤمن أنَّ دين الإسلام له شريعة ثابتة، فكلُّ ما جاء في الكتاب والسنَّة من أحكامٍ في مختلفِ الشئون ودون استثناء لم يكن سوى مصاديق وتطبيقاتٍ للمفاهيم والقيم التي جاء بها الإسلام، وهي مصاديقُ وتطبيقاتٌ لا تصلحُ لغير عصر النصِّ، لذلك فهي ليست ثابتة بل متغيِّرة بتغيُّرِ الزمان والمكان، فعلى الإنسان في كلِّ زمانٍ ومكان أنْ يستحدثَ تشريعاتٍ تتناسبُ مع مقتضيات ظروفِه وزمانِه ولكن وفقًا للمفاهيم والقيم القرآنيَّة، وعلى حدِّ تعبيركم: المفاهيمُ ثابتة والمصاديقُ متحرِّكةٌ ومتغيِّرة بحسب مُقتضيات كلِّ عصر.

فلديَّ على ذلك عددٌ من الأجوبة:

الجواب الأول: إنَّ هذه الدعوى لخطورتِها وعظيمِ أثرِها واقتضائها لنسف الشريعة برمَّتها وإلغاء السنة النبويَّة بجميع تفاصيلِها فلا يبقى منها سوى مواعظَ كمواعظ السيد المسيح، هذه الدعوى التي هي بهذا الحجم من الخطورة تحتاجُ إلى نصوصٍ صريحة ومتكاثرة من القران والرسول (ص) تنصُّ على أنَّ التشريعات التي وردت في الكتاب والسنَّة ليست سوى تطبيقاتٍ خاصَّةٍ بعصر النص، وتنصُّ على أنَّ هذه التشريعات متغيِّرةٌ بتغيُّر الزمان، وتنصُّ على أنَّ للإنسان صلاحيَّة استحداث تشريعاتٍ غير التشريعات التي وردت في الكتاب والسنَّة بحسب مقتضيات عصره مراعيًا للمفاهيم والقيم العامَّة التي جاء بها الإسلام. فأين هي هذه النصوص؟!!

إنَّ دعوى بهذا الحجم من الخطورة وهي في ذات الوقت مُسنَدةٌ إلى الله تعالى ورسولِه (ص) يتعيَّنُ أن تكون مشفوعةً بخطاباتٍ صريحةٍ صادرةٍ عن الله ورسولِه (ص) إلا أنَّه لا نجدُ لهذه الخطابات عينًا ولا أثرًا. أيصحُّ أن نَستند لإثبات هذه الدعوى على مثل الحدس والاستحسان والظنون؟! والحال أنَّها من القضايا التي لا يُمكن اثباتها إلا بالوحي، إذ لا طريقَ للوصول إلى معرفة مُراداتِ الله تعالى إلا أنْ يتصدى هو جلَّ وعلا لبيانها بواسطة الوحي.

الجواب الثاني: إنَّ كلَّ المخاطَبين بالقرآن والسنَّة على امتداد أربعة عشر قرنًا فهموا أنَّ التشريعات الواردة في الكتاب والسنَّة ملزِمةٌ لهم في كلِّ زمانٍ ومكان، ولذلك لم يتردَّدوا في امتثالها على حدِّها إلا من عصيان، وفي الموارد التي يجهلون فيها ماهو التشريعُ الصادرُ عن الله ورسوله (ص) في هذه الواقعة أو تلك النازلة تراهم يفحصون ويبحثون وغايتهم من ذلك هو الوصول إلى ما كان قد صدر من تشريعٍ عن الله ورسوله (ص) فهل غرَّر القرآنُ بهم حيث لم يُوضح لهم أنَّ هذه التشريعاِت ليست سوى تطبيقاتٍ وأنَّ ثمة تطبيقاتٍ اخرى لكلِّ زمان، وهل تعمَّد النبيُّ (ص) التغريرَ بهم، إذ لم يُبيِّن لهم واقعَ حالِ هذه التشريعات رغم أنَّه مكلَّفٌ بالبلاغ المُبين، ورغم أنَّ عدم البيان في مثل هذا الشأن الخطير سوف يُوقعهم في محاذيرَ خطيرة حيثُ سيلتزمون بتشريعاتٍ فيها ما يتَّصل بالدماء والفروج والأموال الخطيرة، فكيف لم يُبيِّن، رغم أنَّ عدم البيان سيُفضي إلى الإلتزام بتشريعاتٍ صارمةٍ ومستوعِبة والحال أنَّها لا تصلحُ بحسب الدعوى لغير زمانِ صدور النص.

