هل اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ (ع) بالقدوم؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

شيخنا الجليل: ما رأيكم فيما يُروى عن النبيِّ (ص) في تفسير الوسيط للواحدي: "اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ بِالْقَدُومِ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ.

 

وأشارت رواياتٌ أخرى إلى أنَّ نبيَّ الله إبراهيم (ع) هو أولُ من اختتنَ، وهذا ينفى الختانَ عن بقيَّة الأنبياء والأوصياء قبله (ع). فما هو رأيكم في ذلك؟

 

الجواب:

الرواية المذكورة وردت من طرق العامَّة بأسنادٍ صحيحةٍ عندهم عن أبي هريرة لكنَّه اختلف مضمونها من جهتين:

 

الجهة الأولى: في تحديد العمر الذى اختتنَ فيه ابراهيم (ع)، ففي مثل صحيحي البخاري ومسلم: أنَّ ابراهيم اختتن بالقدوم وهو ابنُ ثمانين سنة، فقد روى مسلم في صحيحه بسندِه عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله (ص): "اختتن إبراهيم النبيُّ (ع) وهو ابنُ ثمانين سنة بالقدوم"(1) وكذلك رواه البخاري في صحيحه في كتاب بدء الخلق بعين الألفاظ المذكورة في صحيح مسلم، واختلف اللفظ في كتاب الدعوات من صحيح البخاري فقال بعد ذكر السند عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): "اختتن إبراهيم (ع) بعد ثمانين سنة، واختتن بالقدوم"(2) ولعلَّ المراد من البعدية هو انَّه اختتن بعد أن أتمَّ ثمانين سنة فلا منافاة بين لفظي الرواية.

 

والمنافي لما ورد في مثل صحيحي البخاري ومسلم هو ما رواه مثل ابن حبَّان في صحيحه بسندِه عن سعيد بن المسيَّب عن أبي هريرة: أنَّ النبيَّ (ص) قال: "اختتن إبراهيم بالقدوم وهو ابن عشرين ومئة سنة، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة"(3).

 

فالرواية مختلفة فيما هو العمر الذي اختتن فيه ابراهيمُ (ع) فهل كان عمرُه حينذاك ثمانين سنة أو كان عمره مئة وعشرين سنة؟!

 

مدلول القدوم يختلف بناءً على التشديد والتخفيف للدال:

الجهة الثانية: في لفظ القدوم هل دالُه مشدَّدة أو هي مخفَّفة، فبعضُهم رواها مشدَّدة، والبعض الآخر رواها مخفَّفة، يقول العيني في كتابه عمدة القاري: "والأكثرون على التخفيف"(4).

 

فبناءً على التشديد يكون المراد من لفظ القدوم هو المكان الذي وقع فيه الختان، فقيل إنَّ القدُّوم اسم قرية في الشام، وقيل في حلب، وقيل هو اسم جبل في المدينة على بُعد أميالٍ منها، وقيل غير ذلك، وبناءً على التخفيف يحتمل لفظ القدوم معنيين، الأول هو اسم المكان الذي وقع فيه الختان، والثاني هو اسم الآلة التي استُعملت في الختان، وهي آلة النجار التي يستعملها للنحت وشبهه، وقد يُعبَّر عنها بالفأس أيضاً، والمعنى الأخير هو الذي يُرجِّحه أكثرُهم، فيكون حاصل المراد من الرواية هو أنَّ إبراهيم الخليل (ع) ظلَّ دون ختان إلى أنْ بلغ عمره الشريف ثمانين سنة أو مئة وعشرين سنة ثم إنَّه اختتن بالآلة التي يستعملُها النجار لنحت الأخشاب وتقطيعها والمسماة بالقدوم بتخفيف الدال، وذكر بعضُ اللغويين أنَّ: "التشديد لغةٌ ولكنَّها ضعيفة" أي أنَّه قد يُطلق القدُّوم بالتشديد على آلة النجَّار ولكنَّ ذلك لغةٌ ضعيفة.

 

اختتان إبراهيم بالقدوم لم يثبت عندنا بطريق معتبر:

هذا ما ورد من طرق العامَّة، وأمَّا ما ورد من طرقِنا فروايةٌ وردت في الكتاب المنسوب لمحمد بن محمد بن الأشعث المسمَّى بالجعفريَّات بسنده عن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه (ع) عن عليٍّ (ع) قال: "أول مَن قاتل في سبيل الله إبراهيم (ع) -إلى أن قال:- وأولُ مَن اختتن إبراهيم، اختتن بالقدوم، على رأس ثمانين سنة من عمره"(5).

