هل روى المرتضى تأبين عليٍّ (ع) لعمر؟!

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

نسَبَ أحدُ الكتاب إلى السيد المرتضى علم الهدى انَّه روى في كتابه الشافي عن الإمام علي (ع) انَّه قال -حين وُضعت جنازة عمر عند شفير قبره- مقولته المشهورة ودموعه تنهمر: "إنِّي لأرجو الله أن يُلحقك بصاحبيك رسول الله (ص) وأبي بكر، فطالما سمعتُ رسول الله (ص) يقول: دخلتُ أنا وأبو بكر وعمر، خرجتُ أنا وأبو بكر وعمر، صعدتُ أنا وأبو بكر وعمر، أكلتُ أنا وأبو بكر وعمر، وإني أرجو الله أن يلحقك بصاحبيك، ثم التفت إلى الصحابة، وهم على شفير القبر فقال: والله ما أحب أن ألقى الله بأكثر مما في صحيفة هذا المسجى" ونسبها كذلك إلى الشيخ الطوسي في تلخيص الشافي للطوسي، فهل صحيح ان السيد المرتضى روى انَّ الإمام علي (ع) قال ذلك في حقِّ عمر؟

 

الجواب:

هذا من التضليل والتدليس على القارئ، فإنَّ السيد المرتضى وإنْ أورد في كتابه الشافي في الإمامة ما نُسب إلى أمير المؤمنين عليٍّ (ع) انَّه قال: "ما على الأرض أحد أحبُّ إليَّ أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجَّى بين أظهركم"(1) أو "وددتُ أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجَّى"(2) فالسيد المرتضى وإنْ أورد في كتابه هذا القول المنسوب لأمير المؤمنين (ع) لكنَّه إنَّما أورده في سياق الردِّ على هذه النسبة ولم يُورده متبنِّياً لصدوره عن أمير المؤمنين (ع)، وفرق بين ايراد الشيء لغرض الردِّ عليه وتفنيده وبين ايراده في سياق التبنِّي له، وقد تعارف بين المصنِّفين نقلُ أقوال الكفار والملاحدة ثم الردُّ عليها، وكذلك تعارف بين أصحاب وأتباع المذاهب نقلُ بعضِهم لأقوال بعض في سياق الردِّ عليها، فهم ينقلونها كما هي ثم يتصدَّون لمناقشتها، فهل يسوغ لمنصفٍ يحترم عقله أن ينسب لأحدٍ الكفر أو التبنِّي للكفريات لمجرَّد انَّه نقل أقوال الكفار في مقام الردِّ عليها؟!! وهل يسوغ لمنصفٍ يخشى اللهَ واليومَ الآخر أنْ ينسب لأحدٍ التبنِّي لقولٍ أو رأيٍ لمجرَّد انَّه نقل ذلك القول أو الرأي في سياق الردِّ عليه وتفنيده؟!!

 

فالكاتبُ المدَّعي للفِرية المذكورة يُدركُ جيداً انَّه لا يحقُّ لأحدٍ يحترمُ عقلَه ويخشى ربَّه أنْ يجترح مثل هذه الجناية العلميَّة المنافية لأبسط مبادئ المِهنيَّة لكنَّه الهوى المذهبي والمراهنة على عدم مراجعة القارئ للمصدر الذي أحال عليه أو عدم العثور عليه، وغفِل هذا المسكين عن انَّ الكذب على جُرفٍ هارٍ، فما أسهل أن يُفتضح الكاذب خصوصاً في الوقت الراهن.

