مناشئ اختلاف الفقهاء في الفتوى

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على محمد وآل محمد

المسألة:

لماذا هذا الاختلاف الكبير بين الفقهاء في الفتاوى؟

الجواب:

نسبة الاختلاف في الفتاوى بين الفقهاء الإمامية لا تتجاوز العشرة بالمائة من مجموع المسائل الفقهية.

وينشأ الاختلاف بينهم في الفتوى عن أحد مناشئ ستة أساسية:

المنشأ الأول: الاختلاف في بعض المباني الرجاليَّة والتي يترتَّب عليها الاختلاف في تصحيح أسناد الروايات وتضعيفها.

فلأنَّ أكثر الأحكام الشرعية الفرعية تستندُ إلى الروايات الواردة عن الرسول الكريم وأهل بيته (ع)، ولأنَّ الكثير من هذه الروايات لم تصل إلينا بطرقٍ متواترة لذلك لا بدَّ من التوثُّق من أسناد كلِّ واحدٍ منها على حدة، فما كان منها معتبرًا صحَّ اعتماده وما لم يكن كذلك لم يصح اعتماده.

ولأنَّ الضوابط التي يتحدَّد بها اعتبار السند وعدم اعتباره ليست جميعها موردًا للتوافق بين الفقهاء لذلك فهم يختلفون في الحكم على الروايات من حيث واجديتها للاعتبار وعدم واجديتها له.

ونذكر لذلك مثالين:

المثال الأول: بعض الفقهاء يتبنى هذه القاعدة الرجالية، وهي أنَّ من يروي عنه المشايخ الثلاثة وهم محمد بن أبي عمير وصفوان بن يحيى البجلي وأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، هؤلاء الثلاثة إذا روى أحدُهم عن رجل فتلك أمارة على وثاقة ذلك الرجل، لأنَّهم التزموا بأنْ لا يروا إلا عن ثقة.

وعليه فالفقيه الذي يتبنَّى هذه القاعدة إذا وقف على روايةٍ فوجد سندها مشتملاً على رجلٍ ليس له توثيق صريح في كتب الرجال ولكنَّه ممَّن روى عنه أحدُ المشايخ الثلاثة فإنَّه يعتمد على هذه الرواية إذا كان بقية رجال السند ثقاة، وحينئذ يُفتي بمضمونها نظرًا لكونها واجدة لشرائط الاعتبار عنده. وأمَّا الفقيه الذي لا يعتمد هذه القاعدة فإنَّه يرى أنَّ هذه الرواية غير واجدة لشرائط الاعتبار، فلذلك لا يُفتي بمضمونها.

ومن هنا ينشأ الاختلاف في الفتوى.

المثال الثاني: بعض الفقهاء يرى أنَّ مشايخ الإجازة كلُّهم ثقاة، فلا حاجة إلى التنصيص على وثاقة كلِّ واحدٍ بخصوصه، فلو اتَّفق أنْ اشتملت روايةٌ على سندٍ رجالهُ جميعًا منصوص على وثاقتهم ما عدا واحدٍ منهم لم يتم التنصيص على وثاقته لكنَّه كان من مشايخ الإجازة، فإنَّ سند هذه الرواية سوف يكون معتبرًا عند من يتبنَّى هذه القاعدة الرجالية، ولذلك سوف يُفتي بمضمون هذه الرواية، أما مَن يتبنى عدم صحة هذه القاعدة فإنَّه لن يعتمد هذه الرواية ولن يُفتي بمضمونها، ولذلك يظهر الاختلاف بينهم في الفتوى.

المنشأ الثاني: الاختلاف في بعض المباني الأصولية والتي يتحدَّد بها ما هو الدليل الذي يصح الاعتماد عليه وما هو الدليل الذي لا يصحُّ الاعتماد عليه في مقام استنباط الأحكام الشرعية ونذكر لذلك مثالين:

المثال الأول: إذا تعارض خبران بأنْ كان مفاد أحدهما وجوب شيء ومفاد الآخر عدم وجوبه، وكان كلٌّ من الخبرين صحيح السند إلا أنَّ أحدهما أفتى بمضمونه مشهورُ الفقهاء والآخر أفتى بمضمونه بعض الفقهاء دون المشهور، فما هو العمل في مثل هذا الفرض؟ هل نعمل بمضمون الخبر الذي عليه المشهور أو نعمل بمضمون الخبر الثاني، إذ أنَّ كليهما صحيح السند، ولا يمكن العمل بهما معًا لافتراض تعارضهما.

