حديث حول برِّ الوالدين

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد (ص)، وعلى آله الأخيار الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرِّجس وطهَّرهم تطهيرا. اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.

 

مقدَّمة

قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا / وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾(1)

صدق الله مولانا العلي العظيم

 

هذه الآية المباركه تعبِّر عن أنَّ البرَّ والإحسان للوالدين مُساوقٌ لطاعة الله، وأن إرادة الله قد تعلَّقت بأمرين: تعلَّقت بأن يُعبَد -﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾(2)-، وتعلَّقت بأن يُحسِن كلُّ إنسان لوالديه. وإنَّ عطف هذا على ذا يُعبِّر عن مستوى الأهمية التي يحظى بها الإحسان والبر بالوالدين، فما من أمرٍ قرنه الله -عز وجل- بطاعته وعبوديته، إلَّا الإحسان بالوالدين! فأيُّ مِلاكٍ عظيمٍ وخطيرٍ يشتمل عليه هذا الفعل، حتى يقرنه الله -عز وجل- بالحكم الإلزاميّ بالعبودية له، والتي هي هدف الخلق -خلق الانسان-؟!

 

فالتعبير بـ (قضى) في قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ يعني حكَمُ وأَلزمَ، والحكم والإلزام ينشأ عن إرادة شديدة مؤكَّدة، ناشئةٌ عن مِلاكٍ ومصلحةٍ عظيمتين، وحتى نُدرك حجم المصلحة المترتبة على برِّ الوالدين، يجب أولاً أن نُدرك المصلحة التي تعود على الإنسان من عبوديته لله تعالى، فمن ذلك ندرك حجم المصلحة المترتبة على البر بالوالدين؟!

 

هنا سوف نتحدث -بعد هذه المقدمة- عن مجموعة أمور ترتبط بهذا البحث، سنبدأ ببيان الأثار المترتبه على البرِّ والإحسان للوالدين، ثم نتحدث -إن شاء الله تعالى- عن معنى برِّ الوالدين. وقدَّمنا بيان الآثار؛ حتى يكون ذلك دافعاً وباعثاً للمؤمن على أن يتحرَّى مواطن البرِّ والإحسان بالوالدين، فيفعلهما.

 

الآثار المترتبة على برِّ الوالدين:

أولاً: غفران الذنوب:

هناك مجموعة من الروايات أشارت إلى بعض الآثار التي تترتب على برِّ الوالدين، ومن هذه الآثار: المغفرة. فإن مما الأمور ينتج عن البر بالوالدين هو المغفرة للذنوب، والصفح الإلهي. فمن أراد أن يغسل ذنوبه فعليه أن يبرَّ أباه وأُمَّه.

 

ورد عن أهل البيت عليهم السلام، أنَّ رجلاً جاء إلى رسول الله (ص)، فقال: يا رسول الله، ما من عظيمةٍ إلَّا وقد ارتكبتها - والعياذ بالله، - وما من ذنبٍ إلَّا وقد اقترفته، فهل لي من توبة؟ "يعني قد يرتكب الإنسان بعض الذنوب، ولكن أنْ يرتكب كُلَّ عظيمةٍ، وكلَّ كبيرةٍ، وكلَّ ذنب! فإنَّ ذلك أمره عسير. فماذا أجابه الرسول؟" قال (ص): "هل بقي أحد من والديك؟ قال: أبي، قال: إذهب فبِرَّه، فإنَّ ذنوبك جميعاً مهما خطرت تزول"، ثم لما ذهب ذلك الرجل، قال رسول الله (ص): "لو كانت أُمُّه هي الموجوده كان غفران ذنوبه أسرع"، البرُّ بالأم يُوجبُ سرعة غفران الذنوب أكثر من البرِّ بالأب -وإن كانا يشتركان في أن البرَّ بهما يوجب غفران الذنوب-. يقول رسول الله: لو كانت أمه؟ - يتأسف- يعني يقول إنّ مثل هذه الذنوب - المستوى الكبير من الذنوب - يحتاج الى أمِّ تغسله، وفي ذلك إشارة إلى منزلة الأم الرفيعة، والتي تفوق منزلة الأب -كما تفيده العديد من الروايات-.