 

فكتابُ الشافي للسيِّد المرتضى في متناول اليد لا يعسرُ على مَن طلبه الوقوف عليه للتثبُّت من صحَّة ما نسَبَه إليه هذا الكاتب، وحتى يتبيَّن للقارئ تعمُّد هذا الكاتب للكذب على السيِّد المرتضى والشيخ الطوسي الذي لخَّص الكتاب نبيِّن أولاً موضوع كتاب الشافي وغرض السيِّد المرتضى من تأليفه وننقل ثانياً النصَّ الذي أورد السيِّدُ المرتضى الروايةَ في سياقه ليتبيَّن للقارئ انَّ السيَّد المرتضى لم يُورِد الخبر المنسوب لعليِّ (ع) بقصد التبنِّي لصدورِه وإنَّما نقلَه في سِياق الردِّ على نِسبتِه لعليٍّ (ع) وعدم صلاحيَّته لإثبات دعوى العامَّة.

 

موضوع كتاب الشافي والغرضُ من تأليفه:

أمَّا موضوع كتاب الشافي فهو مسألة الإمامة، وأما الغرضُ من تأليفِه فهو الإحتجاج على صحَّة ما يعتقدُه الشيعة الاماميَّة في مسألة الإمامة والتركيز على مناقشة ونقض ما يحتجُّ به العامَّة على نفي ما يعتقدُه الشيعة الإماميَّة في الإمامة ويتَّضح ذلك من اسم الكتاب فاسمُه (الشافي في الإمامة وابطال حجج العامَّة) ودائرةُ مباحثِه -كما يتضح جليَّاً من ملاحظة تضاعيف الكتاب- تتمحورُ حول نقض ما أورده القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه المغني في الإمامة، فالسيد المرتضى ينقل نصَّ ما أورده القاضي عبد الجبار المعتزلي من احتجاجات وروايات العامَّة ثم يتصدَّى لنقضها والردِّ عليها بحسب ما يراه السيِّد المرتضى ناقضاً وصالحاً للردِّ على احتجاجات القاضي عبد الجبار، فالروايةُ التي نَسبَ الكاتبُ للسيِّد المرتضى روايتَها له هي ممَّا احتجَّ به القاضي عبد الجبار على الإماميَّة، فالسيَّد نقلها عنه كما نقل كلَّ احتجاجاته ثم تصدَّى لنقضِها والجواب عليها.

 

ما ورد في مقدمة كتاب الشافي وخاتمته:

ويتَّضحُ ذلك من ملاحظة مقدَّمته التي صدَّر بها كتابه الشافي، فممَّا ورد في مقدمة كتاب الشافي للسيِّد المرتضى قوله (رحمه الله): ".. سألتَ -أيَّدك الله -: تتبُّع ما انطوى عليه الكتابُ المعروف ب(المغني) من الحجاج في الإمامة، وإملاء الكلام على شُبهه بغاية الاختصار، وذكرتَ أنَّ مؤلفه قد بلغ النهاية في جمع الشُبه، وأورد قويَّ ما اعتمدَه شيوخُه مع زياداتٍ يسيرة سبَق إليها، وتهذيبِ مواضيعَ تفرَّد بها، وقد كنتُ عزمتُ عند وقوع هذا الكتاب في يدي على نقض ما اختصَّ منه بالإمامة على سبيل الاستقصاء.. "(3).

 

فالواضحُ من هذا الذي أفاده السيِّدُ المرتضى انَّه بصدد النقض والردِّ على احتجاجات وشُبهات صاحبِ كتاب المُغني المتَّصلِ منهابمسألة الإمامة.

 

وقال السيِّدُ المرتضى في خاتمةِ كتابه الشافي ما هذا نصُّه: "ومن تأمَّل هذا الكتاب وجد بين ابتدائه وانتهائه تفاوتاً في باب الاختصار والشرح، والعلَّةُ في ذلك أنَّ النيَّة اختلفت فيه، فابتدأناه بنيَّةِ مختصرٍ عازمٍ على حكاية أوائل كلام صاحب الكتاب وأطراف فصوله. وإيجازِ الكلام واختصارِه ورأينا من بعدُ أن نبسطَ الكلام ونشرحَه، ونحكي كلامَه على وجهه من غير حذفٍ لشيءٍ منه فعمِلنا على ذلك بعد أنْ مضَتْ قطعةٌ من الكتاب على الرأي الأول، وقد كان الواجبُ أن نعطف على ما تقدَّم من الكتاب فنشرحُه ليلحق بأواسطه وآخرِه لكنْ منع من ذلك أنَّ الذي خرج منه سار في البلاد، وتناولَه الناس قبل كمالِ الكتاب وتمامِه، ولم يكن تلافيه لهذا الوجه وأشفقنا من أن تتغير النسخُ ممَّا تقدَّم منه فتختلف وتتفاوت .."(4).