هنا اختلف الفقهاء فبعضهم تبنَّى هذه القاعدة الأصولية وهي أنَّه إذا تعارض خبران فالأرجح منهما هو الذي عمل بمضمونه المشهور والآخر يكون ساقطًا عن الإعتبار والحجِّية نظرًا لمخالفته للمشهور.

والبعض الآخر من الفقهاء يتبنَّى عدم صحة هذه القاعدة، فلذلك يحكم بعدم صحة الاعتماد على كلا الخبرين نظرًا لتعارضهما فيكون المرجع حينئذ هو الأصل العملي بمعنى أن نعتبر الخبرين بحكم المعدومين، وهذا ما يُصحَّح الرجوع إلى قاعدة البراءة عن الوجوب، إذ أن كلَّ موردٍ لا يوجد فيه دليل على الوجوب يكون الأصل هو عدم الوجوب.

فالذي تبنَّى القاعدة الأصولية القائلة بأن الشهرة مرجَّحة عمل بمضمون الخبر الذي أفتى بمضمونه المشهور، ولأنَّ الخبر الذي أفتى بمضمونه المشهور مفاده الوجوب لذلك أفتى بالوجوب، أما الفقيه الذي لا يتبنَّى هذه القاعدة فإنه اعتبر الخبرين في حكم المعدومين ورجع إلى الأصل والذي يقتضي عدم الوجوب لذلك أفتى بعدم الوجوب، ومن هنا وقع الاختلاف في الفتوى.

المثال الثاني: لو فُرض أنَّه وقع الشك في نجاسة عرق الجنب من الحرام، وفُرض أنَّ الفقيه بحث عن روايةٍ صريحة أو ظاهرة في نجاسته فلم يجد إلا أنَّه وجد أنّ مشهور الفقهاء يُفتي بنجاسة عرق الجنب من الحرام، ففي مثل هذا الفرض لو كان هذا الفقيه يتبنَّى في الأصول حجيَّة الشهرة الفتوائية وإنَّها صالحة للدليليَّة على الحكم الشرعي، بمعنى أنه يتبنَّى صلاحيتها لأن يُستند إليها في مقام التعرُّف على الحكم الشرعي فحينئذٍ يمكنه الإفتاء بنجاسة عرق الجنب من الحرام.

أمَّا لو لم يكن يتبنى هذه القاعدة الأصولية ويرى أنَّ الشهرة الفتوائية غير صالحة للاستناد إليها في مقام الاستنباط للحكم الشرعي فحينئذٍ سوف يرجع إلى أصالة الطهارة المستفادة من قوله (ع): "كلُّ شيءٍ لك طاهر حتى تعلم أنَّه قذر .." وبذلك سوف يُفتي بطهارة عرق الجنب من الحرام. خلافًا لفتوى غيره الذي يتبنَّى حجيَّة الشهرة الفتوائية.

المنشأ الثالث: الاختلاف في بعض المباني والقواعد الاستظهارية التي هي بمثابة الأدوات العامة لفهم الخطابات الشرعية، وهذه وإن كانت-غالبًا-من المسائل الأصولية إلا أننا فصلناها عن المنشأ الثاني لغرض الإيضاح.

ففي علم الأصول يتم البحث عن الأوامر والنواهي والإطلاقات والعمومات والجمل ذات المفهوم كالجمل الشرطية والجمل الوصفية، ويتم البحث أيضًا عن المستقلاَّت العقلية وغير المستقلاَّت العقلية مثل مقدمات الواجب ومسألة الضد، وكل هذه المسائل يتمُّ بحثها لغرض الانتهاء منها إلى نتائج كليَّة تُعتمد بعد ذلك في عملية الاستنباط للحكم الشرعي من مصادره.

وغالب ما يتمُّ تحصيله من هذه المباحث هو الوقوف على القواعد العقلائية والمعتمدة عند الشارع في فهم مفادات الخطابات الشرعية.