 

وأورد هذه الرواية الرواندي في النوادر بذات السند، والرواية ضعيفةُ السند لأكثر من وجه، ولذلك لا يُعوَّلُ على مثلِها، ولا يبعد أنَّها أُخذت من روايات العامَّة، ويُؤيِّد سقوط هذه الرواية عن الاعتبار -وكذلك سقوط ما ورد من طرق العامَّة- أنَّه ورد التكذيب صريحاً لمضمونها في الكافي للكليني بسنده عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَزَعَةَ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه (ع): إِنَّ مَنْ قِبَلَنَا يَقُولُونَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ (ع) خَتَنَ نَفْسَه بِقَدُومٍ عَلَى دَنٍّ؟ فَقَالَ (ع): سُبْحَانَ اللَّه لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ كَذَبُوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (ع) قُلْتُ: وكَيْفَ ذَاكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ الأَنْبِيَاءَ (ع) كَانَتْ تَسْقُطُ عَنْهُمْ غُلْفَتُهُمْ مَعَ سُرَرِهِمْ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ .."(6).

 

فمفاد الرواية هو التكذيب صريحاً لدعوى أنَّ إبراهيم (ع) اختتن بنفسه، والتكذيب لدعوى أنَّه اختتن في عمر الثمانين، وهي تقتضي التكذيب لدعوى أنَّه اختتن بالقدوم سواءً كان المراد من القدوم هو الآلة أو كان المراد منه المكان.

 

وسند الرواية إلى الحسن بن محبوب صحيح ولكنَّ محمد بن قزعة مجهول، فالرواية ضعيفةُ السند به، نعم هي معتبرة على بعض المباني إلا أنَّه حتى مع البناء على عدم صحة سندها فإنَّها صالحة لتأييد النفي لدعوى أنَّ ابراهيم (ع) اختتن بالقدوم وهو ابنُ ثمانين سنة، ويؤيِّد النفي لهذه الدعوى ما ورد في علل الشرائع وعيون أخبار الرضا (ع) للشيخ الصدوق بسنده عبد الله بن أحمد بن عامر الطائي، عن أبيه، عن الرضا (ع)، عن آبائه، قال: سأل الشامي أمير المؤمنين (ع) عمَّن خلق الله عزَّ وجل من الأنبياء مختوناً، فقال: خلق الله عزَّ وجلَّ آدم مختوناً، ووُلد شيث مختوناً، وإدريس ونوح وسام بن نوح وإبراهيم وداود وسليمان ولوط وإسماعيل وموسى وعيسى ومحمد (ص) وسأله عن أول مَن أُمر بالختان؟ فقال: إبراهيم (ع) "(7).

 

معنى أنَّ الختان من سنن إبراهيم (ع):

فهذه الرواية ورواية الكافي تنفيان أنَّ إبراهيم (ع) اختتن بنفسه بالقدوم، نعم هو أول من أُمر بالختان كما هو مفاد رواية العلل والعيون عن الرضا(ع) وهو كذلك مفاد رواية الكليني، فقد ورد في تتمَّتها أنَّ الله تعالى أمر ابراهيم (ع) بعد أنْ رزَقَه بإسحاق أنْ يختنه قال: ".. فَاخْتِنْ إِسْحَاقَ بِالْحَدِيدِ وأَذِقْه حَرَّ الْحَدِيدِ، قَالَ: فَخَتَنَه إِبْرَاهِيمُ (ع) بِالْحَدِيدِ، وجَرَتِ السُّنَّةُ بِالْخِتَانِ فِي أَوْلَادِ إِسْحَاقَ بَعْدَ ذَلِكَ"(8)، فتشريع الختان بدأ -بمقتضى هاتين الروايتين ورواياتٍ أُخرى عديدة- بدأ في عهد نبيِّ الله ابراهيم (ع) وليس معنى ذلك أنَّه أُمر بختان نفسه بل معنى ذلك أنَّ أول نبيٍّ كُلِّف بتشريع الختان للذكور هو ابراهيم (ع)، ولذلك يقال أنَّ الختان من سنن إبراهيم (ع).