 

فمفادُ كلام السيِّد رحمه الله في الخاتمة انَّ منهجه في أوَّل الكتاب كان يعتمدُ نقل أوائل كلامِ صاحب كتاب المغني في كلِّ فصل ونقل أطراف فصولِه ثم يتصدَّى للجواب عن تمام ما أوردَه صاحبُ المُغني في ذلك الفصل.

 

ثم ارتأى السيِّد رحمه الله تعالى أنْ ينقل تمام كلامِ صاحب المُغني الذي يُريد الجوابَ عليه وبعد ذلك يتصدَّى لنقضِه والجوابِ عليه، وهذه المنهجيَّةُ هي التي اعتمدَها في أكثر أجزاء الكتاب كما يتَّضح ذلك جليَّاً من ملاحظةِ تمامِ كتاب الشافي.

 

نصُّ الروايةِ المزعومة وسياقُها:

وأما النصُّ الذي أورد السيِّدُ في سياقِه الروايةَ المنسوبة للإمام عليٍّ (ع) فهو في موضعين من الكتاب:

 

الموضع الأول: كان ينقلُ فيه نصَّ ما أوردَه القاضي عبدالجبار في كتابه المغني : ".. وروى جعفرُ بن محمَّد عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال: لما غسل عمر وكفن دخل علي (ع) فقال: "ما على الأرض أحدٌ أحبُّ إليَّ أنْ ألقى الله بصحيفتِه من هذا المسجَّى بين أظهرِكم، ورُوي مثلُ ذلك عن ابن عباس وابن عمر وقال (صلَّى الله عليه وآله): "اقتدوا باللذَين من بعدي أبي بكر وعمر ولو كنتُ متَّخذا خليلاً لاتَّخذت أبا بكر خليلا" إلى غير ذلك مما يطول ذكره، قال: "فإذا كانت هذه الأخبار وغيرها ممَّا يطول ذكرها منقولة ظاهرة فلم صرتم بأنْ تستدلُّوا بما ذكرتموه على إمامة أمير المؤمنين (ع) وفضلِه بأولى ممَّن خالفكم، وادَّعى النصَّ لأبي بكر والفضلَ له، ونبَّه بذلك على أن الواجب فيما هذا حالُه العدول عن أخبار الآحاد إلى طريقة العلم، وإنما نذكر هذه الأخبار لنبيِّن لهم الفضل، وإنَّهم أهلُ الإمامة لأنَّه لا يرجعُ في ذلك إلى ما طريقُه القطع .."(5).

 

فهذا النصُّ بطوله جزءٌ من كلام القاضي عبد الجبار المعتزلي مقتبَسٌ حرفيَّاً من كتابه المُغني، وقد اقتبسه السيِّد المرتضى وشيئاً قبله وبعده، وحين أتمَّ ما أراد اقتباسه في هذا الموضع تصدَّى لنقضِه والردِّ عليه.

 

المؤيِّدات على انَّه من كلام القاضي المعتزلي:

المؤيِّد الأول: والذي يُؤيِّد انَّ هذا النصَّ هو من كلام القاضي عبد الجبار هو ما نقلَه بعد نقل الخبر المنسوب لعلي (ع) من رواياتٍ هي من مختصَّات العامَّة ولا يقبلُ مثلُ السيِّد المرتضى قطعاً بدعوى صدورِها عن الرسول (ص) مثل: "اقتدوا باللذَين من بعدي أبي بكر وعمر" و "ولو كنت متَّخذاً خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكرٍ خليلا".

