التقليد في أصول الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

لدي مجموعة أسئلة عقائدية أرجو الردَّ على المستطاع والميسور منها وأكون شاكراً لكم:

 

- من المعلوم عندي أنَّه لا تقليد في أصول الدين، بمعنى أنَّ على الإنسان أن يَحصل على اليقين في معتقداته الدينية عن بصيرة واقتناع، لا عن تقليد واتباع .. فما هو الحدُّ الأدنى من المعرفة الذي ينبغي للإنسان تحصيله، ويكون مسائلاً عنه يوم القيامة؟

 

- ﴿وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾(1) هل يتعارض التسليم ببعض القضايا مع ضرورة إعمال العقل في استكناه الحقائق؟ ومتى يكون على الإنسان أن يفكر؟ ومتى عليه أن يُسلّم؟ أليست حياة التسليم هي الخضوع لسياسة الأمر الواقع دون اقتناع؟

 

- ماذا عن إيمان العجائز؟ خصوصاً وأنَّهم غير قادرين على ردِّ أبسط الشبهات؟ ألا يعتبر هكذا إيمان نقصاً وأنَّهم في معرض الاعتقاد بالباطل مالم يُعمِلوا عقولهم ويتبيَّنوا من عقائدهم بالدليل؟

 

الجواب:

وجوب النظر وتحصيل الدليل في أصول الدين من المسائل الخلافية، فثمة مَن ذهب إلى لزوم النظر وتحصيل الدليل في الأصول الاعتقادية، وثمة مَن ذهب إلى كفاية اليقين حتى وإنْ نشأ ذلك اليقين عن التقليد للعلماء المأمونين.

 

وبناءً على لزوم النظر والاستدلال في مسائل العقيدة كما هو مذهب العديد من العلماء فإنَّ المقدار الواجب تحصيل اليقين به عن استدلالٍ وبرهان هو ما لا يسع المكلَّف جهله من أصول الاعتقاد كالإيمان بوجود الله تعالى وتوحيده وعدله والإيمان بالرسول الكريم (ص) والمعاد والإمامة، فهذا المقدار في خطوطه العامَّة والعريضة هو ما يجب اليقين به عن برهانٍ ونظر، وأما تفاصيل هذه الأصول وتفريعاتها فهي ممَّا لا يلزم تحصيله بواسطة النظر والبرهان.

 

على أنَّ الايمان بالكثير من تفاصيل المسائل الاعتقادية يحصل تلقائياً بعد الإيمان بالرسول الكريم (ص) وبصدق كلِّ ما ثبت صدورُه عنه دون أن يسترعي ذلك لأكثر من الالتفات إلى أنَّ ثبوت كونه رسولاً من عند الله تعالى يُلازم قطعاً صحَّة كلِّ ما يُخبِر به، وهذه الملازمة من الوضوح بحيث لا تكاد تخفى على أبسط الناس وأضعفهم إدراكاً، نعم قد تخفى هذه الملازمة البيِّنة على مَن هو فاقد لأدنى مراتب الإدراك، ومَن كان هذا شأنُه فهو غيرُ مكلَّفٍ بشيءٍ أساساً. فلن يكون مُسائلاً يوم القيامة لا عن تفاصيل العقيدة بل ولا عن أصولها.

 

ثم إنَّ لزوم ابتناء يقين المكلَّف في أصول دينِه على الدليل والبرهان يتحقَّق ولو بأيسر الأدلة والتي لا يعسر على عامَّة الناس إدراكها والإذعان بصدق نتائجها، فلا يُعتبر في الأدلة الواجب تحصيلُها أن تكون من قبيل الأدلة التفصيليَّة أو المعقَّدة التي يسترعي الوقوف عليها واتقانها وقتاً قد لا يكون مُتاحاً لعامَّة الناس نظراً لاشتغالهم بشؤوناتهم الخاصَّة أو يسترعي استعداداً ذهنيَّاً قد لا يتوفَّر عليه الكثير من الناس أو يسترعي الإتقان لمقدماتٍ لا يُتاح لغير ذوي الاختصاص الإحاطة بها.

 

فالأدلَّة التي يتحقَّق بها امتثالُ التكليف بلزوم النظر فيها لتحصيل اليقين بأصول العقيدة هي تلك الأدلة المدرَكة بالعقل الفطري أو القريبة منه فيكفي مثلاً لإثبات وجود الصانع جلَّ وعلا ما نُسب إلى بعض الأعراب حين سُئل عن الدليل على وجود الله تعالى فقال: "ويحك البعرةُ تدلُّ على البعير، وأثَرُ الاقدام تدلُّ على المسير، أفسماءٌ ذاتُ أبراج وأرضٌ ذات فِجاج، ألا تدلَّان على اللطيف الخبير؟!" فهو قد استدلَّ على وجود الله تعالى بدليلٍ لا يُمكن نقضُه والتنكُّرُ له، ورغم ذلك فهو دليلٌ ميسورٌ إدراكُه لكلِّ أحدٍ سلمتْ فطرتُه من التعصُّب والشبهة، وكذلك ما استدلَّت به العجوز على وجود المدبِّر للكون حيث استدلَّت على ذلك بالمغزل الذي كان بيدها تحوك به، فهو يتحرَّكُ ويعمل حينما تُحرِّكه ويقف عن الحركة حينما تتركه فكذلك هي حركة الكون ودوران الفلك والشمس والقمر.