ولأن الأنظار قد تختلف في بعض نتائج هذه المباحث فلذلك يقع الاختلاف في فهم مفادات بعض الخطابات الشرعية وهو ما يُنتج الاختلاف في الفتوى.

ونذكر لذلك مثالين:

المثال الأول: وقع الاختلاف بين الأصولين في أنَّ الإطلاق هل يشتمل الأفراد المعدومة في زمن النص أو لا يشملها، فقد ذهب بعض الأصولين إلى أن كلَّ حكم شرعي انعقد لموضوعه ظهور في الإطلاق فحينئذ يكون الحكم ثابتًا لكل فردٍ يصدق عليه موضوع الحكم بقطع النظر عن وجود ذلك الفرد في زمن النص أو عدم وجوده، وذهب البعض الآخر من الأصولين إلى أنَّ إطلاق الحكم يختصُّ بأفراد موضوعه الموجودة في زمن النص.

فمثلاً حينما يرد خطاب مفاده نجاسة المسكر فمقتضى إطلاق هذا الخطاب هو نجاسة كلَّ فرد يصدق عليه عنوان المسكر، فلأَنَّ الخمر مسكر إذن فهو نجس، ولأنَّ الفقَّاع مسكر فهو نجس، وهكذا نحكم بنجاسة كل نوعٍ من أنواع المسكرات الموجودة في زمن النص.

فلو لم يظهر نوع جديد من المسكرات فإنَّ الاختلاف في المبنى الأصولي لن يظهر في فتاوى الفقهاء، ولكن لو اتَّفق ظهور نوع جديد للمسكر لم يكن موجودًا في زمن النص فحينئذٍ سوف يظهر الاختلاف في الفتوى نظرًا للاختلاف في المبنى الأصولي.

فمادة الكحول البيضاء مسكرة بلا ريب، وهذا النوع من المسكرات لم يكن موجودًا في زمن النص -افتراضًا- فهل هو نجس أو لا؟

والجواب يختلف باختلاف المبنى الأصولي الذي بيَّناه. فمن يذهب إلى أنَّ الإطلاق لا يختص بأفراد موضوع الحكم الموجودة في زمن النص سوف يُفتي بنجاسة الكحول، ومن يذهب إلى أنَّ الإطلاق يختص بالأفراد الموجودة في عصر النص سوف لن يُفتي بالنجاسة بل إنّه سوف يتمسَّك بأصالة الطهارة استنادًا إلى عموم كلَ شيء لك طاهر حتى تعلم أنَّه قذر.

المثال الثاني: وقع الاختلاف بين الأصوليين في الجمل الوصفية من جهة أنَّ لها مفهومًا أوليس لها مفهوم، بمعنى أنَّ الحكم اذا جُعل على موضوع مقيَّد فهل يدلُّ ذلك على انتفاء طبيعي الحكم عند انتفاء القيد عن الموضوع أو لا دلالة للجملة الوصفيَّة على ذلك، فيمكن لنفس الحكم أن يثبت للموضوع حتى مع انتفاء قيده ولكن بخطاب أو دليل آخر.

مثلاً: لو ورد خطاب شرعي بهذه الصياغة "يجب على الأب الإنفاق على ولده الفقير" فموضوع الوجوب في المثال هو الولد المتَّصف بالفقر أي المقيَّد بوصف الفقر، فهنا لو كان للجملة الوصفية مفهوم فإن ذلك يقتضي سقوط طبيعي الوجوب للنفقة عن الولد إذا انتفى عنه الفقر.

وبتعبير آخر: إذا قلنا إنَّ الجملة الوصفية ظاهرة في المفهوم فإنَّ معنى ذلك استظهار أنَّ الوصف أو القيد علة انحصارية لثبوت الحكم للموضوع، فإذا انتفى القيد فمقتضى ذلك هو انتفاء علة ثبوت الحكم للموضوع، وباعتبار استظهار أنَّ الوصف علة انحصارية لثبوت الحكم للموضوع، فنتيجةُ ذلك أن هذا الحكم لا يثبت للموضوع مطلقاً عند انتفاء القيد. فإذا انتفى الفقر عن الولد في المثال فإنَّ وجوب الإنفاق عليه لا يثبت بأيَّ ملاك من الملاكات، وعليه لو جاء خطاب شرعي آخر مفاده وجوب النفقة على الولد وإن لم يكن فقيراً كان هذا الخطاب منافيًا للخطاب الأول.

