هل يخافُ المرسَلون؟!

المسألة:

ما تفسيرُ الآية الكريمة ﴿وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾(1) ممَّن خاف النبيُّ موسى (عليه السلام).

وإذا كان قد خاف من الثعبان الذي يتحرَّك كأنَّه جان فهل الأنبياء يخافون؟ هل لديهم صفات بشريَّة مثلما لدى الناس العاديين مثل غريزة الخوف وغيرها من الغرائز.

الجواب:

المستظهَر مِن مساق الآية المباركة أنَّ الذي خاف منه موسى (ع) هو ما وجدَه من تحوُّل العصا إلى حيَّة تهّتزُّ كأنَّها جان، حيث إنَّها أي الآية المباركة أفادتْ أنَّ فرار موسى (ع) كان قد ترتَّب عن رؤيتِه للعصا وقد تحوَّلت إلى حيَّةٍ تهتزُّ كأنَّها جان، وهذا هو ما يُصحِّح استظهار أنَّ فرار موسى كان بسبب رؤيتِه لذلك، ولا معنى لفرارِه حينئذٍ سوى الخوف، ويؤكِّد هذا الاستظهار الخطابُ الذي توجَّه إليه من الجليل جلَّ وعلا أنْ ﴿.. يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾(2).

والخوف الذي انتاب موسى (ع) إنَّما كان انسياقًا مع مقتضى الطبيعة الإنسانيَّة حينما يُفاجئها محذورٌ خصوصًا إذا لم يكن ثمة من سبيلٍ إلى دفع ذلك المحذور إلا بالفرارِ منه.

فما وقع فيه موسى (ع) من خوفٍ لا ينتقص من مقامِه السامي، إذ لا يُعبِّر ذلك عن الجُبن، فالهلعُ الذي ينتاب الجبان لا ينتهي بانتهاء عنصر المفاجئة، كما أنَّ الجبان ينتابُه الهلع حتى في الموارد غير المقتضية له، و الجبان يفرُّ من المحاذير حتى وإن كان قادرًا على دفعِها أو كان التعقُّل أو التكليف يقتضيان عدم فرارِه.

فالفرار الذي وقع من موسى (ع) لم يكن جُبنًا وإنَّما كان انسياقًا مع مقتضى طبيعة الإنسان عند ما يُفاجئه أمرٌ لم يكن مُنتظَرًا، والذي يُعبِّر عن ذلك أنَّ موسى (ع) بمجرَّد تطمين اللهِ تعالى له ودعوته له بالإقبال فإنَّه بادرَ إلى ذلك وامتثل الأمر بأخذ العصا التي تحوَّلت إلى حيَّة، ومثل ذلك لا يصدرُ عن المبتلى بالجُبن.

وأمَّا أنَّ الأنبياء (ع) لا ينتابُهم الخوف لقولِه تعالى: ﴿.. إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾(3) فالظاهر أنَّها ليست بصدد نفي مطلق الخوف عن المرسَلين، وذلك بقرينة تقييد النفي في الآية المباركة بقوله تعالى: ﴿لَدَيَّ﴾.

وهذا التقييد يحتملُ أحد معنيين:

الاحتمال الأول: إنَّ الخوف المنفي عن الأنبياء هو الخوف المتعلَّق بنقمةِ الله عزَّ وجلَّ، فالأنبياءُ لا يخافون من نقمة الله جلَّ وعلا، وذلك لأنَّهم مبرءون من كلَّ قبيحٍ يستوجبُ النقمة الإلهيَّة، فلأنَّ موسى (ع) كان يُدرِكُ أنَّ ما شاهده من تحوُّل العصا إلى حيَّة إنَّما كان من فعل اللهِ عزَّ وجلَّ حيث إن مَن أمره بإلقاء العصا هو اللهُ تعالى، وقبل ذلك كان قد أمره بأنْ يخلَع نعليه فهو في الوادِ المقدس، وأخبره أنَّه اللهُ ربُّ العالمين، فلم يكن لموسى (ع) أنْ يرتاعَ مِن تحوَّل العصا إلى حيَّةٍ وكأنَّه يخافُ سُوءً يفعلُه اللهُ به.