 

وهكذا فإنَّه يكفي لإثبات عدل الله تعالى ما يُدركه العقل الفطري من قبح الظلم واستبشاع صدوره من غير الإله فضلاً عن الإله جلَّ وعلا، ويكفي لإثبات رسالة الرسول محمد (ص) ما شاهده الناس من ظهور المعجزات والخوارق على يديه ويكفي لإثبات رسالته عند مَن لم يُدرك زمن الرسول (ص) ما تناقلته الأخبار المتواترة من ظهور المعجزات على يديه فإنَّ حصول اليقين بمضامين الأخبار المتواترة لا يتردَّد فيه عاقل، لذلك لا يتردَّد أحد -مثلاً- في وجود مدينةٍ في الأرض اسمها مكة رغم انَّ الكثير من الناس لم يُشاهد هذه المدينة وما ذلك إلا لتواتر الأخبار بوجود هذه المدينة وهكذا فإنَّ الكثير من الشخصيات التاريخيَّة الشهيرة لا يشكُّ أحدٌ في وجودها وفي السِمات العامَّة لها نظراً لتواتر الأخبار جيلاً بعد جيل بوجودها في التاريخ وبما كانت عليه من سِماتٍ عامة. إذن فيكفي لإثبات رسالة الرسول محمد (ص) تواتر الأخبار جيلاً بعد جيل بوجود شخصية في التاريخ اسمها محمد (ص) وانَّه كان يُخبر الناس بأنّه نبيٌّ وانَّه أثبت ذلك بما ظهر على يديه من المعجزات والخوارق التي لا يمكن لبشر أيَّاً كانت ملَكاته أن تصدر عنه تلك المعجزات من تلقاء نفسه دون أن يكون مؤيَّداً من عند الله تعالى.

 

وكذلك يكفي لإثبات رسالة الرسول (ص) القرآنُ الذي تحدَّى به كلَّ البشريَّة بأنْ يأتوا بسورةٍ من مثله، فعمومُ الناس خصوصاً في هذا الزمان وإنْ كانوا غير قادرين على إدراك الإعجاز القرآني في البلاغة والفصاحة مثلاً ولكنَّهم يُدركون أنَّ هذا القرآن كان قد تحدَّى به محمدٌ (ص) فحول الفصاحة والبلاغة من العرب فلم يتمكنوا -رغم حرصهم على ابطال دعوى الرسول (ص)- من كسر هذا التحدِّي ورجَّحوا المواجهة لمحمد (ص) والدخول معه في حروبٍ طاحنة كلَّفتهم الكثير من الدماء والأموال، فلوا كانوا قادرين على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لإبطال دعوى الرسول (ص) لما اختاروا المجازفة بدمائهم وأبنائهم وأموالهم، فالالتفات لهذه المقدِّمات البيِّنة والميسورة تكفي للإذعان بإعجاز القرآن وبرهانه على صدق النبيِّ الكريم (ص).

 

فإذا حصل اليقين بصدق النبيِّ (ص) من مثل هذا الدليل كان ذلك دليلاً على المعاد والإمامة أي أنَّه يكفي لإثبات المعاد إخبار النبيِّ الصادق (ص) بحتميَّة وقوعه، ويكفي لإثبات إمامة عليِّ بن أبي طالب (ع) إخبار النبيِّ (ص) أنَّ الله تعالى قد جعله إماماً على الأمة من بعده، وهكذا تثبت الكثير من المسائل الاعتقادية بمجرَّد الالتفات إلى أنَّ النبيَّ (ص) قد أخبر عنها وكلُّ ما أخبر به النبيُّ (ص) فهو صدقٌ وحقٌّ بمقتضى كونه نبيَّاً.

 

فمثل هذه الأدلة الإجمالية والميسورة كافية لإثبات أصول العقيدة، وهي أدلة لا يعسر على عموم الناس النظر فيها وحصول اليقين بمؤدَّاها، وهي كافية لصحَّة أنَّ اليقين بهذه الأصول نشأ عن بصيرة واقتناع.