فالقرآنُ والسنَّة بإغفالِهما التصريحَ بعدم صلاحيَّة هذه التشريعاتِ لغير زمانِ النصِّ يكونان قد أوقعا المسلمينَ في الكثير من المفاسد المترتِّبة عن تطبق تشريعٍ لا يَصلحُ لأزمنتِهم، ويكونان قد فوَّتا على المسلمين مصالحَ كانوا سيحظون بها لو استحدثوا لأنفسِهم تشريعاتٍ أُخرى متناسبةً مع مُقتضياتِ عصرِهم لكنَّهم لم يفعلوا لأنَّهم فهِموا من خطاباتِ القرآنِ والسنَّة أنَّهم مُلزمون بالتشريعات الواردةِ فيهما.

الجواب الثالث: إنَّ أهلَ البيت (ع) وعلى مدار ما يزيدُ على القرنين من الزمن دأبوا على تعليمِ الناس أحكام الشريعة بتفاصيلها، فكانوا يُعلِّمون الناس وضوءَ رسولِ الله (ص) وكيف كان يُصلِّي، وما هي أجزاءُ الصلاة الواجبة وما هي أجزاؤها المستحبَّة، وكانوا يقولونَ هذا لم يفعلْه رسولُ اللهِ (ص) في عبادته فهو بدعة، وهذا قد فعله فهو سُنَّة، ويُعلِّمونَ الناس شرائطَ صحَّة الصلاة والموانعَ والقواطعَ والأوقات الفضيلة والأوقات المختصَّة، ومتى تُصبحُ الصلاة قضاءً ومتى تجبُ اعادتُها وفقًا لما سنَّه وفرضَه رسولُ الله (ص) وماهي مُفطِّرات الصائم وما يُعتبرُ في صحَّته وما يُشترطُ في وجوبه، ومتى يبلغُ الصبيُّ ومتى تبلغُ الجارية، وما هي مناسكُ الحج وبأيِّ شيءٍ تتحقَّقُ الإستطاعة، وما هي المواقيت التي وقَّتها رسولُ الله (ص) وماهي تُروكاتُ الإحرام بحسب ما بيَّنه وفرضه رسولُ الله (ص) وما هي الفرائضُ في الميراث، وما هي طبقات الورثة، ومتى يُحجب الوارثُ ومتى يُمنع، وكيف تُوزَّع الحصص، وماهي العقوبات والحدود التي فرضها القرآن على بعض الذنوب، وما هي الحدود التي جعلها رسولُ الله (ص) وما هي مواردُها، ومتى يُدرأُ الحدُّ عن الجاني، وفي أيِّ شيءٍ يكون القصاص، ومتى تتعيَّنُ الدية، وكم هي عدَّةُ المُطلَّقة، ومتى تكون رجعيَّة ومتى تكون بائنة، وماهو طلاقُ السنَّة وما هو الطلاقُ البدعي، وهل على اليائس من عدَّة، ومتى تعتدُّ المُتوفى عنها زوجُها وكم هو عددُ أيامِ عدَّتِها، ومتى تخرج الحامل من عدَّة الوفاة بحسب ما نصَّ عليه القرآن والسنَّة وأيُّ النساء يحرم نكاحهنَّ بالنسب وأيُّهنَّ يَحرمنَ بالمصاهرة وأيُّ النساء يحرم نكاحهن بالرضاع بحسب ما نصَّ عليه القرآن وسنَّه رسولِ الله (ص) وما هي موارد خيار الفسخ في النكاح، وماهي شرائطُ الصحَّة في العقود، وماهى خياراتُ الفسخ، وما هي المكاسب المحرَّمة التي نصَّ رسولُ الله (ص) على حرمتها، وما هي الأطعمةُ والأشربة التي حرَّمها الكتابُ والسنَّة، وقد دأبَ أهلُ البيت (ع) على تذكير الناس بأنَّ هذا الفعل نهى عنه القرآنُ ففعْلُه معصية، وهذا الفعل قد نهى عنه رسولُ الله (ص) فارتكابُه معصية، وهذه الذنوب من الكبائر وتلك من اللمم، كلُّ ذلك -ومثله كثير- قد دأبَ أهلُ البيت (ع) على بيانِه للناس تحت عنوان ما نصَّ عليه القرآنُ وشرَّعه وما قالَه رسولُ الله وسنَّه وفعله وأقرَّه، وكانوا يُوصون الناس بالتفقُّهِ ويُوصون الرواةِ بكتابة ما يتلقَّونه عنهم من أحكام والتصدِّي لتعليم الناس إيَّاها، وكانوا يتحدَّثون -كما في الروايات البالغة حدَّ التواتر الإجمالي- أنَّ عندهم كتبًا كانت بإملاء رسولِ الله (ص) وخطِّ عليِّ (ع) فيها الحلالُ والحرام وفيها كلُّ ما يحتاجُه الناس إلى يوم القيامة حتى أرش الخدش كما دأبوا على التصريح بذلك وكانوا ربما قرأوا بعض فقراتها على بعض الرواة، فلماذا كلُّ هذا الإهتمام وهذه العناية وكلُّ هذا الحرص على بيان أحكام مختصَّةٍ بعصر صدورها أو به وبما يقربُ منه، ولماذا كلُّ هذا التشديد على لزوم التفقُّه فيها وحفظِها وتدوينِها وتبلغيها والوعدِ بعظيم الثواب لمن يتصدَّي لتعليمِها، ولماذا كلَّ هذا التحذير والوعيدِ بشديد العقاب لكلِّ مَن تجاوز حدودَها واعتباره فاسقًا ومتعدِّيًا لحدود الله تعالى، ولماذا كلُّ هذا التأكيد على أنَّ أحكام الكتاب والسنَّة حمى الله تعالى إذا كانت مجرَّد تطبيقات لا قرار لها ولا دوام بل هي متغيِّرةٌ بتغيُر الزمان والمكان.

