كيف أكون مُحبًّا لله؟

معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد، وعلى آله الأخيار الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس، وطهرهم تطهيراً.

 

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.

 

قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:

بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيْمِ:

﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾(1)

صدق الله مولانا العلي العظيم.

 

نعيش هذه الأيام المباركات، ذكرى ولادة خير الخلق، وسيّد البشر على نحو الإطلاق، الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم). وبهذه المناسبة الكريمة، نتحدث حول هذه الآية المباركة في محاور ثلاثة -إن وسع الوقت-:

 

المحور الأول: معنى حبِّ الله:

الآية بدأت بخطابٍ للرسول الكريم (ص)، قل يا رسول الله، قل لأمتك إن كنتم تحبون الله، فاتبعوني يُحببكم الله. الواضح من الكثير من النصوص الدينية الواردة في القرآن الكريم، وكذلك الواردة على لسان النبي الكريم (ص)، وكذلك الواردة عن أهل البيت (ع)، أنَّ أعلى مراتب العبوديَّة لله تعالى هي الحبُّ لله تعالى، ثمَّة مراتب للعبودية، إلاَّ أنَّ أعلى مرتبة، وأسماها، هو حب الله، كذلك يقول أمير المؤمنين (ع): "إنَّ أفضَل الناس بَعد النبيِّين -في الدُّنيا، وفي الآخرة- المُحبُّون لله، المُتحَابُّون فِيه"(2) فما معنى حبُّ الله -عزّ اسمه وتقدّس-؟

 

معنى الحبّ واضحٌ لكلِّ أحد، ذلك لأنه من المفاهيم الوجدانية فالحبُّ حالة انجذاب في النفس نحو شيءٍ ما، عندما تنجذب النفس إلى شيء، وترغب فيه، وتميل إليه، فهي تحبُّ ذلك الشيء. وكلَّما اشتدَّ الميل، واشتدَّ الانجذاب، واشتدت الرغبة، كلَّما كان الحبّ أوثق وأعمق وأشد. والحبُّ أيضاً له مراتب، وليس على مرتبة واحدة. ما معنى أن تحبّ الله -عز اسمه وتقدس-؟ ما معنى أن تعشق الله، أن تنجذب إلى الله؟ لا معنى يُتصوَّر لذلك إلاَّ معنىً واحداً وهو الرِّضا، فالرِّضا إما أن يكون هو معنى الحبّ لله -عز وجل-، وإما أن يكون مظهراً من مظاهر حبِّ الله.

 

المحور الثاني: كيف نُحبُّ الله؟

أولاً: الرضا والشُّكر

أن ترضى عن الله، وتستشعر الرضا عنه تعالى فأنت تُحبُّه. لذلك ورد -في بعض المضامين-: أنَّ المحبّ هو الشكور.

 

لاحظوا، عندما تكون بين أحدٍ وآخر علاقة ودٍّ وحبّ، فإنَّه يظل راضياً عنه، ويبحث عن كل ما يُنتج الرِّضا فيستحضره في نفسه وخواطره، ويطرد عن نفسه كلَّ ما يُوجب البُعد، وإذا ما انتقده أحدٌ في ذلك، أو تهجَّم عليه، برَّر ذلك بأنه يعشق ويحب ذلك الشخص، وإذا ما وجد من محبوبه ما لا يسرّ، التمس له الأعذار ولم يُسئ به ظنًّا بل إنَّ ما يُعدُّ من المنغِّصات عند الآخرين يكون من موجبات التعلُّق عند المحب.