هذا بناءً على ظهور الجملة الوصفية في المفهوم، أما بناءً على عدم ظهورها في المفهوم فحينئذٍ لا يكون الخطاب الثاني منافياً للخطاب الأول، إذ لا مانع من ثبوت الحكم للموضوع المقيَّد وثبوت نفس ذلك الحكم للموضوع مع انتفاء القيد أو اتَّصافه بقيد آخر.

إذا تبين ذلك فنقول: لو اتفق ورود خطابين أحدهما من قبيل الخطاب الأول، والآخر من قبيل الخطاب الثاني فإنَّ الفتوى سوف تختلف تبعاً للاختلاف في هذا المبنى الأصولي، فالذي يرى عدم ظهور الجملة الوصفية في المفهوم سوف يُفتي بمضمون الخطابين فيحكم بوجوب النفقة على الولد الفقير ووجوب النفقة على الولد وإن لم يكن فقيراً

أما الفقيه الذي يتبنَّى ظهور الجملة الوصفية في المفهوم فإنه حينئذٍ سوف يرى أن الخطابين متعارضان في الولد البار غير الفقير مثلاً، فمقتضى الخطاب الأول عدم وجوب النفقة عليه، ومقتضى الخطاب الثاني هو وجوب النفقة عليه، وبذلك يسقط الخطابان عن الحجية في مورد التعارض، فلا دليل عندنا حينئذٍ على وجوب النفقة على مطلق الولد فتجري أصالة البراءة عن الوجوب، فتكون النتيجة هي الفتوى بوجوب النفقة على الولد الفقير وعدم وجوبها على الولد غير الفقير خلافاً لفتوى من يتبنَّى عدم ظهور الجملة الوصفية في المفهوم حيث إن مقتضاه وجوب النفقة على الولد وإن لم يكن فقيراً.

المنشأ الرابع: الاختلاف في سعة وضيق دائرة موضوعات الأحكام نتيجة عدم تبلور ما هو الفهم العرفي لها. فلأنَّ الخطابات الشرعية وهي الآيات والروايات لا تتصدى غالبًا لتحديد دائرة موضوعات الأحكام الشرعية وإنما تُجعل الأحكام على موضوعاتها وتعتمد في تحديد دائرة الموضوعات على ما هو المتفاهم العرفي لذلك قد يقع الاختلاف فيما هو المتفاهم العرفي لموضوعٍ من موضوعات الأحكام الشرعية ومنه ينشأ الاختلاف في الفتوى.

ونذكر لذلك مثالين:

المثال الأول: حرمة الغناء الذي هو مفاد الخطاب الشرعي.

فلو افترضنا أنَّه لم يتصدَّ لتحديد معنى الغناء الذي جُعل عليه الحرمة، فالمرجع حينئذٍ لتحديد معنى الغناء هو العرف، فلو اتفق أنْ اختُلف فيما هو المفهوم العرفي لمعنى الغناء، فبعضهم يوسِّع من دائرته وبعضهم يُضيِّق، فمنهم مثلاً من يذهب إلى أن الغناء يتحقق بمجرد مدَّ الصوت وترجيعه وترخيمه سواءً كان مناسبًا لمجالس اللهو أو لم يكن مناسبًا لها، وسواءً كان مطربًا أو لم يكن مطربًا، ومنهم مَن يذهب إلى أنَّ مفهوم الغناء لا يتحقق إلا أن يكون الترجيع للصوت مطربًا أو مناسبًا لمجالس اللهو.

فهنا وقع الاختلاف في سعة دائرة مفهوم الغناء وضيقه فبناءً على الأول يدخل في مفهوم الغناء الحِداء مثلاً وكذلك العزاء وبناءً على الثاني يكون الحِداء وبعض صور العزاء خارجًا.

