وقفة مع محاسبة النفس

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وخاتم النبيين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

 

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهن وأكرمنا بنور الفهم وافتح علينا أبواب رحمتك وانشر علينا خزائن علومك.

 

قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(1)

صدق الله مولانا العلي العظيم.

 

وقفة مع الزمن

نعيش هذه الأيام بداية سنة ميلادية جديدة، وبداية سنة هجرية جديدة، وينبغي للمؤمن العاقل ألَّا تمرَّ عليه السنون وهو في غفلةٍ عن ذاته ونفسه، ينبغي أن يقف عند كلِّ زمن، أو لا أقلَّ عند كلِّ مفصلٍ زمني؛ ليتأمل فيه، يتأمل في ذاته، في مجمل أفكاره، في مجمل سجاياه وسلوكياته، في انتماءاته، وفي أعماله، ومشاعره، فيما قدَّم، وفيما ينبغي له أن يُقدِّم. إنَّ الإنسان غير العاقل هو الذي تحمله السنون كيفما تشاء، وتذهب به في أيِّ اتجاه شاءت هي، لا ما شاء هو، فلا يدري ماذا سيفعل اليوم، فضلا عمَّا سيفعله غدا، أو بعد غد.. لا يتأمَّل في شيءٍ من أفكاره ومشاعره، ولا يتأمَّل في شيءٍ مما كان قد فعل، ومما ينبغي له أن يفعل، ولهذا لا تجد لأفكاره من تقدُّم، ولا لنفسه من تكامل، بل يظلُّ يراوح محله، لا يكاد يخطو خطوةً إلى الأمام إلا وقد خطا بعدها خطوةً إلى الخلف، ذلك لأنه لا يحاسب نفسه.

 

النظر إلى الغد

الآية التي قرأناها تدعوا المؤمنين إلى أنْ ينظروا ماذا قدَّموا لغد، أنت لست ابن اليوم وحسب فثمَّة غد، فانظر ماذا فعلت في هذا اليوم لغد. ليس باختيارك ألَّا ترحل إلى ذلك الغد، ليس باختيار الإنسان ألَّا ينتقل من هذا العالم إلى عالمٍ آخر، ينبغي للمؤمن العاقل أنْ يستشعر ذلك، بل ينبغي أن يستحضر هذا الشعور في جلِّ أوقاته، وهو أنَّه سوف ينتقل -شاء أو أبى- من هذا العالم إلى عالم آخرٍ في يومٍ ما، ولذلك العالم أحكام وخصوصيات أخبر عنها الله، ورسل الله، وكُتبُ الله التي جاءت بواسطة الوحي، وأفادت أنَّ ثمة سعادةً وشقاء، وأنَّه لا يخلو أمر الإنسان من سعادةٍ أو شقاء، فالسعيد هو من حظي بالرضوان الإلهيّ، السعيد هو من أُدخل الجنة، ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾(2). إذاً هناك نارٌ وجحيم وعذاب سرمديّ أبديّ، وهناك نعيم وجنات أبديَّة. وللنار درجات ومراتب، وللجنَّة درجات ومراتب، هذه هي أحكام الدار الأخرى التي سوف ننتقل إليها، وقد أناط اللهُ عزَّ وجل سعادة الإنسان وشقاءه بما يفعله في هذه الدار، فالإنسان هو مَن يُقرِّر أن يكون سعيداً، وهو الذي يُقرِّر أن يكون شقياًّ، كما أنَّه الذي يُقرِّر في أيِّ موضع سيكون، وفي أيِّ مرتبة سوف يكون، في الدرك الأسفل من النار، أو في أعلى عليين في الجنة، هو الذي يقرر ذلك، ﴿وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾.

 

الاستعداد سمة العقلاء

العاقل إذا أحرز أنَّ جدباً وقحطاً سوف يُصيب هذه البلاد، وسوف لن يجد الناس ما يأكلون وما يشربون بعد شهرٍ من الزمن، بل بعد سنة، ما الذي سوف يفعله هو وبقيَّة العقلاء؟ سيدّخرون، وأيَّ شيءٍ سيدَّخرون؟! سيدّخرون الجيِّد من الطعام، الذي له صلاحية البقاء لسنةٍ وأكثر؛ ذلك لأنهم يحتاجونه في وقت الجدب والقحط، ومن أهمل وتغافل سيقول عنه العقلاء أنه سفيه، وسيرميه العقلاء بالحماقة.