 

لابد أن تكون علاقتنا مع الله علاقة حبّ، بمعنى أن تكون نفوسنا راضية عن الله -عز وجل-. وكيف أستحضر الرضا؟ عند ما استحضر في نفسي نِعَم الله، ومِنحِه التي لا تكاد تُحصى، بل هي كذلك لا تُحصى فذلك هو مبعث الرضا وهو حقيقة الشكر، فرقٌ بين الشَّاكر والسَّاخط، هناك مَن هو ساخط على ربِّه دائماً، وهناك من هو راضٍ عن ربه دائماً. الذي لا يستحضر إلَّا البلاء، ولا يستحضر إلَّا المكدِّرات من الأمور، والموانع من الوصول إلى المطامح والآمال والرَّغائب، هذا يظلُّ ساخطاً على ربِّه -عز اسمه وتقدس- .. لماذا أنا كذا، وغيري كذا؟ أنا في المحلِّ الأدنى وغيري في المحلِّ الأعلى، أنا سقيم وغيري صحيح، أنا فقير وغيري مليٌّ وثريّ وغنيّ، أنا طريد وغيري آمن في وطنه .. عندما يستحضر الإنسان كلَّ هذه الأمور، يُصبح ساخطاً على ربِّه، لا محلَّ لحبِّ الله وللرضا عن الله، ولشكر الله في نفسه، وإنْ شكَر فهو لقلقة لسان. أمَّا المؤمن المحبّ، فشأنه شأن المُحبِّين، يبحث عمَّا يُرضي، فهو يتأمَّل نفسه دائماً، إذا أراد أن يأوي إلى فراشه يقول: الحمد لله الذي رزقني فراشاً آوي إليه، وغيري يبات في العراء، ولحافاً أتدثرَّ به، وغيري بلا دثار ينام والبرد يأكل في عظامه، يتغذَّى بالقليل فيشكر ويرضى؛ لأنه يستحضر أنَّ غيره لا يأكل، وإذا أكل فبغُصَّةٍ وبذلَّةٍ وبمهانة، ويأكل الرديءَ من الطعام، أما أنت فتأكل الجيد من الطعام. استحضار مثل هذه النِعَم يشعرك بالرضا. لا يبرح المؤمن يتأمَّلُ في نِعَم الله، في كلِّ شيء، تارة يتأمَّل في جسده، فيرى أنَّ وظائف جسده تقوم على أحسن وجه وأكمله، فيشكر ويرضى .. يتأمَّل وضعه، في وسطه الاجتماعي، بين ذويه وقرابته، فيشكر ربه على حفاوتهم به، هذا هو الرضا الذي يستتبع الشكر الحقيقي الذي ينبعث من القلب. النفس دائماً تنجذب للمُنعِم الذي يُسدي إليها جميلاً، فإذا كان جميله يُحيطك ويُغرقُك .. أنفاسك جميلٌ منه، ولحظك منه، ونومك ويقظتك، قدرتك على الكلام، وقدرتُك على السعي، والمشي، والتفكير، وكلّ شيء منه ?تبارك وتعالى-، إنَّ استشعار ذلك يبعث على الإنجذاب المطلق لولي النعمة ?تبارك وتعالى-. وفي المقابل فإنّ إغفال مثل هذه النعم الكثيرة هو الذي يُنشئ السَّخط على الله -عز وجل-، ذلك الإنسان يرفُل في نِعَمٍ لا تُحصى، في نفسه، في جسده، في عياله، في وسطه، في عمله، في كلِّ شيء حوله، ثم إذا ما انتابه أمرٌ حقيرٌ في مقابلِّ كل هذه النِعَم، تراه يستحضره في نفسه، ويُغفِل كلَّ تلك النِعَم! هذا الإنسان لا يمكن أن يكون محباً لله -عز وجل-. في المقابل ثمة من تنهمر عليه المصائب عليه من كل ناحية، وهو يبحث عن النِّعم، فيذكرها ويستحضرها في نفسه فتهون عليه المصيبات فيستشعر الرضا فيشكر. لذلك ورد عن أمير المؤمنين (ع) أن العبادة على ثلاثة أنحاء: "قومٌ عبدوا الله رغبة -رغبة في الجنة ونعيمها- فتلك عبادة التجار-وهي عبادة مقبولة-، وقومٌ عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله شكراً، فتلك عبادة الأحرار"(3). ثمة من لا يفكر إلا في الربح والخسارة، أين الربح، نسعى إليه، فهو يعبد الله لتحصيل الرِّبح -وهو الجنة-، هذه عبادة التجار. وثمَّة قومٌ عبدوا الله رهبةً وخشية من النار، فتلك عبادة العبيد. وثمَّة قومٌ عبدوا الله شكراً، والمراد من الشُّكر هو الحُبّ، لأنه لا يكون شاكراً، إلَّا أن يكون مُحبًّا، وإلَّا فالذي يُلقلق بلسانه: شكراً لله، شكراً لله، وهو يستشعر السَّخط، هذا لا يُقبل منه. يُقال أنَّ موسى ابن عمران (ع) خرج في حاجة، فوجد رجلاً ساجداً وهو يقول: شكراً لله، شكراً لله، شكراً لله. مضى عنه، وهو لا زال يردد: ياربِّ، ياربِّ، ياربِّ. مضى عنه واستغرق طويلاً، ثم عاد فوجد هذا العبد ساجداً! قال (ع): لو كانت حاجته عندي لقضيتها. فأوحى الله إليه: يا عبدي، يا موسى، لو انقطع عنق هذا الرجل من السجود ما قبلته حتى يتحول عما أكره إلى ما أُحب"(4). أنا أقبل من يُحبني، أما من يتزلَّف لأمر، ثم إذا قضيتها ولّى ولم يُعقِّب!