وعليه فمن يتبنَّى من الفقهاء أنَّ المفهوم العرفي للغناء هو المعنى الواسع فسوف يُفتي بحرمة الحِداء ومطلق العزاء، ومن يتبنى أن المفهوم العرفي للغناء هو المعنى الضيق فسوف يُفتي بجواز الحِداء وبعض صور العزاء، ويكون الغناء المحرَّم بنظره هو خصوص الغناء المطرب أو الغناء المناسب لمجالس اللهو.

فالاختلاف هنا لم يكن في أصل حرمة الغناء وإنما في حدود دائرة الموضوع المحرَّم. فهو لا يتصل بمفاد الخطاب الشرعي وإنما يرتبط بموضوع الحكم المستفاد من الخطاب الشرعي والذي قلنا أن الخطاب الشرعي لم يتصدَّ لتنقيحه بحسب الفرض.

المثال الثاني: قوله تعالى: ﴿فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا﴾(1) فالآية المباركة أفادت أنَّ التيمم يكون بالصعيد إلا أنها لم تتصدَّ لبيان معنى الصعيد، فلو كانت الروايات قد تصدَّت لذلك فحينئذٍ يلزم التعويل عليها لتحديد مفهوم الصعيد إلا أنه لو فُرض أنها لم تتصدَ لذلك فالمرجع حينئذٍ هو العرف، فلو فرض الاختلاف فيما هو المفهوم العرفي لمعنى الصعيد فإن ذلك سوف يُنتج الاختلاف في الفتوى.

فمن يرى من الفقهاء أن العرف يفهم من معنى الصعيد مطلق وجه الأرض الشامل للتراب والحجر والمدر فسوف يُفتي بصحة التيمم بكلَّ ذلك، ومن يرى أن المفهوم العرفي للفظ الصعيد هو خصوص التراب فسوف يُفتي بعدم صحة التيمُّم بالحجر والمدر وانًّ التيمم لا يصحُّ إلا بالتراب.

المنشأ الخامس: الخطأ في تطبيق بعض القواعد والمباني الأصولية أو الرجالية أو اللغوية المعتمدة حين الممارسة لعملية الاستنباط أو الغفلة حينها عن بعض القرائن المتصلة أو المنفصلة والتي هي دخيلة في تحديد مفاد الخطاب الشرعي، ولذلك يظهر الاختلاف في الفتوى، وهذا المنشأ وإن كان نادر الوقوع نظرًا لحرص الفقهاء وبذل أقصى الوسع في استقصاء الأدلة وما له دخل في فهمها، ونظرًا للملكة الراسخة الواجدين لها والمقتضية لاستحضار المباني والقواعد المعتمدة عندهم، ولأنهم لا يمارسون عملية الاستنباط إلا بعد قضاء ردح طويل من الزمن في التدريس والمباحثة والمطالعة والكتابة إلا أنَّه ورغم ذلك قد يقع الخطأ أو الغفلة من بعضهم في بعض الموارد، فيترتب على ذلك ظهور اختلافٍ ما كان ليقع في هذا المورد أو ذاك لولا ما كان من خطأ بعضهم أو غفلته.

ومثال ذلك أن يعتمد أحدهم على رواية فيُفتي بمضمونها بتوهُّم أنَّها صحيحة السند على أساس أنَّ راويها هو زيد بن خالد الذي وثَّقه الرجاليون والحال أنَّ الواقع هو أنَّه ليس زيد بن خالد الذي وثَّقه الرجاليون وإنما هو غيره، غايته أنَّه يشترك معه في الاسم مثلاً إلا أن الذي وثَّقه الرجاليون كان من طبقةٍ والذي وقع في سند الرواية كان من طبقةٍ أخرى.

وقد يُفتي أحد الفقهاء بوجوب غسل الجمعة، وذلك لأنه وقف على رواية صحيحة السند نَّصت على الأمر بغسل الجمعة، ولأن الأمر ظاهر في الوجوب لذلك كانت الرواية مقتضية للإفتاء بوجوب غسل الجمعة إلا أنه غفل عن وجود رواية صحيحة السند أيضًا وردت في باب آخر ومفادها الترخيص صريحًا في ترك غسل الجمعة، فلو كان قد اطلع عليها أو لم يغفل عنها بعد الاطلاع عليها لما وقع منه الإفتاء بوجوب غسل الجمعة. وهذا هو معنى الغفلة عن بعض القرائن المنفصلة.