الجواب الرابع: إنَّ القرآنَ الكريم حذَّر في العديدِ من الآيات من التعدِّي لحدود الله، وعند ملاحظة هذه الآيات نجد أنَّ هذه الحدود التي نسبها اللهُ تعالى إلى نفسه هي أحكام شرعيَّة بعضُها يتَّصلُ بالعبادات وبعضها يتَّصل بالمعاملات بالمعنى الأعم فمن ذلك:

المورد الأول: قولُه تعالى من سورة البقرة: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾(1) فمَن هم هؤلاء الناس الذين تُخاطبُهم هذه الآية وتذكرُ لهم أنَّ هذه الأحكام بيانٌ من عند الله تعالى وانَّ التزامها هو المفضي للتقوى، وتصفُ هذه الأحكام بحدود الله وتُحذِّرهم من التجاوز لها، فمَن هم المعنيُّون بهذا الخطاب؟ ومن هم هؤلاءِ الناس؟ هل يفهم أحدٌ أنَّ هؤلاءِ الناس هم الموجودون في عصر النصِّ وحسب، وهل يفهمُ أحدٌ يقرأُ هذه الآيات أنَّ هذه الأحكام حدودٌ لله في عصر النصِّ دون سائر العصور؟! وانَّ التعدِّي لها بعد عصر النصِّ أو مايقربُ منه ليس تعدِّيًا لحدود الله؟! وأنَّ التحذير من تجاوزها يختصُّ بعصر الصدور وبعده يسوغ للناس تجاوزها؟! ألم يقل القرآن: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾(2) أليست آياتُ الأحكامِ من القرآن فيكونُ الإنذارُ بها لمُطلقِ من بلَغ؟!

المورد الثاني: قولُه تعالى في سورة النساء: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾(3) ثم قال: ﴿وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾(4) ثم قال: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾(5) ثم قال: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾(6) ثم قال: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ﴾(7) ثم قال: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾(8) ثم قال: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ﴾(9) إلى أن قال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾(10) فهل يفهمُ أحدٌ يقرأُ هذه الآياتِ أنَّ هذه الأحكام -التي تُحذِّرُ الآيات من تجاورها وتَعِدُ بالجنَّة مَن امتثلها- مختصةٌ بعصر النص؟!! وأنَّه ليس على مَن جاء بعد عصر النصِّ من بأسٍ لو تعدَّاها بصفته غير معنيٍّ بها، فالزمان قد تغيَّر واستجدَّت أمورٌ وشئونٌ وأحوال؟!

المورد الثالث: قولُه تعالى من سورة المجادلة: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(11) إنَّ ظاهر هذه الآية هو أنَّ الحكم الوارد فيها حدٌّ من حدود الله لمُطلق مَن يُظاهرُ من نسائه بقطع النظر عن الزمان والمكان.

المورد الرابع: قولُه تعالى من سورة الطلاق: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾(12).

إنَّ الظهور البيِّن لهذه الآيات هو أنَّ الأحكام المُبيَّنة فيها حدودٌ لله تعالى على نحو الإطلاق، ودعوى اختصاصها بزمنٍ دون آخر يفتقر إلى قرينةٍ بيِّنةٍ تُصححُ رفع اليد عن هذا الظهور في الإطلاق الزماني.

على أنَّ من غير المناسب عرفًا التصدِّي في هذا الكم من الآيات لبيان أحكامٍ هي لفئةٍ قليلةٍ من الناس ولزمنٍ محدودٍ جدًّا بالقياس إلى عمر القرآن الذي سيمتدُّ إلى آخر الدهر، ثم إنَّ وصفها بحدود الله والتغليظَ في التحذيرِ من تجاوزها ووصف التعدَّي لها في بعض الآيات بالكفر وفي بعضها بالظلم وتهديد المتجاوز لها بالخلود في النار وبالعذاب الأليم وبالعذاب المهين إنَّ هذا اللحن من الخطاب وهذه المؤثِّرات التي حُشدت بها هذه الآيات وملاحظة ما يصفُ به القرآن نفسه بأنَّه بيانٌ للناس كافَّة وهدىً للعالمين يُؤكِّد ظهورَ الآيات في أنَّ المعنيَّ بهذه الأحكام هم عامَّة الناس في عمود الزمان.