 

منشأ استبعاد الاختتان بالقدوم:

وكيف كان فدعوى أنَّ إبراهيم (ع) ختنَ نفسه بالقدوم وهو ابنُ ثمانين لم تثبت عندنا نحن الإماميَّة، وذلك لضعف سند الرواية المتضمِّنة لهذه الدعوى والمنسوبة للرسول الكريم (ص) وكذلك لضعف سند الرواية المنسوبة لعليٍّ أمير المؤمنين (ع) ويتأيَّد الضعفُ بما ورد من تكذيبٍ صريح لهذه الدعوى في رواية الكافي كما يتأيَّد بنكارة هذه الدعوى بناءً على أنَّ المراد من القدوم هي آلة النجار، فإنَّه لو قبلنا -جدلاً- أنَّ ابراهيم (ع) ختن نفسه وهو ابن ثمانين فإنَّ من المُستبعَد أنْ يختتن بالقدوم فإنَّ هذه الآلة لا تُستعمل لمثل ذلك، فإنَّ استعمالها لمثل هذا الغرض لا يصدرُ عن عاقلٍ يحتاطُ لعواقب الأمور فكيف نقبلُ ذلك على ابراهيم (ع) شيخِ الأنبياء وقد بلغ الثمانين وخَبِرَ الحياة، خصوصاً مع الإحراز لوجود البدائل كالشفرة والسكين كما يظهر ذلك من فداء اسماعيل ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾(9) ويظهر ذلك ممَّا ورد عند الفريقين: أنَّ من سُنن ابراهيم (ع) الحلْق والتقليم للأظفار، فاستعمال القدوم -وهي الآلة القاسية التي تُقطَّع بها الأشجار والأخشاب- لقطع جلدةٍ رقيقةٍ في موضعٍ هو غايةٌ في الحساسيَّة، استعمالُ هذه الآلة لهذا الغرض مع وجود البدائل لا يُمكن القبول بصدوره من إبراهيم (ع)، ويُؤيِّد الاستبعاد ما ذكرتْه رواياتُ العامة من وقوع إبراهيم (ع) في الأذى وانَّه اشتدَّ عليه الوجع(10) فشكى ذلك إلى ربِّه فعاتبه على استعجاله واستعماله لهذه الآلة قبل أنْ يُوحِي إليه ربُّه ويُرشده إلى الآلة التي ينبغي له استعمالها للختان، فإنَّ ذلك يؤكِّد أنَّ استعماله- لو وقع- للقدوم في الختان لم يكن مبرَّراً، وكذلك يؤكِّد أنَّ ثمة بدائل كان بإمكانه استعمالها، فهل يخفى على مثل ابراهيم (ع) وهو مِن أنبياء أولي العزم وقد بلغ الثمانين، هل تخفى عليه هذه البدائل؟! وهل ينقصُّه التأنِّي لو كان الأمر بحاجةٍ إلى وحيٍ واسترشادٍ من الله جلَّ وعلا؟!!

 

تبريرات واهية لاستعمال القدوم في الختان:

وتبرير ذلك بأنَّه تعجَّل الامتثال لأمر الله تعالى لا يرفع النكارةَ والاستيحاش من الدعوى المذكورة، فإنَّ العاقل إذا خُوطب بأمرٍ فإنَّه يُدرك أنَّ امتثاله يتمُّ بالوسائل والأدوات المناسبة، وفي فرض الجهل بما هي الأدوات والوسائل المناسبة فإنُّه يسأل عن ذلك، فلو أُمر العاقل من قِبل مَن له الأمر بأن يغتسل بالماء فلم يجد هذا العاقل أمامه سوى ماءٍ شديد الغليان فإنَّه لا يُبادر للاغتسال به، فهو إمَّا أنْ يقوم بتبريده أو يبحث عن ماءٍ آخر، فلو أقدم على الاغتسال به والإيذاء لنفسه لاستحقَّ اللوم من العقلاء ولم يُقبَل تبريره لما فعل بأنَّه أراد التعجُّل في الامتثال، فإنَّ مَن له الأمر وكذلك العقلاء سيُجيبون عن تبريره بأنَّ الأمر الذي خُوطب به ظاهرٌ بل صريحٌ في الدعوة لامتثاله بالوسائل المناسبة، فالأمرُ لم يكن لغرض التعذيب والإيقاع في المشقَّة، فهل ينقصُ ابراهيم الخليل (ع) -وهو ابن ثمانين وشيخ الأنبياء- الإدراك لهذه البديهة؟! وهل البحث عن وسيلةٍ أُخرى غير الفأس ينافي التعجُّل في الامتثال؟! وهل كان وجود مثل الشفرة والسكين عزيزاً فيضطر إبراهيم (ع) لاستعمال القدوم في الختان؟! ألم يرد في الروايات أنَّه كان مضيافاً يذبح الذبائح لضيوفه وللفقراء؟ فالوسائل المناسبة للختان كانت متاحة.

