المَسخُ والخَسفُ والقذفُ في القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ورد في القرآن الكريم أنَّ الله تعالى عذَّب بالمسخِ والخسفِ والقذفِ فما الفرق بين هذه العقوبات؟

 

الجواب:

المرادُ من المسخ هو تحويل صورةٍ إلى أخرى مُشوَّهة، وقد فعل اللهُ تعالى ذلك بأصحاب السبتِ من بني إسرائيل حيث مَسخهم قردةً كما أفاد القرآنُ الكريم في قولِه تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾(1) وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾(2).

 

وفي موضعٍ آخر أخبر القرآنُ الكريم عن أقوامٍ غضِب اللهُ عليهم فلعنَهم وجعل منهم القردةَ والخنازير قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ﴾(3).

 

فما أصاب هؤلاء الذين حكى عنهم القرآن هو ما يُعبَّر عنه بالمسخ حيثُ إنَّ الله تعالى حوَّل صورهم وهيئاتِهم الانسانيَّة إلى صورٍ وهيئاتٍ قبيحة فصيَّرهم على صور القِردة والخنازير.

 

وهذا المعنى للمسخ هو المراد من قوله تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ﴾(4) أي لو شاء اللهُ تعالى لَمَسخَ هؤلاء الكافرين بتحويل صورهم إلى أخرى قبيحة ومشوَّهة كأنْ يجعلها على صور القردة والخنازير أو غيرها كما فعل ذلك بأصحاب السبت وآخرين، وحين يُصيِّرهم اللهُ تعالى مُسوخاً فإنَّهم لن يستطيعوا مضيَّاً ولا يرجعون، أي أنَّه لن يستطيعوا الفرار من هذا العذاب كما أنَّهم لن يتمكنوا من الرجوع إلى حالتِهم الأولى.

 

وأمَّا الخسفُ فوردَ في آياتٍ عديدة:

منها: قوله تعالى: ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ﴾(5).

 

ومنها: قوله تعالى: ﴿أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾(6).

 

ومنها: قوله تعالى حكاية عمَّا وقع لقارون: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ ..﴾(7).

 

ومنها: قوله تعالى: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ﴾(8).

 

ومعنى الخسف لغةً هو الغيبوبة بعد الظهور، فمعنى خسف القمر هو ذهاب ضوئه، وكذلك هو معنى خسف العين فإنَّه يطلقُ عند فقئها وانطماسها وفقدانها بذلك القدرة على الإبصار، وخسف الأرض يُطلق عند انشقاقها وغيبوبة ما على ظهرها في باطنِها. وغالباً ما يُطلق الخسف في الموارد المذكورة وغيرها إذا وقعت على وجهٍ لا يكون مرغوباً أو منتَظراً، فغيبوبةُ ما على ظهر الأرض في باطنِها مثلاً لا يقال له خسف لو نشأ ذلك عن حفر الأرض اختياراً وإلقاء ما على ظهرها في باطنها ولكن يُقال لذلك خسف لو انشقَّت الأرض فجأة فابتلعت ما على ظهرها، وكذلك لا يُقال لذهاب ضوء القمر خسف حينما يذهب ضوؤه نهاراً وإنَّما يُقالُ له خسف لو ذهب ضوؤه في وقتٍ كان المُنتظَر منه أن يكون مضيئاً، وهو الليل.

 

وهكذا الحال في سائر موارد استعمال الخسف، لذلك يُعدُّ الخسف عند الناس من الشرور.

 

وممَّا ذكرناه يتَّضح المرادُ مِن مثل قوله تعالى: ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ﴾ فمعنى: ﴿يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ﴾ هو أن تنشقَّ الأرضُ من تحتِهم على غير ترقُّبٍ وتوقُّعٍ منهم فتبتلعُهم في باطنها، وكذلك فإنَّ معنى قوله تعالى حكايةً عمَّا وقع لقارون: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ ..﴾ هو أنَّ الله تعالى شقَّ الأرض من تحت دارِه فوقع في باطنِها وتهاوتْ جدرانُ داره وما اشتملت عليه من كنوزه وأموالِه وتكوّمت في باطن ما انشقَّ من تلك البقعة ﴿فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ﴾(9).

 

وأما معنى القذف فهو الرمي بمثل السهم والحجر وغيرهما، ويُطلق القذفُ مجازاً على رمي المحصنة بالزنا بل وعلى كلِّ فِريةٍ يفتريها أحدٌ على بريئ، والتعبيرُ عن ذلك بالقذف لمناسبة أنَّ الفِرية أشبهُ شيءٍ بالسهم الذي يُصوِّبه أحدٌ إلى مقتل آخر فيقتله به أو يُعطبه.