 

ثانياً وثالثاً: طول العمر وزيادة الرزق

نعم، هناك آثار أخرى للبر بالوالدين، يقول رسول الله (ص): "من سرَّه أن يُمدَّ له في عمره، ويُزاد في رزقه، فليبرَّ والديه، وليصِلْ رَحِمَه"(3).

 

أثران تشير إليهما الرواية الشريفه للبر بالوالدين:

الأثر الأول: طول العمر، يمدُّ الله في عمر هذا الإنسان، فقد يكون مكتوباً في لوح المحو والإثبات أنَّ العمر الذي سوف يمتد بهذا الإنسان هو ثلاثون سنة، فيبرُّ والديه، فيُضاعف إلى ستِّين، وقد يضاعف إلى تسعين؛ لأنه برَّ والديه.

 

الأثر الثاني: ويزاد في رزقه، فقد يكون مقسوماً لك أن تحصل على هذا المقدار من الرِّزق، فتحصل على ما هو مُضاعف. وقد يكون مقسوماً لك أن تُرزق هذا النوع من الرزق -مثلاً: ترزق أموالاً دون الأولاد-، فتبرُّ والديك فتُرزق أموالاً وأولاداً معاً. وقد يكون مكتوباً لك أن تُرزق أموالاً وأولاداً دون جاه، فتبرُّ والديك، فترزق الأموال والأولاد والجاه جميعاً.

 

لاحظوا: يُمدُّ في عمره، ويزاد في رزقه، في مقابل ذلك فإنَّ من عقَّ والديه يُخرَم عمره، ويقلُّ رزقه. وبمستوى العقوق يكون مستوى الضِّيق الذي ينتاب الإنسان، وبمستوى العقوق يكون مستوى قصر العمر، حتى إذا بلغ الإنسان مرتبةً من العقوق: يقتُل فيها والديه -نستجير بالله-، فإنه يكون قصير العمر جداً، حتى لا يكادُ يبقى، بحيثُ يكون في خَلَد الناس أنَّ أباه لتوِّه قد مات، وقد لحقه إبنه -عاجلاً-.

 

يُقال أن المتوكِّل العباسيّ -أحد خلفاء بني العباس، وهذا الرجل كان ناصبيًّا جداً، وكان شديد العداء لعلي بن أبي طالب بالخصوص، وللسيدة فاطمة ولأهل البيت عموماً، ولشيعة آل محمد، وهو الذي حرث قبر الحسين (ع)، وتأسَّف أن لم يكن قد شارك في قتله!-، هذا الرجل كان يعقد المجالس، ويأتي بالمهرِّجين، وبالمغنين، فينشدوا أبياتاً في هجاء علي وفاطمة، ويتراقصون، ويشربون الخمر، ويتسامرون في ذلك! إبنه -المعتز بالله- لم يكن صالحاً، ولكن أخذته الحميَّة -حمية النسب- ؛ إذ كيف يتجرّأ على أبناء عمومته! فماذا فعل؟ دخل على أبيه -المتوكل العباسي-، هو ومجموعة من الجنود الأتراك، وكان المتوكِّل يشرب الخمر مع بعض ندمائه، فضربوهم بالسيوف حتى اختلطت لحومهم بالخمر، قتل أباه، فقيل: إن هذا الابن وإن كان قد قتل رجلاً فاجراً كافراً، لكنه لا يبقى. وبالفعل، لم تمض سنة، إلّا وقد قُتل هذا الرجل -ابن المتوكِّل- أيضاً. فالعقوق يُنتج عكس ما يُنتجه البر بالوالدين.