 

والمؤيِّد الثاني: لما ذكرناه من انَّ هذا النص مقتبسٌ من كلام القاضي هو ما علَّق به على هذه المرويَّات حيث نقض بها على ما يقولُه الشيعة الإماميَّة من أولويَّة عليٍّ (ع) بالإمامة وفضلِه على الشيخين، فيكفي التأمَّل العابر في النصِّ المذكور ليتَّضح جلَّياً انَّه ليس من كلام المرتضى الذى هو بصدد الإثبات لإمامة عليٍّ (ع) لا نفيها.

 

والمؤيِّد الثالث: انَّ هذا النص سبقه قول السيد المرتضى: "قال صاحب الكتاب" يعني صاحب كتاب المغني ثم أورد نصَّ كلامه وهو: "دليلٌ لهم آخر، وقد تعلقوا بقوله (ص): "لأعطين الراية غداً رجلاً يُحبُّ اللهَ ورسولَه ويُحبُّه اللهُ ورسولُه" وبما رُوي من قوله (ص): "اللهمَّ آتيني بأحبِّ خلقِك إليك ليأكل معي من هذا الطائر"(6).

 

فالواضح من هذا النص انَّ قائله متصدٍ للنقض على أدلَّه الشيعة في إمامة عليٍّ (ع) ثم اتَّصل هذا النص إلى أنْ قال السيِّد المرتضى مرةً أخرى: قال صاحب الكتاب -المغني-: "دليلٌ لهم آخر، وربما تعلَّقوا بأخبارهم يدعونها في هذا الباب منها ما طريقه الآحاد، ومنها ما لا يمكن إثباته على شرط الآحاد أيضا، نحو ما يدعون من أنَّه (ص) تقدم إلى الصحابة بأنْ يسلِّموا على عليٍّ بإمارة المؤمنين ونحو ما يروون من قولِه (صلَّى الله عليه وآله) في عليٍّ (ع): "إنَّه سيِّد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغرِّ المحجَّلين" وقوله لعليٍّ (ع): "هذا وليُّ كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ من بعدي" وإنه قال: "إنَّ عليَّاً منِّي وأنا منه، وهو وليُّ كلِّ مؤمن ومؤمنة" إلى غير ذلك مما يتعلَّقون به في الإمامة أو في أنَّه الأفضلُ أو في باب العصمة، ثم قال: "وقد بيَّن شيخُنا أبو علي أن هذه الأخبار لم تثبت من وجهٍ يُوجب العلم فلا يصحُّ الاعتماد عليها في إثبات النصِّ .."(7).

 

ثم أخذ يستعرضُ الروايات المناقضة لمعتقد الشيعة الإماميَّة في أحقية عليٍّ (ع) في الامامة، قال القاضي: "فالمرويُّ من الأخبار الدالَّة على أنَّه (ص) لم يستخلف أظهر من ذلك، لأنَّه قد رُوي عن أبي وائل والحكم عن عليِّ بن أبي طالب (ع) أنه قيل له: ألا تُوصي؟ قال: ما أوصى رسولُ الله (ص) فأُوصي" إلى أنْ قال: "ورُوي عن جبير بن مطعم أنَّ امرأةً أتت رسول الله (ص) فكلَّمته في شيءٍ من أمرِها فأمرها أنْ ترجع إليه فقالت: يا رسول الله أرأيتَ إنْ رجعتُ فلم أجدك، تعني الموت قال (ص): "إن لم تجديني فائتي أبا بكر" إلى أنْ قال: "وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال: لما غُسِّل عمر وكُفِّن دخل عليٌّ (ع) فقال: "ما على الأرض أحدٌ أحبُّ إليَّ أنْ ألقى اللهَ بصحيفتِه من هذا المسجَّى بين أظهرِكم .."(8).

 

فتمام هذا النص مقتبسٌ من كتاب المغني للقاضي عبد الجبار الذي كان بصدد النقض والإحتجاج على الشيعةِ الإماميَّة.