الجواب الخامس: إنَّ الدعوى بأنَّ كلَّ ما جاء في الكتاب والسنَّة من أحكامٍ في مختلفِ الشئون ودون استثناء لم يكن سوى مصاديقَ وتطبيقاتٍ للمفاهيم والقيم التي جاء بها القرآن وانَّ هذه المصاديق والتطبيقات متغيِّرةٌ بتغيُّرِ الزمان والمكان وانَّ على الإنسان في كلِّ زمان أنْ يستحدثَ تشريعاتٍ تتناسبُ مع مقتضيات ظروفِه وزمانِه ولكن وفقًا للمفاهيم والقيم القرآنية إنَّ هذه الدعوى صريحةٌ في أنَّ الإسلام دينٌ لا شريعة له، فالشريعةُ يخترعُها الإنسانُ في كلِّ زمان غايته أنَّ القرآن جعل شريعةً للجيل الأول لأنَّه حديث عهدٍ بالإسلام وعلى الإنسان بعد الجيل الأول أو مَن يقرب منه ممَّن تتشابه ظروفه بظروف الجيل الأول أنْ يخترع لنفسه شريعةً أخرى مراعيًا المفاهيم العامَّة التي جاء بها القرآن، فلو كانت هذه الدعوى تامَّة فإنَّ مقتضى الحكمة واهتمام الإسلام بغاياته ومقاصده وحرصه على أنْ ينضبط الإنسانُ في اطار المفاهيم والقيم التي جاء بها وحرصه على عدم ايقاع الناس في المفاسد إنَّ مقتضى ذلك ولضمان عدم الإنحراف عن صراط الدين هو التصدِّي الواضح لبيان الضوابط العامة والمقاييس التي بها تتحدَّد عملية الصناعة للتشريع المناسب للمفاهيم والقيم التي جاء بها القرآن، فإذا كان القرآن قد أمر بالصلاة وهي من المفاهيم كما ذكرتم والمفترض على حدِّ زعمكم أنَّ الصلاة التي رسمها النبيُّ (ص) للمسلمين لم تكن سوى تطبيقٍ لمفهوم الصلاة وثمة تطبيقاتٌ أخرى يمكن استحداثُها بحسب مقتضيات الزمان والمكان ألا يكون من اللازم أنْ يتصدَّى القرآنُ أو النبيُّ الكريم (ص) لتعريف الناس متى يتعيَّن عليهم استبدال تطبيقٍ بآخر؟ وما هي شرائطُ التطبيق الآخر ليكون بديلًا مناسبًا للتطبيق الأول؟ وهل يلزمُنا الاحتفاظُ بصورةِ أو مسمَّى التطبيقِ الأول أو يصحُّ الإتيان بأيِّ صورة إذا كانت تعطي أثرَ التطبيقِ الأول؟ ثم ما هي ملاكاتُ هذه التطبيقات وسقوفُها الدنيا حتى لا نتورطَ باستحداثِ تطبيقٍ لا يُحقِّقُ الأدنى من الملاك؟ فأين هي هذه الضوابط؟! ألم يكن من اللازم التعريف بها وببياناتٍ واضحةٍ وقاطعةٍ للعذرِ تنعكس بشكلٍ بَيِّنٍ في النصوصِ القرآنية والرواياتِ الواردةِ عن الرسول (ص) كما تنعكسُ على ثقافة الجيلِ الأول حتى يتأهَّلَ لنقلِ هذه الثقافة للأجيال اللاحقة والتي ستكون في أمسِّ الحاجة لهذه الضوابط وهذه المقاييس خصوصا وان صناعة التشريع لم يكن معهودًا، فلماذا خلا القرآنُ والسنَّة من البيان لهذه الضوابط؟!

وإذا كان القرآنُ والسنَّةُ لم يتصدَّيا لذلك فلماذا لم يتصدَّ أهلُ البيت (ع) على امتداد قرنين ونصفٍ من الزمن لبيان هذه الضوابط والمقاييس رغم أنَّ هذا الزمن كان حافلًا بالمتغيِّرات، وإذا لم يكن كذلك فلا أقل أنَّ بوادر التغيير قد وقعت في زمانهم، فلماذا لم يتصدَّوا لبيان ضوابط الصناعة للتشريع؟! هل نشأ ذلك صُدفةً؟! أو كان منشأُه الغفلةَ عن ضرورة ذلك؟! أو أنَّ منشأَه تعمُّدُ التغريرَ والإيقاعَ بالناس؟! الذين قد يمتدُّ وجودُهم لآلاف السنين أو أكثر أو أنَّ منشأه عدمُ اهتمام دينِ الإسلام بالشريعة وانَّ للإنسان أنْ يسوسَ نفسَه بما يشاء حتى فيما يتَّصل بعباداته؟! والاحتمال الأخير لم يجرأ على تبنِّيه حتى دعاة العلمانيَّة ولكنَّ مآل الدعوى المذكورة بل واقعَها هو التبنِّي لهذا الاحتمال الأخير.