 

رابعاً: استحقاق الجنَّة

يقول عليه السلام: "من برَّ والديه طوبى له"(4)، طوبى: يعني الجنة. هناك روايات كثيرة، بعض الروايات أفادت -في مقام بيان حق الوالدين-: "هما جنَّتك ونارك"(5) ما معنى هذا الحديث؟ معناه أنه ببرِّهما يستحق المؤمن الجنَّة، وبعقوقهما يستحقُّ النار. فذنب يستحق مرتكبه النار ما أعظمه!، كثيرٌ من الذنوب يرتكبها الإنسان وقد لا يستحق عليها النار، أما عقوق الوالدين فيوجب دخول النار! والمشكلة أنَّ العقوق من الحقوق، ومن الأمور التي قد ينتهي بالإنسان إلى عدم القدرة على الإستغفار منها، وأداء مستحقاتها؛ لأنه قد تعقُّ أباك فيموت بعد أمد، فلا تستفيق إلَّا وقد مات، فكيف تستبرأ منه، وتسترضيه، وتؤدِّي حقَّه، وقد ذهب إلى ربِّه؟ فيبقى وِزرك يصاحبك إلى يوم القيامة. هذه بعض الروايات التي أشارت إلى الآثار المترتبه على البر بالوالدين. بعد ذلك نتحدث عن معنى البر بالوالدين، فما معنى أن تبرَّ والديك؟ وكيف يكون ذلك؟

 

في الروايات، سُئل الإمام الصادق (ع) عن (الإحسان) الوارد في الآية الشريفه: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾(6)، قال: "الإحسان أن تحسن صحبتهما، وأن لا تُكلِّفهما أن يسألاك شيئاً مما يحتاجان إليه، وإن كانا مستغنيين"(7).

 

أولاً: أن تُحسن صحبتهما

يعني معاشرتهما، أي تعاشرهما بالإحسان. في كل صحبة، في كل جلسة، هناك خيارات للإنسان: أن يقول لك الكلمة التي تُدخل عليك السرور، أويقول لك الكلمة التي تُدخل عليك الهمّ. أنت مُلزم بأن لا تقول لأبيك كلمة تُدخل عليه الحزن والإساءة، وكذلك أمك، مثلاً: أنت حينما يعرض عليك أبوك أمراً، أنت أمام خيارين أو خيارات، وبعض الخيارات تُوجب إدخال الحزن على أبيك، فتختار ما يُحزن أباك! هذا ينافي الإحسان، ليس الإحسان فقط هو أن تسقيه وأن تطعمه، هذا مظهرٌ من مظاهر الإحسان، ولكنَّ الإحسان أن تراقب كلَّ ما يرتبط بعلاقتك بأبيك وأمك، ولا يكفي أن تعاملهما بمستوى معاملتك مع الآخرين. الإحسان أن تقدِّمه على نفسك، الإحسان أن تَشقَى وتُسعده، الإحسان أن تراعيه في كلِّ حركاتك وسكناتك.

 

هناك بعض الأفعال التي تصدر منك تسيئ اليه، فلذلك ورد أنَّ الإنسان إذا كان سيِّئ الخلق مع الناس فهو معدود من العاقِّين، حتى لو كان يحترم أباه ويبرّه! لماذا؟ لأنَّ سوء خلقه مع الناس يُسبب أذىً لأبيه، لماذا؟ لأنَّ الناس ستقول إنَّه ولدٌ سيِّئ، وأنَّ أباه لم يُحسن تربيته، فهذا نوع من العقوق أيضاً، كل ذلك من العقوق، وما يُقابله يكون من الإحسان.