 

ألسنا كذلك؟ إذا أغفلنا سفراً مُحرز الوقوع، وبدون اختيارنا -وها نحن نشاهد كلَّ يومٍ يحين سفر بعضنا، وننتظر نحن يومنا- فأيُّ شيء أعددناه لذلك اليوم ولذلك السفر؟ هذا ما تشير إليه الآية المباركة، لو كان عليك أن تقطع بحراً ليس باختيارك أن لا تقطعه، وليس عندك من وسائل لعبور هذا البحر إلا ما تُحصِّله بنفسك، ولن تُعان على سلوك وعبور هذا البحر، وأنّ عليك أن تُحصِّل هذه الوسائل بنفسك، وسيكون عبورك حتمياًّ، فإن شئت عبرته، وإن شئت أُغرقت، وأنه لابد وأن تقطع هذا البحر، فأيُّ شيء ستصنع؟ لعلّه في هذا العام، ولعلّه بعد هذا العام سوف أعبر هذا البحر، أي شيء يدعوك إليه عقلك وحرصك على نفسك، وحرصك على أن تحوطها وتعتني بها وتراعي مصلحتها، أيُّ شيء ستصنع؟ ستبذُل المستحيل من أجل أن تُحصِّل الوسائل المؤمِّنة لهذا العبور، ستبحث عن من يعبرُ بك، فتعطيه ما يشاء من أجرته، وستحمل معك ما تحتاجه من ذخائر، من أموال، أو طعام ولباس وأمتعة؛ حتى تكون في مأمنٍ حين عبورك ذلك البحر.. نحن كذلك لو تأمَّلنا، كلُّنا سنعبر -شئنا أو أبينا- هذا الطريق، فهل أعددنا له عدته؟

 

الإيمان بالله واليوم الآخر هما الباعثُ على الاستعداد

إذاً أيها الأخوة الأعزَّاء، الإيمان بالله عز وجل، والتصديق بما جاء به المرسلون، والإيمان بأنَّ ثمّة عالَماً سنرحل إليه عن غير اختيارنا، فليس لنا مشيئة في أن لا نرحل إليه، وليس لنا مشيئة في أن نختار الوقت الذي نرحل فيه إليه

.

هذان عنصران أساسيان إذا أذعنَّا بهذا الأمر، وأذعنَّا بأمر آخر: وهو أنَّ للعالم الآخر -كما بلَّغ المرسلون- أحكاماً خاصة، ووضعاً خاصاً، سعادة وشقاء، نعيماً وعذاباً، لا محيص عن أحدهما، إذا أذعنَّا بذلك أيضا فحينئذٍ سوف نُعدَّ له العدَّة، أمَّا إذا أَغفلنا ذلك فلن نعي إلَّا وقد حان وقت الرَّحيل، ولا شيء بيدنا نتزوَّد به لذلك الطريق، وذلك السفر، وذلك العالمَ. هناك في العالم الآخر -كما أفاد القرآن الكريم- حساب، سوف يُحاسب الإنسان على كلِّ فعل فعله: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾(3) ستُحاسب على مقدار الذرة، ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾(4).

 

مثال من واقع الحياة:

تصوّروا أيُّها الأخوة أنَّ الإنسان في مؤسسة من المؤسسات، ويعلم أنَّ تقريراً تفصيلياً سوف يُرفع إلى مسئوله في كلِّ شهر عما فعل هذا الموظف، عن حضوره وغيابه، عن التزامه بالوقت وعدم التزامه، عن مقدار ما أنجز ومقدار ما ينبغي له أن يُنجز. ما الذي سيكون عيله حال هذا الموظف؟ بطبيعة الحال سوف يبذل ما في وسعه ويجدُّ في الحضور والإتقان لعمله، هذا لو كان حريصاً على أن يكون التقرير المرفوع عنه موجباً للحظوة له عند مسئوله، فهو سوف يحرص على أن يُرفع لمسؤوله تقريراً هو يرضاه لنفسه، ولمصلحته، ولمستقبله في هذا العمل.

