كيف تجتمع رحمةُ الرسول ودعاؤه على البعض بالهلاك؟!

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

النبيُّ (ص) وكذلك أهل البيت (ع) مظهرٌ لرحمة الله تعالى، وهذا معناه أنَّ أفعالهم كلها يجب أنْ تكون مناسبة لرحمة الله تعالى، فكيف تجتمع رحمتُهم مع دعائهم على بعض الناس بالهلاك؟! أليس ذلك من التناقض؟!، فهم مظهرٌ لرحمة الله تعالى وفي ذات الوقت يفعلون ما يُنافي الرحمة؟!

 

الجواب:

الرسول الكريم (ص) وكذلك سائر المعصومين (ع) وإنْ كانوا مظهراً لرحمة الله تعالى لكنَّهم كذلك مظهرٌ لعدلِ الله وحكمته، فلو كان الدعاءُ على الطغاة الظالمين منافٍ لِما عليه الرسول (ص) من الرحمة لكان إهلاك الظالمين من قِبَل الله تعالى منافٍ لرحمته غير المتناهية.

 

والقرآنُ المجيد قد أفاد في آياتٍ كثيرة أنَّ اللهَ تعالى قد أهلَكَ الكثير من الطغاة الظالمين بعد أنْ أقام عليهم الحجَّة البالغة، فأهلكَ فرعون وهامان وقارونَ وقومَ نوحٍ وعادٍ وثمود وغيرهم ممَّن أعذَر في اقامةِ الحجَّةِ عليهم ولكنَّهم بعد أنْ عتوا وتمرَّدوا وأصبح وجودُهم عائقاً دون انتشار الهدى والعدلِ والخير والصلاحِ صار من العدل والحكمة إهلاكُهم، فبقاؤهم يدفعُهم للمزيد من البغي والظلم للناس وللمزيد من اتَّساع دائرة الضلال لذلك أهلكَهم بعد أنْ أملى لهم واستدرجهم طويلاً.

 

ومن هنا نفهمُ معنى قولِه تعالى على لسان نبيِّه نوحٍ (ع): ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا / إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾(1) فنوحٌ (ع) كان من أجلى مظاهر الرحمة الإلهيَّة، صبرَ على قومه قُرابةَ الألف عام لكنَّه حين وجد أنَّه لا يُرجى لهم هداية وأنَّ بقاءهم لن يُنتج إلا المزيد من الطغيان والضلال، حين وجد ذلك تجلَّت فيه حكمةُ الله وعدلُه ورحمتُه بالمستضعفين من الناس الذين سيكون بقاءُ هؤلاءِ الطغاة سبباً في ضلالِهم أو عائقاً دون صلاحِ شأنِهم لذلك دعا عليهم، ولذلك استجاب اللهُ دعاءَه فأرسلَ عليهم الطوفان فدمَّرهم عن آخرهِم، فهل كان تدميرُه لهم منافٍ لرحمته جلَّ وعلا؟!

 

فرحمةُ الرسول (ص) لن تكون مباينةً لرحمة الله تعالى، فإذا كانت رحمةُ الله لا تُنافي عدله وحكمته ونقمته على الظالمين فكذلك لن يكون دعاءُ النبيِّ (ص) على الطغاة بالهلاك منافٍ لرحمتِه التي هي مظهرٌ لرحمة الله تعالى.

 

فالرحمةُ والعدالةُ والحكمةُ وغيرها من سجايا الخير كمالاتٌ لا تَنافيَ بينها، ولكلٍّ من هذه الكمالات موضعُها ومحلُّها، فالرحمةُ إنَّما تكون كمالاً حين تُوضع في موضعِها، أمَّا إذا وُضعت في غيرِ موضعها فإنَّها لا تكون كمالاً ولا مُستحسنة ولا يَحمدُها العقلاء لمنافتها حينذاك للحكمةِ أو العدالة، ولذلك أوصى القرآنُ مثلاً بأقامة حدِّ الزنا على الزاني والزانية ثم قال: ﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ﴾(2) فنهيُه عن الرأفة في المقام إنَّما نشأ عن كونِها في غير موضعِها فتكون لذلك منافيةً للحكمة.

 

وخلاصة القول: إنَّ الرحمة لا تكون كمالاً ومُستَحسنة في كلِّ شأنٍ وفي كلِّ موردٍ بل هي مذمومةٌ ومُستهجَنة إذا وُضعت في غير موضعِها، كما إنَّ الشدَّة ليست مذمومةً على كلِّ حالٍ بل هي من مقتضيات الحكمة والعدالة إذا وُضعت في موضعِها، ولذلك وصفَ اللهُ تعالى نفسَه بشديد العقاب وشديدِ المِحال قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(3) وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾(4) وقال تعالى: ﴿وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾(5) فهو شديدٌ في الموضع الذي تقتضي الحكمةُ والعدالةُ فيه الشدَّة، وهو رحيمٌ يغفرُ الذنبَ ويعفو عن السيئات في الموضع الذي تليقُ به الرحمة يقولُ تعالى: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ﴾(6).

 

وقد مدح القرآنُ الكريمُ المؤمنين الذين كانوا مع رسول الله (ص) بالأشدَّاء والرحماء في ذاتِ الوقت، قال تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾(7) وقد أمرَ اللهُ نبيَّه (ص) بمجاهدة الكافرين المحاربين والغلظةَ عليهم وعلى المنافقين، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾(8).

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة نوح / 26-27.

2- سورة النور / 2.

3- سورة البقرة / 196.

4- سورة آل عمران / 4.

5- سورة الرعد / 13.

6- سورة غافر / 3.

7- سورة الفتح / 29.

8- سورة التحريم / 9.