 

ثانياً: أن لا تكلفهما أن يسألاك

عليك تتبع حوائجهما، ولا تنتظر أن يقول لك أبوك أنا محتاج إلى هذا المبلغ من المال، أو محتاج إلى قضاء هذه الحاجة. فإذا انتظرته كنتَ مخالفاً للاحسان. أتنتظره أن يقول لك أنا محتاج إلى دينار؟! هذا مخالف للإحسان، الإحسان هو: أن تتحرَّى حاجاته، فتقضيها قبل أن يسألك. وما هو نحو القضاء؟ -هذا أيضا له دخل في الإحسان- تارة تعطيه العشرة دنانير، أو الألف دينار، فيشعر بأنَّك ترفَّعت عليه، فيكون إحسانك قد ذهب هباءاً منثوراً. في العادة يكون المعطي هو العزيز، في مقابل المعطى له فإنه يكون أقلَّ عزّةً، أو قد يكون ذليلاً. العطاء للأب يجب أن يكون مختلفاً، أنت تعطيه وأنت الذليل ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾(8)، يعني الإبن يعطي وهو في موقع الذُّل، لا بدَّ أن يكون في موقع الذُّل وهو يُعطي، لا أن يترفَّع على أبيه، أو يُعطيه أمام أولاده جميعاً، ويقول له: تفضل، لا تقل أننا لا نعطيك!!

 

لاحظوا، القرآن أراد -وكذلك أهل البيت أرادوا- أن نعامل الأب كما نتعامل مع الزُّجاجة، فالزجاجة رقيقة، وتنكسر لأدنى خدش، فكيف تُحافظ عليها، وتُداريها؛ حتى لا تنكسر؟ قلب الأم، وقلب الأب، يجب أن يعاملا بنفس المستوى من الحذر وحيطة؛ حتى لا ينكسرا.

 

أيضاً ورد في الروايات عن الإمام السجاد (ع) -في الصحيفة السجادية-: (اللهم اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف)(9)، يعني أنَّ الولد المؤمن ينبغي أن يتخضع لوالديه ويخشى غضبهما كما يتخضع الإنسان للسلطان الجائر لخشيته من غضبه فلذلك ورد أنَّه من العقوق أن تنظر إلى أبيك بحِدَّه، وأن تحدَّ النَّظر في وجهه(10). كم هو قبيح أن تحدّ النَّظر في وجه أبيك أو أن تعبس في وجهه أو أن تنظر إليه شزرا؟! لا يصحَ لك أن تنظر إليه إلَّا برحمةٍ ورأفة، هكذا ورد في الروايات، هكذا أدبَّنا أهل البيت (ع).

 

ثالثاً: أن تبرّهما برّ المهابة والمحبَّة

(اللهم اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف، وأبرهما برّ الأم الرؤؤف، واجعل طاعتي لوالديّ، وبرِّي بهما، أقرَّ لعيني من رقدة الوسنان)(11). هنا تشير الرواية الشريفة إلى أمر مهم: تارة يتصنَّع الإنسان البرّ-يتكلَّف البر-، فيشعر بالضجر وهو يبرّ بوالديه! يُعطيه وهو يشعر بالثِّقل؛ لأنه أعطاه، يتثاقل لأنه أعطاه! يعطيه لأنه إمتثال للأمر الإلهي، يحسن إليه لأنه يمتثل للأمر الإلهي... وهذا المقدار يُسقط التكليف، ولكن الإنسان الذي يريد أن يبلغ مرتبةً عالية من الإحسان والبر بأبويه، وأن يكون إحسانه باعثاً على الرَّاحة النفسيّة عنده، لابدَّ أن يستشعر الرَّاحة عندما يتاح له الإحسان لوالديه كما يستشعرها الإنسان النائم نومةً عميقة بعد تعبٍ شديد. كم يشعر هذا الإنسان بالراحة والإستجمام؟ لابدَّ أن يكون الإحسان للوالدين بهذا المستوى من الشعور، ثم يضيف الإمام في دعائه: (وأثلج لصدري من شربة الظمآن)(12) فكما يستشعر الظمآن بعد الإرتواء بالابتهاج كذلك ينبغي أن يكون عليه شعور المؤمن عندما يُتاح له الإحسان لوالديه هذا الإحسان هو المنتج لإيثار حاجة الوالدين على حوائجك وهو معنى قوله (ع): "حتى اوثر على هواي هواهما.."(13).