 

وقد استعملَ القرآن الكريم كلمة القذف للتعبير عن نحوٍ من العذاب والعقوبة الالهيَّة في موردين:

 

المورد الأول: في قوله تعالى: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ / وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ / لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ / دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ / إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾(10).

 

المورد الثاني: قوله تعالى ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾(11) وقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾(12).

 

فالقذف في المورد الأول كان رجماً لمردة الشياطين بالشُهب، حيث كانوا يصعدون السماء أملاً في استراق السمع والتعرُّف على بعض المغيَّبات من الملاء الأعلى وهم الملائكة إلا أنَّ السماء كانت محفوظةً منهم، فكانوا كلَّما صعدوا لهذه الغاية رصدتهم شهبُ السماء ودحرتَهم. كما أفاد القرآنُ ذلك في آياتٍ أُخرى أيضاً كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ / وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ / إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ﴾(13).

 

وكذلك قوله تعالى: ﴿وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا﴾(14).

 

وأما القذفُ في المورد الثاني فهو أنَّ اللهَ تعالى ينتصرُ لبعض رسلِه بإيقاع الرعب منهم في قلوب أعدائهم، فمعنى قذفِ الرُعب في قلوبِهم هو إيقاعُ الخوف والهلَع في قلوبِ أعداء الله جلَّ وعلا، فيكون ذلك مَبعثاً على استشعارهم الصَغار والانكسار والهزيمة.

 

والتعبيرُ عن ايقاع الرعب في القلوب بالقذف لعلَّه لغرض التشبيه للرعب والهلَع الذي ينتاب القلب بالحجر أو السهم الذي يقذفه الرامي فيُصيب به قلب عدوِّه أو بعض مقاتله، ففي المقام استعارة مكنية بحسب اصطلاح البلاغيين، إذ أنَّ هنا تشبيهاً للرعب بالسهم الذي يقع في القلب، فالمشبَّه به وهو السهم الواقع في القلب لم يذكر وإنَّما استُعيرت إحدى خواصِّه وهي القذف فذُكرت للدلالة عليه، وكون القذف من خواصِّ السهم الواقع في القلب ناشئ عن أنَّه لا يقعُ في القلب غالباً إلا بواسطة القذف.

 

وأمَّا وجه الشبه بين الرعب الذي ينتاب القلب وبين السهم هو أنَّ كلاً منهما إذا أصاب القلب فإنَّه يُفضي إلى هلاك ذي القلب أو إعطابه وعجزه عن المقاومة.

 

وقد يكون منشأ التعبير عن إيقاع الرعب في القلب بالقذف هو أنَّ الرعب ينشأ عن رسائل خاطفة وسريعة يتلقَّاها القلب من العقل بأنَّ خطراً مُحدق بك فينتج عن ذلك شعورُ القلب بالهلَع والخوف. فهذه الإشارات المُرسَلة والسريعة أشبه شيءٍ في سرعتها وأثرها بالسهام المرسَلة . فلعلَّ هذا هو ما صحَّح التعبير عن إيقاع الرعب في القلب بالقذف.

 

ثم إنَّ القرآن الكريم أخبر عن أنَّ الله تعالى عذَّب أقواماً بالقذف إلا أنَّه لم يُعبِّر عنه بالقذف وإنَّما عبَّر عنه بالرمي والحصب بالحجارة. كما في قوله تعالى: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ..﴾(15).

 

وكما في قوله تعالى حكايةً عمَّا فعله بأصحاب الفيل: ﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ / تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ / فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ﴾(16).

 

وكذلك ما فعله بقومِ لوط حيث حَصَبهم بحجارةٍ من سجِّيلٍ منضودٍ كما أفاد القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ / مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾(17).

 

وقوله تعالى: ﴿فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ﴾(18).

 

وقوله تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ / لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ﴾(19).

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة البقرة / 65.

2- سورة الأعراف / 166.

3- سورة المائدة / 60.

4- سورة يس / 67.

5- سورة النحل / 45.

6- سورة الإسراء / 68.

7- سورة القصص / 81.

8- سورة العنكبوت / 40.

9- سورة القصص / 81.

10- سورة الصافات / 6-10.

11- سورة الحشر / 2.

12- سورة الأحزاب / 26.

13- سورة الحجر / 18.

14- سورة الجن / 9.

15- سورة العنكبوت / 40.

16- سورة الفيل / 3-5.

17- سورة هود / 82-83.

18- سورة الحجر / 74.

19- سورة الذاريات / 32-33.