والملفتُ أنَّ الرواياتِ الواردة عن أهلِ البيت (ع) والتي خلت من البيان لضوابط التشريع المزعوم تصدَّت وفي جملةٍ وافرةٍ من الرواياتِ تبلغ حدَّ التواتر الإجمالي تصدَّت لبيان الضوابط التي بها يتميَّز الخبر الصادق الكاشف عن السنَّة النبويَّة من الخبر الكاذب، وتصدَّت لبيان الضوابط التي بها تُعرف شرعيَّة الشروط في العقود وانَّ هذه الضوابط هي مطابقةُ الشروط لأحكام الكتابِ والسنَّة، وتصدَّت لبيان ضوابط الترجيح بين الأخبار المتعارضة في بيان الأحكام، وكلُّ ذلك يعكس اهتمام الدين بالشريعة أولًا ويؤكِّد ثانيًا على أنَّ الشريعة التي جاء بها الكتابُ والسنة مفروضةٌ على العباد إلى قيامِ الساعة.

الجواب السادس: إنَّ الأحكام تابعة لموضوعاتها وجودًا وعدمًا هذا مسلَّم وبديهي ومعناه أنَّ الحكم ينتفي تبعًا لانتفاء موضوعه ولا تتحقَّق له فعليَّة قبل تحقُّق موضوعِه إلا أنَّ الذي يُحدِّد موضوع الحكم وقيودَه المختلفةَ هو الجاعلُ للحكم، فهو مَن يُحدِّدُ الموضوع ويُبيِّن قيودَه أولًا ثم يجعلُ عليه الحكم الذي يُريدُه، فهو تارةً يُقيِّدُ موضوعَ حكمِه بزمانٍ أو مكانٍ أو بأيِّ قيدٍ آخر ثم يجعلُ الحكم على ذلك الموضوع المقيَّد بتلك القيود، وتارةً يُجعل الحكم مطلقًا من جهةِ الزمانِ مثلًا، ففي الفرضِ الأول يثبتُ الحكم للموضوع في الزمان المحدَّد والمكانِ المُحدَّد وينتفي الحكمُ بمجرَّد انتفاءِ ذلك الزمان وتغيُّر ذلك المكان، وأمَّا في الفرض الثاني فالحكمُ يظلُّ ثابتًا لموضوعه وإنْ تغيَّر الزمانُ وتبدَّل المكانُ لأنَّ الزمانَ والمكانَ لم يُؤخذا قيدًا في الموضوع المجعول عليه الحكم.

وعليه فإذا ورد حكمٌ في الكتاب أو السنَّة ولم يُقيَّد موضوعُه بزمانٍ أو مكانٍ فإنَّ هذا الحكم يكونُ مطلقًا من جهة الزمانِ والمكانِ، فتمادي الزمنِ لا ينفي الحكمَ عن موضوعِه وتبدُّل المكانِ لا ينفي الحكمَ عن موضوعِه بل يظلُّ الحكمُ ثابتًا ما دام موضوعُه متحقِّقًا خارجًا، فالإدِّعاء بأنَّ الزمانَ دخيلٌ في ثبوت الحكم لموضوعِه رجمٌ بالغيب بعد افتراض عدم تقييد الخطاب في الكتاب والسنَّة موضوعَ الحكم بالزمان.