 

وفي مقابل ذلك هناك حالة قد أشارت إليها الروايات، وهي أنه في آخر الزمان، لا يقدِّم الإنسان نفسه على أبيه وحسب، بل يُقدِّم صديقه على أبيه، أو أولاده على أبيه! تلاحظهُ يلبس أولاده أحسن اللِّباس، ويرعاهم، وينسى أباه! فيكون أبوه في مرتبه ثانية، أو ثالثة، من همومه! لابدَّ أن يكون الأب في مقدَّمة هموم المؤمن، وأن يسعى لإزالة هذا الهم بواسطة ما يقوم به من بر.

 

تنبيه: البرّ ليس مجرد عدم العقوق هنا نريد أن نشير إلى أمر، وهو أنه كثيراً ما نتوهَّم أنَّ البرّ بالوالدين يتحقق بمجرّد عدم عقوقهما! إلا أنَّ الأمر ليس كذلك، فقد يكون الإنسان غير عاقٍّ، ولكنَّه لا يكون باراً، فالبارّ هو من يفعل الإحسان. فالإنسان قد يعاشر أبويه ولكن دون أن يُحسن أو يُسيء لهما، هذا لا يصدق عليه أنَّه بار. صحيح أنه ليس عاقاً لوالديه، لكنه ليس باراً بهما؛ إذ أنّ البارَّ بوالديه هو الذي يّتكلَّف البرّ والإحسان لهما ويبذل عناية لذلك، فيَتتبَّع حوائجهما، ويتذلَّل أمامهما، ويعودهما إن مرضا، وينظر فيما يحتاجانه قبل الطلب.

 

رابعاً: الإحسان لهما وإن كانا غير صالحين

إنَّ واجب البرّ لا يختصّ بالوالدين الصَّالحين، بل حتى لو كانا غير صالحين -كما ورد في الروايات الكثيرة جداً-، فإنه يجب على المؤمن أن يُحسن إلى والديه ولو كانا عاصيين. والآيات أيضاً أشارت لذلك، قال تعالى: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾(14)، ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾(15) -أي، لا تطعهمما في هذا المقدار-، ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾(16). روي أيضاً، أنه دخل رجل على الامام الصادق (ع)، فقال له: "إن أبي وأمي من المخالفين. قال (ع): برّهما كما تبرّ المسلمين ممن يتولّانا، لا يختلف الحال"(17).

 

خامساً: إذا كبُرا فلا تقل لهما حتى كلمة (أف):

ينبغي على المؤمن -خصوصاً إذا كبر أبواه- أن يعتني بهما عناية كبيره، ولابد لهذه الثقافة أن تسود بين الناس. كثير من الإخوة الأعزاء حينما يكبُر، ويُصبح مثقفاً، ويصير له جاه اجتماعيّ، تكون علاقته بأبيه وأمه ضعيفة! يراهما جاهلين، وقد يسخر منهما!! إذا أشارا عليه بمشورة، بل قد يتصدى للرد على ما ينصحانه به فيصف نصيحتهما بالسخف والسفاهة!!

 

أبوك نصحك، وأنت عاقل فإذا لم تتعقَّل نصيحته، فلماذا تقول له أمامه كلامك غير صحيح؟ وأنت لا تفهم، وأنت كذا؟! هذا يحدث في أوساطنا -نحن المؤمنين- نقول لأمنِّا: أنتي لا تفهمين، ونقول لأبينا: أنت لا تفهم، وأنت ما أدراك بالدنيا!! هذه الكلمات قد تُدخل عليه الحزن، وقد تُوبقك -هذه الكلمة قد توبقك يوم القيامة-.

 

أنت إذا أشار عليك إنسان غريب عنك-وليس أبوك- بنصيحة، ولم تقبلها، استمع له، ولا يلزمك أن تفعل.. أمّا أن تقابله -في وجهه- بتفنيد رأيه بطريقة ساخرة، فهذا من العقوق، وليس منافياً للبر فحسب، بل هو من العقوق.