 

ودعوى أنَّ الختان لم يكن مسبوقاً لذلك لم يكن إبراهيم (ع) يعرف الوسيلة لإيقاعه، هذه الدعوى قد اتَّضح وهنها، فإنَّ كلَّ من له أدنى عقل يُدرِكُ أنَّ مِن غير المناسب بل من السفَه إزالة جلدةٍ رقيقة في موضع حسَّاس بواسطة القدوم الذي تُقطَّع به الأشجار والأخشاب القاسية، فإذا لم يكن إبراهيم عارفاً بالوسيلة المناسبة رغم شيخوخته وخبرته وحدَّة ذكائه فلا أقل من أنَّه مُدرِكٌ لسفهيَّة استعمال الفأس للختان، فعدم المعرفة لا تدفع العقلاء للمجازفة وإنَّما تدفعهم للاسترشاد.

 

وما يُقال من أنَّ إبراهيم (ع) لم يستعمل القدوم في الختان من مقبضه وإنَّما أمسكه من طرفه فجوابه مضافاً إلى أنَّ ذلك من التحكُّم دون دليل فإنَّه لو فعل ذلك فهو لا يُجدي في رفع النكارة والاستيحاش العقلائي من الفعل خصوصاً مع ملاحظة تقارب النتيجة والأثر في الطريقتين، فإنَّ شفرة القدوم بمقتضى طبيعة الغرض الذي صُنع له تكون غليظة لتفعل أثرها في تقطيع ونحتِ الأشجار والأخشاب، وهذا بخلاف شفرة مثل السكين الصغيرة والمواسي فإنَّها تكون رقيقة، ولذلك حين يتمُّ الضغط بالقدوم على الجلد ولو بإمساك طرفه فإنَّه يُحدِثُ شرخاً بيِّناً في الجلد حتى لو كان الضغط بمستوى الغمز، على أنَّ غلظة شفرته وهيئتها تقتضيان عادة اصابة ما يزيد على الموضع المُراد خصوصاً مع ملاحظة أنَّ الموضع المُراد قطعه دقيقٌ ورقيقٌ ومحيطٌ بما يحرص العاقل على عدم انقطاع شيءٍ منه. فلا ريب في أنَّ استعمال القدوم على أيِّ تقدير مستوحَشٍ وغير مناسبٍ للختان، ولا ريبَ أنَّ العقلاء يُسفِّهون كلَّ مَن أقدم على مثل ذلك.

 

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه هو أنَّ نكارة الدعوى وضعفَ سندِ الرواية المتضمِّنة لها وإنْ وردت في الصحيحين عندهم مضافاً إلى ما ورد في الكافي من تكذيبٍ صريحٍ لها ومنافاتها لما ورد من أنَّ ابراهيم كان مختوناً، كلُّ ذلك يؤكِّد أنَّ الرواية المتضمِّنة لدعوى أنَّ إبراهيم (ع) اختتن بالقدوم هي من وضع بعض الرواة.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج7 / ص97.

2- صحيح البخاري -البخاري- ج7 / ص144.

3- صحيح ابن حبان -ابن حبان- ج14 / ص84.

4- عمدة القاري -العيني- ج15 / ص246.

5- مستدرك الوسائل -ميرزا حسين النوري الطبرسي- ج15 / ص151.

6- الكافي -الشيخ الكليني- ج6 / ص35.

7- علل الشرائع -الشيخ الصدوق- ج2 / ص594، عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج1 / ص219.

8- علل الشرائع -الشيخ الصدوق- ج2 / ص506.

9- سورة الصافات / 107.

10- السنن الكبرى للبيهقي: (أخبرنا) أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمر وقالا ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا محمد بن عبيد الله ثنا أبو عبد الرحمن المقرى ثنا موسى بن علي قال سمعت أبي يقول إن إبراهيم خليل الرحمن أمر أن يختتن وهو ابن ثمانين سنة فعجل فأختتن بقدوم فاشتد عليه الوجع فدعا ربَّه فأوحى الله إليه أنك عجلت قبل أن نأمرك بالآلة قال: يا رب كرهت ان أؤخر أمرك .." ج8 / ص326.