وقد يُفتي أحد الفقهاء مثلاً بفساد الصلاة إذا صلَّى المكلف في ثوبٍ عليها شعرات من شعر الإنسان، وذلك لأن الروايات قد نهت عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه، أي نهت عن الصلاة في ثوبٍ اشتملت على أجزاء حيوانٍ غير مأكول اللحم، ولأن الإنسان حيوان غير مأكول اللحم فالصلاة في ثوبٍ اشتملت على شعر الإنسان تكون فاسدة بمقتضى اطلاق الرواية التي نصَّت على النهي عن الصلاة فيما لا يُؤكل لحمه.

إلا أن هذا الفقيه-افتراضًا-قد غفل عن المبنى الأصولي الذي كان يعتمده، وهو أن الانصراف المستقر مانع عن انعقاد الظهور في الإطلاق، فلأن المنصرَف عرفًا من عنوان الحيوان المحرَّم اللحم هو غير الإنسان لذلك كان على الفقيه أن لا يُفتي بفساد الصلاة الواقعة في شعر الإنسان لأن عنوان الحيوان المحرَّم لا يصدق عرفًا على الإنسان، فهو وإن كان حيوانًا لغة وواقعًا إلا أن الانصراف المستقر يمنع من استظهار إرادته من الإطلاق.

المنشأ السادس: الاختلاف في فهم الخطابات الشرعية من آيات أو روايات نتيجة اكتنافها بمستوىً من الغموض والذي ينشأ تارة عن نفس الخطاب أو سياقه أو ينشأ عن قرائن خارجية يقتضي الالتفات إليها التشكيك في ارادة ما يقتضيه الظهور الأولي للخطاب.

فهذا الاختلاف الذي قد يقع بين الفقهاء في فهم بعض الخطابات الشرعية لا ينشأ عن أنَّ لكلِّ واحدٍ منهم أدواته الخاصة في فهم الخطابات، إذ أن الأدوات المعتمدة لدى جميع الفقهاء هي الأدوات التي يعتمدها العقلاء وأهل المحاورة من كل لغة في مقام التفهيم والتقهُّم، نعم قد يختلفون في بعض هذه الأدوات من جهة مستوى دلالتها إلا أنه مضافاً إلى محدودية موارده فهو لا يُنتج غالباً التباين في الفهم، فحينما يطلب منك أحدٌ ماءً فإنك لا تفهم من خطابه أنه يريد نفطاً، نعم قد لا تفهم من طلبه اللزوم ولكنك تفهم أن الإتيان بالماء مطلوب عنده.

وعلى أيِّ حال فالاختلاف في فهم الخطاب الشرعي إذا لم يكن ناشئاً عن الاختلاف في المباني الأصولية فإنه يكون ناشئاً عن مستوىً من الغموض في دلالة الخطاب الشرعي، فلأنَّ الخطابات الشرعية كأيِّ خطابات أخرى ليست على مستوى واحدٍ من الوضوح لذلك قد يقع الاختلاف فيما يُستظهر من مدلولاتها، على أن ذلك لا يُعطي الفقيه صلاحية اختيار أيِّ مدلولٍ شاء بل يلزمه في مثل هذا الفرض استفراع الوسع لغرض الوصول إلى ما هو المراد الجدي للخطاب الشرعي معتمداً في ذلك على الوسائل المعتمدة والمتعارفة عند العقلاء وأهل المحاورة، ذلك لأن الخطابات الشرعية صِيغت على نهج ما هو متعارف عند العقلاء وأهل المحاورة واللسان حينما يكونون، في مقام التفهيم لمراداتهم.

وحينئذٍ ورغم استفراغ الوسع لغرض الوصول إلى ما هو المراد الجدِّي والواقعي للخطاب الشرعي قد يخطأ الفقيه فلا يكون ما استظهره مطابقاً لما هو المراد الجدِّي الشرعي، وقد يُصيبُ آخر الواقعَ فيكون ما استظهره من الخطاب هو مراد الشارع واقعاً.

ومن هنا يقع الاختلاف في الفتوى، إذ أن كلاً من الفقيهين سوف يُفتي على طبق ما استظهره من الخطاب الشرعي، ولما كان الاستظهاران مختلفين فإنَّ ذلك سيُنتج الاختلاف في الفتوى.