 

المراقبة والمحاسبة

القرآن قال لنا: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾(5) كلُّ ما تفعله يُكتب، كلّ ما تقوله يُكتب، كلّ حركةٍ وسكونٍ فهو مسطورٌ ومكتوب ومحفوظ. وإذا كان الأمر كذلك وسيرفع إلى من ينبغي أن ترجو رضاه، ومَن ينبغي أن ترجو العافية من عذابه ، وتعلم أنَّ هذا التقرير له تبعات وتبعات، فما أنت فاعل، وما الذي ستصنعه؟ ستُحاسب نفسك، وهذا ما نريد أن نصل إليه وهو محاسبة النفس، والمراقبة لها، فتبدأ أولاً بالمراقبة لنفسك وعملك، تراقب أنَّك تُتقن العمل أو لا؟ أنَّك تواظب عليه أو لا؟ أنَّك تسعى لأن تتقدَّم فيه أو لا؟ ثم تُحاسِب إذا ما عملت، هل كان العمل مُتقناً أو لم يكن متقنا؟ هل أخطأتُ أو لم أخطأ؟ هل قصرتُ أو لم أقصر؟ في حساب دائم، تحاسب نفسك بشكلٍ دائم.. والحساب هو الذي يُنتج تقليل الأخطاء، ويُساهم في التقدُّم والتكامل والتطور، فسرُّ التقدُّم هو المحاسبة، والسرُّ في التقليل من الأخطاء يوماً بعد يوم هو محاسبة النفس.

 

لماذا نجد أنفسنا نكرر الخطأ؟ وقعنا في معصية، ثم بعد فترة نقع في المعصية نفسها!! لماذا؟ لأننا لم نُحاسب أنفسنا على تلك المعصية.

 

ما معنى المحاسبة؟

عندما ندرك أننا أخطأنا، فهذه مرحلة أو مرتبة من المحاسبة، والمرتبة الثانية: هل وبَّخنا أنفسنا على الفعل الذي ارتكبناه -كان خطأ أو معصية-؟ هل عقدنا العزم على عدم اقتراف هذه المعصية التي كنا قد فعلناها؟ لو كان الأمر كذلك لكان احتمال وقوع الخطأ مرَّة أخرى أقلّ، إلى أن يصل الشخص الذي يحاسب نفسه إلى مستوى عدم الوقوع في الخطأ مرةً أخرى، قد أقع مرَّة ثانية في خطأ آخر، وأراجع نفسي، وحينئذٍ لن أقع فيه، وبمرور الزمن يجد الإنسان نفسه قادراً على الإعتصام عن الكثير من الأخطاء والمعاصي التي كان يقترفها. فالمراقبة الذاتية، وكذلك المحاسبة، يُنتجان عدم تكرار الخطأ، ويُنتجان تدرج النفس في مدارج الكمال.

 

ما هي طريقة المحاسبة للنفس؟

هناك مراتب في محاسبة النفس فليست هي على مرتبةٍ واحدة- وأقل المراتب أن أجلس فأتأمَّل في ذاتي، لاحظوا، إن الإنسان يمتاز عن غيره بأنه يستطيع أن يُمثِّل دورين في داخله: دور المحاسِب، والمحاسَب، الإنسان غريب، يمتلك أن يعيش حالة ازدواجية بين ذاته، فتكون ذاته في الوقت الذي هي في موقع المحاسَب، تكون هي في موقع المحاسِب أيضاً، فيجلس مع ذاته، هي نفس واحدة ولكن هذه النفس هي التي تُحاسِب نفسها، -وهذا بحث لا ربط لنا به الآن-، أن أول مرتبة لمحاسبة النفس هي أن يتأمَّل الإنسان فيما فعل في هذا اليوم: الساعة الخامسة صباحاً، في أول النهار، هل صلَّيتُ في أول الوقت أو لم أصلِ؟ بعد ذلك في الساعة الثانية، في الساعة الثالثة، في الساعة الرابعة، وهكذا يسترجع ويسترجع كل ما فعله إلى آخر اليوم، فهناك طاعات، وهناك ذنوب، هذه الطاعات أياً منها التي التزمت بها، وأيُّها التي لم ألتزم بها، وهكذا.. هذه مرتبة.