 

سادساً: برّهما بعد الممات:

لا ينتهي البر بالوالدين بانتهاء حياتهما، بل يبقى الإنسان مسئولاً عن البرّ بوالديه حتى بعد موتهما -كما أكدت ذلك الروايات-، فقد ورد: إنَّ "سيد الأبرار يوم القيامة، رجل برّ والديه بعد موتهما"(18)، وورد عنه عليه السلام: "ووالديك فأطعهما وبرّهما -حيَّين كانا، أو ميِّتين-"(19)، وورد عن الامام الصادق (ع): "ما يمنع الرجل منكم أن يبرّ والديه -حيين وميتين-، يصلي عنهما، ويتصدّق عنهما، ويحج عنهما، ويصوم عنهما، فيكون الذي صنع لهما، وله مثل ذلك، فيزيده الله -عزوجل- ببرّه وصلته خيراً كثيراً"(20). الروايات أكدت على ذلك تاكيداً بالغاً، وأنَّ الإنسان ينبغي عليه أن لا ينسى أبويه حيَّين وميِّتين.

 

خصائص الأم:

أولاً: حقها أكبر من حق الأب:

ونشير في نهاية الحديث إلى الروايات التي خصَّت الأم بخصوصيات لم يخص بها الأب. في الرواية أنَّ موسى بن عمران (ع)، قال لربه: "أوصني. قال: أوصيك بي. فقال: ربي أوصني. قال: أوصيك بي -ثلاثاً-، قال: يارب أوصني. قال: أوصيك بأمك، -ثم قال ذلك (ثلاثا)- أوصيك بأمك، أوصيك بأمك، ثم قال: أوصيك بأبيك"(21).

 

ثانياً: الجنة تحت أقدامها

في الرواية أن عمر بن الخطاب كان مع النبي (ص)، وكانوا على جبل، وهذا الجبل مُشرف على وادي، فرأوا شاباً حسن المظهر، قويّ البُنية، فقال عمر: ما أحسن هذا الشاب، لو كان عمله في سبيل الله "أي لو كان هذا الرجل يأتي للجهاد يقاتل، لأنه يظهر عليه أنه قوي البُنية" فقال النبي: لعله في سبيل الله "أي، لماذا حصرت سبيل الله في الجهاد؟! لعله في سبيل الله وأنت لا تعلم؟" ثم دعاه النبي (ص) فقال: يا شاب هل لك من تعول؟ قال: نعم، قال: من؟ قال: أمي، فقال النبي (ص): إلزمها، فإنَّ عند رجليها الجنة)(22). نعم، الجنة عند رجلي الأم، كما أنّ الجنة تحت أظلة السيوف، فالجهاد والبرّ بالأم في مرتبة واحدة.

 

يستصغر الإنسان بعض الطاعات، ولا يدري أنها هي السبيل إلى الرِّضوان، وإلى الجنة. فلذلك ورد -في روايات كثيرة- أنَّ النبي (ص) أمر بعض الناس أن يجلس ولا يذهب للجهاد؛ وذلك لأن أمه تحتاجه.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة الإسراء / 23-24.

2- سورة الذاريات / 56.

3- (نص الرواية): رسول الله (ص): من سره أن يمد له في عمره ويزاد في رزقه فليبر والديه، وليصل رحمه. ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج4 ص3674.

4- (نص الرواية): عنه (ص): من بر والديه طوبى له زاد الله في عمره. ميزان الحكمة -محمد الريشهري- ج4 ص3674.

5- (نص الرواية): رسول الله (ص) -لما سئل عن حق الوالدين على ولدهما-: هما جنتك ونارك. ميزان الحكمة -محمد الريشهري- ج4 ص3674.

6- سورة البقرة / 83.

7- (نص الرواية): محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى وعلي بن إبراهيم، عن أبيه جميعا، عن الحسن بن محبوب عن أبي ولاد الحناط قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله عز وجل: (وبالوالدين إحسانا) ما هذا الاحسان؟ فقال: الاحسان أن تحسن صحبتهما، وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئا مما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيين....، وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج21 ص487-488.