فحين يقولُ اللهُ تعالى مثلًا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(13) فهنا موضوعاتٌ أربعة ذكرتْها الآيةُ، هذه الموضوعاتُ هي الخمرُ والميسِرُ والأنصابُ والأزلامُ، والحكمُ المجعولُ على هذه الموضوعاتِ الأربعةِ هو الحرمةُ المستفادةُ من قولِه تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ وعليه ففي كلِّ موردٍ وُجد فيه الخمر مثلًا فإنَّ وظيفةَ المؤمن المخاطَب بهذه الآية هو اجتنابُه، فمهما تمادى الزمانُ فإنَّ الحكم بالحرمة للخمر يظلُّ ثابتًا، وذلك لأنَّ الحكمَ بالحرمة لم يُقيد بزمن، نعم لو كان الموضوع- الخمر- مقيَّدًا بزمن لكان الحكم بالحرمة يرتفع تلقائيًّا عن الخمر بمجرد انتهاء ذلك الزمن أما والحال أنه لم يُقيَّد بزمن فالحكم بالحرمة يظلُّ مطلقًا من جهة الزمن، وكذلك هو مطلقٌ مثلًا من جهة المكان لأنَّه لم يُقيَّد بمكان، وهكذا فكلُّ قيدٍ نحتملُ دخلَه في ثبوت الحكم للموضوع يكون منفيًا ما دام لم ينصَّ الخطابُ عليه، ولم يقم دليلٌ على أنَّه قيدٌ في موضوع الحكم، فلو احتملنا أنَّ موضوع الحرمة مثلًا هو الخمر المقيَّد بالكثرة أو الخمرُ المركَّز دون المخفَّف فإنَّ هذا الاحتمال لا اعتدادَ به ما دام الخطابُ لم ينصَّ على دخالةِ هذا القيد أو ذاك في ثبوت الحرمة للخمر ولم يقُم دليلٌ آخر يدلُّ على دخالتِهما في ثبوتِ الحرمةِ للخمر. فأيُّ ادَّعاءٍ بدخالةِ قيدٍ في موضوعِ الحكم لم يقمْ عليه دليلٌ يكونُ من الرجمِ بالغيب لأنَّ صاحب الحكم لم يُصرِّح بذلك، فمن أين لنا أن نعرفَ أنَّ هذا القيد أو ذاك دخيلٌ في موضوعِ حكمه؟!.

ومن ذلك يتبيَّن فسادُ ما ذكره صاحبُ الشبهة من أنَّ مستنده فيما ادَّعاه هو أنَّ الأحكام التي جاءت في الكتاب والسنَّة مختصَّةٌ بعصر النصِّ أو به وبما يقربُ منه، فإنَّ معنى ذلك أنَّ موضوعاتِ جميع الأحكام الواردةِ في الكتاب والسنَّة مقيَّدةٌ بزمنِ النصِّ أو بما يقربُ منه، وتلك دعوى لم ينصبْ عليها دليلًا، فموضوعاتُ الأحكام في الكتابِ والسنَّة مطلقةٌ من جهة الزمن، إذ لم يردْ في خطاباتِ هذه الأحكام ما يكشفُ عن تقيُّد موضوعاتِها بزمنٍ محدَّد كما لم يقم دليلُ من خارجِ هذه الخطاباتِ يدلُّ على تقيُّدها بزمنٍ، ولذلك فهي مطلقةٌ من جهة عمودِ الزمان، ودعوى أنَّ الدليل على تقيُّدها بزمنِ النصِّ أنَّ الظروفَ في مثل زماننا قد تغيَّرت عمَّا كانت عليه في زمنِ النصِّ وذلك يقتضي عدم صلاحيَّة تلك الأحكام للاستمرار.

هذه الدعوى في غاية السقوط لأنَّها لا تصحُّ إلا في فرض العلم بملاكاتِ الأحكام وعلِلها الواقعيَّة، وذلك لا يُتاح إلا مِن طريقِ الوحي، فالجاعلُ لهذه الأحكامِ على موضوعاتِها -كما يُؤمنُ صاحبُ الشبهة- هو اللهُ جلَّ وعلا وهو تعالى لم يكشفْ لنا عن علَّة كلِّ حكمٍ جعلَه على موضوعِه حتى نتمكنَ من المعرفةِ بأنَّ هذا الحكم قد انتفى لأنَّ علَّته قد ارتفعتْ، فلو كان قد كشف لنا عن عِللِ أحكامه لصحَّ لنا أنْ نبنيَ على ارتفاع كلِّ حكمٍ من تلك الأحكام حين نجدُ أنَّ علَّتَه قد ارتفتْ، أمَّا والحال أنَّه لم يُصرِّح بعللِ الأحكام واكتفى في خطاباتِه ببيان أحكامِه التي جعلها على موضوعاتِها المحدَّدة من قِبَلِه فحينذٍ كيف يسوغُ لنا أن نقولَ إنَّ الأحكام قد ارتفعتْ لأنَّ الظروف قد تغيَّرت فهل كانت تلك الظروفُ هي علَّة الأحكام حتى يكونَ تغيُّرُها مقتضيًا لتغيُّر الأحكام؟!

فجعل الوجوب على الصلاة والصوم مثلًا بالكيفيَّة المعهودة هل كانت علَّته هي أنَّ ظروف زمن النص مثلًا تتميز بالبداوة والقسوة وحيث أصبح الإنسانُ في هذا الزمن رحيمًا وديعًا لذلك يتعيَّن ارتفاعُ الحكم بالوجوب عن الصلاة والصوم أو الاستحداث لكيفيَّةٍ أخرى؟! إنَّ هذا الكلام يتمُّ لو صرَّح لنا صاحبُ الشريعة أنَّ علَّة جعلِه الوجوب على الصوم والصلاة هو ذلك لكنَّه لم يُصرح وأطلقَ الحكم بوجوب هذه الكيفيَّة وهو ربُّنا لا يسعُنا إلا أن نتعبَّد بما يأمرُ وننتهي عما ينهى عنه.