 

المرتبة الأخرى أن أنتقل من مرحلة المحاسبة اليومية إلى المحاسبة الشهرية، بعد مجمل ما فعلته في هذا الشهر، ومن المحاسبة الشهرية إلى المحاسبة السنوية، ومن المحاسبة السنوية إلى المحاسبة التي يمكن أن نعبِّر عنها بالمحاسبة المرحلية، الإنسان يمرُّ عبر مراحل: طفولة، شباب، كهولة.. الآن أنت قد تعدَّيت العقد الثاني، ماذا فعلت في العقديين السابقيين؟ تعدَّيت العقد الرابع، ماذا فعلت في العقود الأربعة التي مضت؟ وهكذا.

 

والمحاسبة ينبغي أن تكون فيها الصراحة تامَّة، أنت مع ذاتك، مع نفسك، ليس عليك بأس أن تُعدِّد إخفاقاتك، وأن تُعدِّد أخطاءك ومعاصيك، هذه أيضا مرحلة أخرى من مراحل المحاسبة المرحلية، أو السنوية، حيث تكون محاسبة عن مجمل الأفكار، ومجمل المشاعر، ومجمل السلوك، ومجمل الإنجازات، كلُّ ذلك ينبغي أن تتم المراجعة له؛ حتى أتكامل لابدّ أن أرجع إلى جميع هذه الأمور.

 

هناك مرحلة أخرى أيضا تُعدُّ من المحاسبة للنفس، وهي أنه أنا إنسان، وعندي استعداد فكريّ، وعندي استعداد نفسيّ، وعندي استعداد بدنيّ، ويمكن أن يكون عندي استعداد اجتماعيّ، واستعداد اقتصاديّ، ومجموعة استعدادات. لابدَّ وأن أعرف مقدار استعداداتي، الإنسان قد يعيش مائة سنة وهو لا يدري ما هي طاقاته، ما هي استعدادته الفكرية، ما هي استعدادته النفسية أصلا!! هكذا يعيش وهو لا يعرف ما حباه الله به من قابليات! وحينها قد يفوِّت على نفسه الكثير مما ينبغي أن يُنجزه، فلا ينجز نتيجة جهله بمستوى استعدادته النفسية، أو الذهنية، أو الإجتماعية، أو الجسدية. لذلك أكَّدت الروايات على أنه ينبغي للإنسان أن يتعرَّف أولا على مقدار استعدادته، ثم يبحث في أنَّ هذا الأستعداد هل هو قابل لأن يتطور أو لا؟ فإذا كان قابلاً لأن يتطور ولم أطوِّره فلابد أن أوبِّخ نفسي. هل وظَّفت هذه الاستعدادات لما ينبغي أولم أوظِّفها فيما ينبغي؟ وإذا كنت وظَّفتها فيما ينبغي فهل يمكن أن أطوِّرها لأوظفها في أمرٍ آخر أو لا؟ هذا مستوى من المحاسبة للنفس يُنتج التكامل أيها الأخوة الأعزاء.

 

"حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا"(6) أوزن نفسك، أوزن أعمالك، وانظر مقدار نفسك ومقدار عملك، أنت تحتاج إلى أيِّ كمية للعمل يوم القيامة؟ وأي نوعية؟ وأي مقدار؟ هذا المقدار يكفي؟ ربما لا يكفي.. دائماً شكِّك في كفاية عملك، حتى أزيد وأزيد وأزيد من عملي إلى أن أموت، هكذا ينبغي أن أكون.

 

مسك الختام

كنا نود أن نقرأ بعض الروايات المرتبطة بمحاسبة النفس وللتبرك نقرأ رواية دون تعليق ونختم بها الحديث -إن شاء الله-، يقول أمير المؤمنين (ع): "من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر, ومن خاف أمن، ومن اعتبر أبصر، ومن أبصر فهم، ومن فهم علم"(7).

 

اللهم صل على محمد وآل محمد.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة الحشر / 18.

2- سورة آل عمران / 185.

3- سورة الزلزلة / 7.

4- سورة الزلزلة / 8.

5- سورة ق / 18.

6- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج16 / ص99.

7- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج16 / ص97.