 

ثانياً: محبّة أولياء الله

هنا أمر آخر نريد أن نكمل به هذا المحور-قبل أن ننتقل إلى المحور الآخر- بنحو الإيجاز.

 

قلنا أنّ الشكر لله الحقيقي -عز وجل- مظهر من مظاهر الحب، ثمَّة مظهر آخر من مظاهر الحب لله -عز اسمه وتقدس-: أفادته الروايات في حوارٍ كان بين موسى -كليم الله ونجيّه-، وبين الله -عز وجل-، يقول الله -عز وجل- يسأل موسى -كما ورد في الرواية-: "يا موسى، ماذا فعلتَ لي؟ قال: صلَّيتُ، وصُمتُ، وتصدَّقتُ. قال له: -مضمون الرواية- أما الصلاة فلك برهان، وأما الصوم فهو جنة، وأما الصَّدقة فهي ظلٌّ لك تظللك عن المصيبات والمحن. يا موسى أريد فعلاً فعلته لي، قال: وأي فعل أفعله لك؟! قال: الفعل الذي يكون لي هو أن تُحبَّ أوليائي"(5)، هذا الذي تُعبِّر عنه الروايات بالحب في الله، ومن أجلى مظاهر حبِّ الله أن تُحبَّ فيه. الإمام الصادق (ع) يقول: "انظر إلى قلبك، فإن كان يُحبَّ أولياء الله، ويكره أعداء الله (يكرههم؛ لأنهم يكفرون بالله، ويحب هؤلاء؛ لأنهم أحباب الله) ففيك خير والله يحبك. وإن كنت تبغض أولياء الله، وتُحبّ أعداء الله فليس فيك خير، والله لا يحبك"(6).

 

هذا مظهر من مظاهر حُبِّ الله جلَّ وعلا، أحباب الله لهم موقع خاص عند الله -عز وجل-، لذلك فإنَّ إهانتهم هي مبارزة لله -عز وجل- بالحرب، (من أهان ولياً من أوليائي فقد بارزني بالحرب)(7) وهو هالك لا محالة.

 

المحور الثالث: شرطُ الحُبّ الحقيقي:

لاحظوا، الآية الشريفة وضعت معادلة: ﴿إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي﴾، يعني: اتبعوا رسول الله، ﴿فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾. إذن هنا أناط الله -عز وجل- الحُبّ الحقيقي لله بإتّباع الرسول (ص)، الحب مرتبة لا يطالها كلُّ أحد، ولا ينالها كلُّ أحد، من أراد أن ينال هذه المرتبة العالية فليتَّبع رسول الله (ص). وكلُّ من ادَّعى العُشق والحُبّ والرِّضا عن الله -عز وجل-، وهو لا يتَّبع رسوله، فلا ثمرة من حبِّه، ولن ينفعه في شيء، حيث لن ينال محبّة الله -كما أفادت الآية الشريفة ﴿إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾.