8- سورة الإسراء / 24.

9- الصحيفة السجادية الكاملة -الإمام زين العابدين (ع)- ص128-129.

10- (نص الرواية): عنه، عن يحيى بن إبراهيم بن أبي البلاد السلمي، عن أبيه، عن جده، عن أبي عبد الله (ع) قال: لو علم الله شيئا أدنى من أف لنهى عنه وهو من أدنى العقوق ومن العقوق أن ينظر الرجل إلى والديه فيحد النظر إليهما.الكافي -الشيخ الكليني- ج2 ص349.

11- الصحيفة السجادية الكاملة -الإمام زين العابدين (ع)- ص128-129.

12- الصحيفة السجادية الكاملة -الإمام زين العابدين (ع)- ص129.

13- الصحيفة السجادية الكاملة -الإمام زين العابدين (ع)- ص129.

14- سورة لقمان / 15.

15- سورة لقمان / 15.

16- سورة لقمان / 15.

17- (نص الرواية): وعنه، عن أحمد، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن أبي الصباح، عن جابر قال: سمعت رجلا يقول لأبي عبد الله (ع): إن لي أبوين مخالفين، فقال: برهما كما تبر المسلمين ممن يتولانا. وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج21 ص490.

18- (نص الرواية): ومنه: عن أحمد بن علي، عن محمد بن الحسن، عن محمد بن الحسن الصفار عن إبراهيم بن هاشم، عن النوفلي، عن السكوني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله (ص): سيد الأبرار يوم القيامة رجل بر والديه بعد موتهما. بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج71 ص86.

19- (نص الرواية): وعنه (ع)، أن رجلا أتى النبي (ص) فقال: (يا رسول الله أوصني، فقال:) (1) "لا تشرك بالله شيئا وان حرقت بالنار وعذبت، إلا وقلبك مطمئن بالايمان، ووالديك فأطعهما وبرهما حيين كانا أو ميتين، وان أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فافعل، فان ذلك من الايمان". مستدرك الوسائل -الميرزا النوري- ج15 ص199.

20- (نص الرواية): محمد بن يعقوب، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن الحكم بن مسكين، عن محمد بن مروان قال: قال أبو عبد الله (ع): ما يمنع الرجل منكم أن يبر والديه حيين وميتين يصلي عنهما، ويتصدق عنهما، ويحج عنهما، ويصوم عنهما فيكون الذي صنع لهما وله مثل ذلك، فيزيده الله عز وجل ببره وصلته خيرا كثيرا. وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 8 ص 276-277.

21- (نص الرواية): الفتال في روضة الواعظين: عن الباقر (ع)، أنه قال: "قال موسى بن عمران (ع): يا رب، أوصني، قال: أوصيك بي، قال فقال: رب أوصني، قال: أوصيك بي، ثلاثا، قال: يا رب أوصني، قال: أوصيك بأمك، قال: رب أوصني، قال: أوصيك بأمك، قال: رب أوصني، قال: أوصيك بأبيك، قال: (فكان يقال) لأجل ذلك أن للأم ثلثي البر وللأب الثلث". مستدرك الوسائل -الميرزا النوري- ج15 ص181.

22- (نص الرواية): -عمر بن الخطاب-: كنا مع رسول الله (ص) على جبل فأشرفنا على واد، فرأيت شابا يرعى غنما له أعجبني شبابه، فقلت: يا رسول الله! وأي شاب لو كان شبابه في سبيل الله؟ فقال النبي (ص): يا عمر! فلعله في بعض سبيل الله وأنت لاتعلم، ثم دعاه النبي (ص) فقال: يا شاب ! هل لك من تعول؟ قال: نعم، قال: من؟ قال: أمي، فقال النبي (ص): ألزمها فإن عند رجليها الجنة. ميزان الحكمة -محمد الريشهري- ج4 ص3676.