 

وبما ذكرناه يتَّضح الجواب عن السؤال الثاني فإنَّ قوله تعالى: ﴿وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾ ورد في ذيل قوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾(2) وكذلك فإنَّ قوله تعالى: ﴿وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ ورد في ذيل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾(3) فالآيتان تُرشدان إلى وجوب التسليم بما بُخبر عنه النبيُّ (ص) ويأمرُ به، والتسليم بذلك ليس بلا دليل، فإنَّ الدليلَ عليه هو ما دلَّ على نبوَّة النبيِّ الكريم (ص) فحيثُ ثبت بالدليل أنَّه نبيٌّ فهو إذن صادقٌ فيما يُخبِرُ به عن الله تعالى، وحكمه حقٌّ لأنَّه صادرٌ عن الله تعالى.

 

وليس معنى قوله تعالى: ﴿وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾ أنَّ على المؤمن أن يُسلِّم بكلِّ شيءٍ سمعه فإنَّ ذلك ليس هو المراد من الآية قطعاً بل المراد منها هو الأمر بالتسليم للرسول (ص) وما ثبت صدوره عنه نظراً لكونه نبيَّاً مرسَلاً عن الله تعالى، وأمَّا مالم يثبت صدوره عن الرسول (ص) أو عمَّن أمر الرسول(ص) باتباعه وتصديقه فإنَّ على العاقل قبل التسليم أن يمتحن كلَّ قضيةٍ تردُ على سمعه بالوسائل العقليَّة والعقلائية فإنْ وجدها مطابقة لمقتضيات وسائل الإثبات العقليَّة والعقلائية قَبِلها وإلا كان له ردُّها أو اعتبارها في حيِّز الاحتمال والإمكان.

 

فالرسول (ص) أخبر مثلاً عن وجود الجنِّ وأخبر عن وجود الملائكة وأخبر عن الجنَّة والنار وأنَّ في الجنة أنهارٌ من عسلٍ ولبنٍ وأنَّ في النار حميم وغساقٌ وزقوم، وكلُّ هذه الإخبارات لا يمكن للعقل إدراكها والتثبُّت من صحَّتها ولكن يجب التسليم بصدقها بعد قيام الدليل على أنَّ المُخبِر بذلك نبيٌّ من عند الله تعالى، فهذا الدليل هو الذي ينشأ عنه اليقين بصدق هذه الإخبارات ومطابقتها للواقع.

 

واتَّضح أيضاً ممَّا ذكرناه أنَّ ايمان العجائز مبنيٌّ عند الكثيرات منهنَّ على الدليل والبرهان، وذلك لأنَّ البراهين الفطريَّة أو القريبة منها لا يعسرُ على عموم الناس اداركها، وعنها يتولًّد عندهم اليقين، نعم قد لا يتهيأ للكثير منهم القدرة على صياغة الأدلة صياغةً منطقيَّة وقد لا يُحسنون التعبير عن منشأ اليقين بما يعتقدون إلا أنَّ ذلك لا يعني خلو اعتقاداتهم من الدليل الفطري أو القريب منه، وأمَّا عدم قدرتهم على ردِّ الشبهات فذلك خارج عن دائرة تكليفهم ولا يخدش في ايمانهم، فإنَّ ردَّ الشبهات شأنُ ذوي الاختصاص وذوي الاستعدادات الذهنية المتقدِّمة، فلا يُكلَّف بها مَن كان عاجزاً عنها، ولو علقتْ في ذهن أحدهم شبهة موجبة لتزلزل يقينه بأصول دينه فإنَّ عليه الرجوع إلى ذوي الاختصاص لتفنيدها له بالأدلة المتناسبة مع مستوى ادراكه واستيعابه.

 

وأمَّا ما ذكرتم من أنَّ على العجائز أنْ يُعمِلوا عقولهم ويتبيَّنوا من عقائدهم بالدليل فذلك هو ما ذكرناه، وقد حضَّ الإسلام عموم الناس على اختلاف مستوياتهم على النظر والتثبُّت والتدبُّر والتأمُّل وتحرِّي الدليل وعدم التقليد الأعمى لكنَّ ما يجب من النظر وتحرِّي الدليل ليس هو النظر الذي يتعاطاه الفلاسفة أو علماء الكلام فإنَّ هذه المرتبة بل وما دونها من النظر لا يُكلَّف بها العاجز عن تحصيلها، وأما المرتبة الدانية من النظر والاستدلال فالكثير من عامَّة الناس قد ابتنت عقائدُهم عليها، فهم ليسوا مقلِّدين، نعم ثمة من هو عاجز حتى عن ادراك هذه المرتبة الدانية فهؤلاء غير مكلَّفين بالنظر والاستدلال، لأنَّ الله تعالى لا يُكلِّف نفساً إلا وسعها ولا يُكلِّفها إلا بما آتاها وأقدرها عليه.

 

ووقوع مثل هؤلاء في بعض المعتقدات الفاسدة لا يترتَّب عليه مُساءلة وعقوبة بعد افتراض قصورهم عن الإدراك حتى للمراتب الدانية.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة النساء / 65.

2- سورة النساء / 65.

3- سورة الأحزاب / 55.