 

ما هي دوافع الأفعال التي تصدر من الإنسان؟ إنّ الدافع الأساسيّ الذي ينطلق عنه الإنسان، ويتحرك من أجله هو المصلحة الذَّاتية، والتي تتشعَّب منها المصلحة الفئوية، والحزبية، وكلُّ المصالح الأخرى هي تنطلق من المصلحة الذاتية، كلُّ مسعى للإنسان ينشأ ?غالباً- عن مصلحة الذّات، فيبحث عن كلَّ ما ينفع الذات، ويبذل الكثير من المال والجهد والوقت من أجل نفعها. هنا الآية الشريفة تريد أن تقول، بأنه لابدَّ من إلغاء هذا الدَّافع إذا كان يتقاطع مع التبعيَّة للرسول (ص). لا مانع من أن يتحرَّك الإنسان، وينطلق في أموره من منطلق المصلحة الذاتية، ولكن إذا لم تكن تتنافى مع التبعيَّة للرسول (ص) فعندما يدور الأمر بين مصلحة الذَّات، وبين التبعيَّة للرسول (ص)، فالتبعية للرسول هي الُمقدَّمة -وإن كانت تُؤدِّي إلى فوات المنفعة الذاتية-. هذا -بنحو الإيجاز- هو ما تفيده الآية المباركة، فالآية لا تريد القول بأنَّ الإنسان عليه أن يتخلَّى عن منافعه الذَّاتية، ولكن أرادت أن تقول بأنَّ ثمَّة أوامر للرسول الكريم (ص)، ثمَّة نواهٍ وزواجر، حلال وحرام، هذه الأوامر لو اعتمدها الإنسان فإنه قد يخسر منافع الذات، ولكن حتى وإن خسر يلزمه أن يعتمد ما يقوله الرسول (ص)، بل أكثر من ذلك، أنت إنما تنطلق في أمورك عندما تُدرك منفعتها، وتدرك أبعادها، لا ينطلق الإنسان العاقل في طريق وهو لا يُدرك منتهاه، والهدف من السعي في هذا الطريق. ولكن إذا صدر أمرٌ عن رسول الله -وإن كنتَ لا تدرك فحواه، ومنتهاه، وأُفقه، وأبعاده- فإنه يلزمك اعتماد قول الرسول (ص). هذا ما أرادت أن تفيده الآية المباركة. الوقت قد انتهى.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة آل عمران / 31.

2- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 66 ص 251.

3- (نص الرواية): نهج البلاغة: قال أمير المؤمنين عليه السلام: إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار. بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 41 ص 14.

4- الكافي -الشيخ الكليني- ج 8 ص 129.

5- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 66 ص 252.

6- (نص الرواية): الكافي: عن العدة، عن البرقي، عن ابن العرزمي، عن أبيه، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا أردت أن تعلم أن فيك خيرا فانظر إلى قلبك فإن كان يحب أهل طاعة الله عز وجل ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبك وإذا كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته فليس فيك خير، والله يبغضك، والمرء مع من أحب. بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 66 ص 247.

7- (نص الرواية): أخبرني أبو الحسين طاهر بن محمد بن يونس بن حياة الفقيه ببلخ، قال: حدثنا محمد بن عثمان الهروي، قال: حدثنا أبو محمد الحسن ابن الحسين بن مهاجر قال: حدثنا هشام بن خالد، قال: حدثنا الحسن بن يحيى الحنيني قال: حدثنا صدقة بن عبد الله، عن هشام، عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله)، عن جبرئيل، عن الله عز وجل، قال: قال الله تبارك وتعالى: من أهان وليا لي فقد بارزني بالمحاربة. نور البراهين -السيد نعمة الله الجزائري- ج 2 ص 392 .( رواية آخرى): وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: "قال الله تبارك وتعالى: ويل لمن أهان وليا: من أهان وليا فقد حاربني، ويظن من حاربني أن يسبقني أو يعجزني، وأنا الثائر لأوليائي في الدنيا والآخرة". مستدرك الوسائل -الميرزا النوري- ج 9 ص 102.