ولذلك لا ينقضي العجبُ من صاحب الشبهة حين قال بالمعنى إنَّ اللهَ تعالى إنَّما جعل للذكر مثل حظِّ الانثيين في الميراث لأنَّ زمن النصِّ كان المجتمعُ ذكوريًّا فكان الرجلُ هو المسئولُ عن النفقة على زوجتِه وأبويه وأبنائِه، وأما المرأةُ فلا تُنفقُ ممَّا يصلُ إليها شيئًا، فكأنَّها قد حصلت على مقدار نصيب الذكر أو أكثر، أما وقد تغيَّرت الظروفُ وصار للمرأة أنْ تعمل وصار عليها أن تُنفق فاللازمُ هو تغيُّر هذا الحكم ليُصبح للأنثى مثلُ نصيبِ الذكر.

إنَّ هذا الكلامَ غريبٌ مِن مثلِ هذا الرجل، فمِن أين علِم أنَّ علَّة جعلِ نصيبِ الذكر في الميراث ضِعفَ نصيبِ الأنثى هو أنَّ المجتمع كان ذكوريًّا وانَّ الرجلَ كان يُنفِقُ والمرأة لا تُنفقُ؟! هل صرَّحَ الكتابُ أو صرَّحت السنَّةُ أن تلك هي العلة؟! أو هو حدسٌ قد حدَسه ما أنزل اللهُ به من سلطان.

فعلى ذلك إذن نستطيعُ القولَ مثلًا إنَّ الله تعالى إنَّما حرَّم الزنى بذات البعل خشية أنْ تختلطَ الأنساب فلا يُعلم أنَّ الولد قد تخلَّق من ماءِ الزاني أو تخلَّق من ماءِ الزوج أمَّا وقد تغيَّرت الظروفُ وأصبحَ من الميسور بواسطة الفحص المخبري تشخيصُ هوية الولد وإلى مَن ينتسب فإنَّ اللازمَ هو ارتفاعُ الحكمِ بحرمة الزنا لأنَّه لن يترتَّب عنه اختلاطٌ في الأنساب، وكذلك يجوزُ للمرأة أنْ تتزوَّج في عرْضٍ واحد بأربعة رجالٍ أو أكثر لأنَّه لن يترتَّب عن ذلك اختلاطٌ في الأنساب خصوصًا وأنَّ ذلك هو الأوفق بالحريَّة الفرديَّة والعدالة الإجتماعيَّة في ثقافة هذا العصر، وفي هذا السياق يتعيَّنُ علينا أيضًا إسقاطُ العدَّة عن المطلَّقة!!

وكذلك يمكنُ القولُ بأنَّ اللهَ تعالى إنَّما حرَّم الخمر في زمنِ النصِّ لأنَّ الجهل والبداوة والهمجيَّة كانت هي السائدة في ذلك المجتمع فيُخشى أنْ يشرب أحدُهم الخمر فيفقد عقلَه فيخرج شاهرًا سيفه فيفتِك بمَن يُصادفُه في طريقه أو يعتدي على عرضه، لكنَّ الظروفَ قد تغيَّرت وأصبح النظامُ هو السائدَ فيُمكنُ تخصيصُ أماكن لشربِ الخمر يَحوطُها رجالُ الأمن، فلا يُخشى من شاربِ الخمر أنْ يعتديَ على أحدٍ أو أنْ يضرَّ بأحدٍ، لذلك يتعيَّن رفعُ الحرمة عن شربِ الخمر!!!

ثم إنَّ ظروفَ عصرِ النصِّ لو كانت دخيلةً -كما زعمتم- في موضوعاتِ الأحكام الواردة في الكتاب والسنَّة فذلك لا يقتضي أكثرَ من ارتفاع الأحكام لتغيُّر موضوعاتِها، وأما التأسيسُ لأحكامٍ أخرى فيحتاج إلى دينٍ جديد وليس إلى فقهٍ جديد إلا أنْ يرى راءٍ انَّ له صلاحيَّة التشريع كما عليه المذهبُ الليبرالي بأنَّه آنَ الآوانُ لأنْ يحِلَّ الإنسانُ بدلًا عن اللهِ تعالى في صناعةِ التشريع.