فمعنى الآية المباركة بناءً على هذا الاحتمال أنَّ المرسَلين لا يخافون أنْ يُسيء اللهُ إليهم أو ينتقم منهم، وهي أي الآية في الوقت الذي تحكي هذا الواقع عن المرسَلين تستبطنُ التطمين والتأمين لموسى (ع) فلأنَّه سوف يكون في ركب المرسَلين إذن لا بدَّ وأنْ يكون مُطمئنًا غيرَ خائفٍ من أيَّ مكروه، يُوقِعه اللهُ تعالى به، ولأنَّ هذه الملَكة وهذه الحالة من الطمانينة ليست ذاتيَّة للأنبياء والمرسَلين بل هي مُكتسبة من تعليم الله تعالى وإلهامِه لذلك جاء الخطابُ الإلهيُّ ليُلقيَ في رَوْع موسى (ع) السكينةَ والطمانينة من مكرِ الله ونقِمَتِه فيتأهَّل بذلك للمقام الذي عليه الأنبياءُ والمرسَلون أعني الاطمئنان بأنْ لا يقصده اللهُ تعالى بسوءٍ ولا مكروه.

والذي يؤكِّد أنَّ الآيةَ المباركة كانت تستهدفُ التطمينَ لموسى (ع) والتسكين لفؤاده - بالإضافة إلى حكايتِها لِما عليه الأنبياء من واقع - هو ما ورد في سورة القصص أعني قولَه تعالى: ﴿.. يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ﴾(4).

الاحتمال الثاني: إنَّ الخوف المنفي عن الأنبياء هو حينما يكونون في محضر الله تعالى يُخاطبُهم ويُوحِي إليهم، فهم حينذاك لا يخافون شيئًا، ولأنَّ موسى (ع) كان في محضر الله تعالى يُخاطبُه ويوحِي إليه لذلك كان عليه أنْ لا يُولِّي مدبرًا حين مشاهدتِه لتحوُّل العصا إلى حيَّةٍ تهتزُّ كأنَّها جان.

إلا أنَّ المبرِّر لفرارِه أنَّ حالة الاطمئنان التام الذي يكون عليها الأنبياء حين مخاطبة الله تعالى لهم ليست ذاتيَّة للأنبياء وإنَّما هي مكتسبة بتعليم الله وإلهامِه لذلك جاء الخطاب الإلهيُّ ليمنحَه هذه الملكة.

وعلى أيِّ تقدير فسواءً استظهرنا المعنى الأول من الآية المباركة أو المعنى الثاني فإنَّ الآية لا دلالة لها على نفي الخوف المُطلق عن الأنبياء (ﻉ).

نعم الذي لا يجوز على الأنبياء بنحوٍ مطلق هو ما يُعبَّر عنه بالخشية والتي تعني اضطراب القلب وتوجُّسه الناتج عن استعظام المحاذير الدنيويَّة والمُستلزِم للتلكُّؤ وعدم التصدِّي والمواجهة لِما هو مخوفٌ عند عموم الناس.

قال تعالى: ﴿.. الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ..﴾(5).

الخوف بمعنى الحذر ليس نقصاً:

أمَّا الخوف الذي يعني الحذر والأخذ بأسباب التحرُّز عن الوقوع في المخاطر فهذا لا يُعدُّ نقصًا حتى ننزِّه الأنبياء عن الاتِّصاف به، نعم الحذر غير المبرَّر لا يتَّصفُ به الأنبياء إلا أنَّ ذلك ليس خوفًا بل هو من الجُبن المُستقَبح.

هذا وقد جاء في الروايات الواردة عن الرسول (ص) وأهل بيته (ﻉ) ما يُعبِّر عن حسن الحذر والذي هو الخوف الجائز صدورُه عن الأنبياء.

فمن هذه الروايات: ما ورده في كتاب التوحيد للشيخ الصدوق (رحمه الله) بإسناده إلى الأصبغ بن نباته قال: إنَّ أمير المؤمنين (ع) عدل من عند حائطٍ مائل إلى حائطٍ آخر فقيل له: يا أمير المؤمنين أتفرُّ من قضاء الله؟ فقال (ع): أفرُّ من قضاء الله إلى قدر الله عزَّ وجلّ(6).

ومنها: ما أورده الشيخ الصدوق في الأمالي وغيره بإسناده إلى الإمام الصادق عن آبائه قال: قال رسول الله (ص) ".. فِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد"(7).

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: شؤون قرآنية

الشيخ محمد صنقور


1- سورة النمل / 10.

2- سورة النمل / 10.

3- سورة النمل / 10.

4- سورة القصص / 31.

5- سورة الأحزاب / 39.

6- التوحيد -الشيخ الصدوق- ص369، الاعتقادات في دين الإمامية -الشيخ الصدوق- ص35.

7- الأمالي -الشيخ الصدوق- ص378، الخصال -الشيخ الصدوق- ص520.