ويمكن التمثيل لهذا المنشأ بالآية الشريفة وهي قوله تعالى: ﴿الزَّانِي لاّ يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾(2)، فالآية الشريفة لا تخلو من غموض في مدلولها، وذلك لعدم وضوح أن الآية في مقام التشريع، إذ لعلها في مقام الحكاية والإخبار عن أن الزاني لا يزني إلا بمن تطاوعه وهي الزانية أو مَن هي أسوأ حالاً منها وهي المشركة، والزانية لا تزني إلا بمَن يطاوعها وهو الزاني أو مَن هو أسوأ حالاً منه وهو المشرك، وبناءً على ذلك يكون معنى النكاح في الآية هو الوطأ وليس العقد، وإذا كان هذا هو المراد الجدي للآية الشريفة فحينئذٍ لا يصحُّ الاستدلال بها على حرمة نكاح المسلم للزانية وحرمة نكاح المسلمة للزاني كما لا يصح الاستدلال بها على جواز نكاح المسلم الزاني للمشركة وجواز نكاح المسلمة الزانية للمُشرك، إذ أنه لمَّا افُترض عدم كونها في مقام التشريع وإنما كانت في مقام الحكاية والإخبار، فهي لا تدلُّ على أكثر من توصيف واقعٍ خارجي الغرض منه الإرشاد لقضية اجتماعية.

وهذا الاحتمال لمَّا لم يكن متعينًا، إذ لعلَّ الآية كانت في مقام التشريع، وإذا كانت كذلك فهي مقتضية لحرمة نكاح المسلم للزانية وحرمة نكاح المسلمة للزاني ومقتضية أيضًا لجواز نكاح الزانية من الزاني وجواز نكاح الزاني المسلم من المشركة ونكاح الزاني من المشرك، وذلك لأنَّ قوله ﴿الزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ﴾(3) سيق على نهج الجملة الاستثنائية فهي دالة على نفيٍ وإثبات، أما النّفي فهو نفيُ نكاح غير الزاني والمشرك للزانية والنفي هنا بمعنى النهي لافتراض أن الآية في مقام التشريع، فيكون معنى النفي هو عدم جواز نكاح المسلم غير الزاني من الزانية، وأما الإثبات فهو نكاح الزاني والمشرك من الزانية، ولمَّا كانت الآية في مقام التشريع -كما هو الفرض- فالإثبات يقتضي الجوار، كما أن هذا الاحتمال يقتضي أن يكون المراد من النكاح في الآية الشريفة هو عقد النكاح وليس الوطأ.

فهنا نحن أمام احتمالين، ولا يبعد أنَّ الاحتمال الثاني هو المناسب لمقتضى الظهور الأوّلي إلا أنَّ ما يمنع الوثوق من إراداته هو ابتلاؤه بمبعِّدٍ من خارج النصّ وهو قيام الضَّرورة الفقهيّة على حرمة نكاح المسلمة الزانية من المشرك، وهذا هو ما عبَّرنا عنه بالقرينة الخارجيّة التي يقتضي الالتفات إليها التشكيك في الإرادة الجديَّة لما يقتضيه الظهور الأوَّلي للخطاب، ولولا خشية الخروج عن غرض البحث لعالجنا المسألة بشيءٍ من التفصيل إلا أنَّ ما يلزم التأكيد عليه هو أنَّه لو تمَّ استظهار أحد الاحتمالين فإنَّ ذلك لن يكون جزافًا بل سيبتني على بذل الوسع لغرض الوصول إلى ما يقتضيه الظهور التصديقي للخطاب على أنَّ ذلك سيكون في إطار الضوابط العقلائيّة المعتَمَدة عند أهل المحاورة واللسان، حينما يكونون في مقام التفهُّم والتفهيم لمراداتهم.

وعلى أيِّ حال فإنَّ الفتوى سوف تختلف باختلاف ما يتمُّ استظهاره من الآية لو فرض أنَّها الدليل الوحيد على حكم هذه المسألة.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمّد صنقور

6 / صفر / 1429هـ


1- سورة النساء / 43.

2- سورة النور / 3.

3- سورة النور / 3.