الجواب السابع: هو أنَّه وبعد أنْ تسقط الأحكام الواردة في الكتاب والسنَّة ونُصبحُ بصدد التأسيس لتشريعاتٍ أُخرى فما هي الآليَّة المُعتمَدة لعمليَّة التشريع؟ وما هي الشروطُ المُعتبَرة فيمَن له صلاحيَّةُ التشريع؟ وماذا لو لو وقع الاختلاف في الآليَّة وفي الشرائط المُعتبرة كيف يتمُّ حسمُ الخلاف؟هل بوضع أُسُسٍ يتمُّ الرجوع إليها؟ فما هو مُستَندُ هذه الأُسُس والحال أنَّ الكتاب والسنَّة لم يتصدَّيا لشيءٍ من ذلك، فالسنَّة إنَّما قد عرَّفت بالفقيه في فهم الكتاب والسنَّة ولم تُعرِّف بالفقيه الذي له صلاحيَّة التشريع، فليس في الإسلام فقهاءُ تشريع، فعلى أيِّ شيء نستندُ في تحديد الأُسس والضوابط؟ هل نَستندُ على المفاهيم وهي مجملة وعائمة أو على التشريع الإسلامي وقد أسقطناه أو نستندُ إلى الرؤى والتحسينات؟! وهل سننسبُها حينذاك إلى لدين فنصفُها بالضوابط الإسلاميَّة؟!

ثم إذا تجاوزنا هذه المرحلة فما هي القواعد والملاكاتُ المُعتمَدة في عمليَّة التشريع؟ هل هي المصالحُ والمفاسدُ؟ وهل الإنسانُ محيطٌ بأوجهِ المصالحِ واالمفاسد؟! ولو اتفقت له الإحاطة -جدلًا- في بعض الموارد فهل يسعه الادِّعاء بانتفاء الموانع والمزاحِمات؟! ثم أيُّ المصالحِ والمفاسد التي تُعتمَد في عمليَّة التشريع؟ هل هي المصالحُ والمفاسدُ العامَّة؟ كيف والأنظارُ في تشخيصِها متباينةٌ للتفاوت في الأفهامِ والإختلاف في الموازين والمتنبنَّيات القبليَّة التي يرتكزُ عليها تشخيصُ المفاسد والمصالح، وكذلك فإنَّ التباينَ في الحسابات بين المجتمعات يُسهم في تبايُن الأنظار فيما هي المصلحةُ العامَّة، فما فيه مصلحةٌ عامَّة قد يكونُ فيه تمامُ المفسدة في مجتمعٍ آخر أو بحسب مقاييسَ أُخرى وهم على دينٍ واحد ثم إنَّه قد يتمُّ التوافق على اشتمال فعلٍ على مصلحةٍ أو مفسدة ولكنْ يقعُ الخلاف في مقدار ما تقتضيه هذه المصلحة أو هذه المفسدة، فيرى البعضُ انَّ مقتضى هذه المصلحة هو الإلزام ويرى الآخرون أنَّها لا تقتضي أكثر من الاستحباب، ويرى البعض أنَّها تقتضي جعلَ هذا الفعل شرطًا في الصحَّة وعدمَه شرطًا في الفساد ويرى آخرون أنَّها لا تقتضي ذلك، وهكذا هو الشأنُ فيما تقتضيه المفسدة.

فإذا لم تكن المصالحُ والمفاسدُ العامَّة صالحةً فهل نعتمدُ المصالحَ والمفاسد الخاصَّة بكلِّ مجتمعٍ فتتعدَّد بذلك نسخُ الإسلام بتعدُّد المجتمعات على حدِّ وصفكم للتشريع الذي جاء به الكتاب والسنَّة وأنَّه لم يكن سوى نسخةٍ للإسلام وثمة نُسَخٌ وتطبيقاتٌ أخرى؟ أو نعتمدُ المصالحَ والمفاسدَ الخاصَّة لكلِّ فردٍ فيسودُ الهرجُ والمرجُ بين الناس؟!

وإذا كانت المصالحُ والمفاسد بتمام صورها غيرَ صالحةٍ لاعتمادها في صناعة التشريع فهل نعتمدُ القيم؟ وهل سوف نتَّفقُ في تفسيرِها وتحديدِ مواردِها ومعالمِها وتطبيقاتِها؟ وهل سيكونُ مِن هذه القِيَم هو عدم التجاوز للسائد من الثقافات والمتبنَّيات العالميَّة على طريقتِكم في الاستخفافِ من الحكم بتحريم الربا؟! وعلى طريقتِكم في الاستيحاشمن الحدود الشرعيَّة؟! وعلى طريقتِكم في الفهم لحقوق المرأة والتي انتصرتُم فيها للقيم الليبراليَّة؟!.

فاتقِ اللهَ واخشَ اليومَ الآخر ولا يَستخفَّنَّك الذين لا يُوقنون.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة البقرة / 187.

2- سورة الأنعام / 19.

3- سورة النساء / 3.

4- سورة النساء / 4.

5- سورة النساء / 5.

6- سورة النساء / 6.

7- سورة النساء / 7.

8- سورة النساء / 11.

9- سورة النساء / 12.

10- سورة النساء / 13.

11- سورة المجادلة / 4.

12- سورة الطلاق / 1.

13- سورة المائدة / 90.