 

وانتهى اقتباسُ السيِّد رحمه الله لكلام القاضي في هذا الموضع عند قول القاضي عبد الجبار: "فأما ادعاؤهم أنَّه (ص) تقدم بأن يُسلَّم عليه بإمرة المؤمنين فممَّا لا أصلَ له، ولو ثبت لدلَّ على أنَّه الإمام في الحال لا في الثاني على ما تقدَّم القول فيه .." وبعد أنْ أغلقَ السيِّد المرتضى القوسَ قال: "يُقال له: قد بيَّنا فيما تقدَّم أنَّ الخبر الذي يتضمَّن الأمر بالتسليم على أمير المؤمنين (ع) بإمرة المؤمنين تتواتر الشيعة بنقلِه، وأنَّه أحد ألفاظ النصِّ الجلي الذي دلَّلنا على حصول شرائط التواتِر فيه .."(9).

 

وامتدَّ جوابُه على كلِّ ما أورده القاضي مما اقتبسه السيِّد في هذا الموضع إلى انْ قال السيِّد رحمه الله: "فأمَّا ما رواه عن أمير المؤمنين (ع) من التمنِّي لأنْ يلقى الله بصحيفة عمر، فهذا لا يقولُه من فضَّلَه النبيُّ (ص) على الخلق بالأقوال والأفعال المُجمعِ عليها، الظاهرةِ في الرواية، وقد تقدَّم طرفٌ منها، ولا يصدرُ عمَّن كان يُصرِّح بتفضيل نفسِه على جميع الأُمَّة بعد الرسول (ص) ولا يقدرُ أنْ يصرِّح بذلك أيضاً، وقد تقدَّم الكلامُ على نظائر هذا الخبر على أنَّ قوله: "وددتُ أنْ ألقى الله بصحيفة هذا المسجى" أو "ما على الأرض أحدٌ أحبُّ إلي مِنْ أن ألقى الله بصحيفتِه من هذا المسجَّى" لا يجوز أن يكون محمولاً على ظاهره .."(10).

 

وهذا هو الموضع الثاني الذي ذكر فيه الرواية المنسوبة لعليٍّ (ع) وقد نقلها بعد نفيه لصدورها بقوله: "فهذا لا يقوله من فضَّله النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) على الخلق بالأقوال والأفعال المُجمع عليها .. ولا يصدرُ عمَّن كان يُصرِّح بتفضيل نفسِه على جميع الأمَّة بعد الرسول (صلَّى الله عليه وآله) .."(11).

 

الموضع الثاني: "فأما ما رواه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من التمنِّي لأن يلقى الله بصحيفة عمر، فهذا لا يقوله من فضَّله النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) على الخلقِ بالأقوال والأفعال المُجمع عليها، الظاهرة في الرواية، وقد تقدَّم طرفٌ منها ولا يصدرُ عمَّن كان يصرِّح بتفضيلِ نفسِه على جميع الأُمَّة بعد الرسول (ص) ولا يقدرُ أنْ يُصرِّح بذلك أيضاً، وقد تقدَّم الكلام على نظائر هذا الخبر على أنَّ قوله: "وددتُ أنْ ألقى الله بصحيفة هذا المسجَّى" أو "ما على الأرض أحدٌ أحبُّ إليَّ من أنْ ألقى الله بصحيفتِه من هذا المسجَّى" لا يجوزُ أن يكون محمولاً على ظاهره، لأنَّ الصحيفة إنَّما يُشارُ بها إلى صحيفة الأعمال، وأعمال زيد لا يجوز أن يكون بعينها لعمرو، وتمنِّي ذلك ممَّا لا يصحُّ على مثله (عليه السلام) .."(12).

 

فالواضح من هذا النصِّ الذي وقعت الرواية المنسوبةُ لعليٍّ (ع) في سياقه انَّ السيِّد كان بصدد النفي لصدورِ الرواية وليس بصدد الإثبات لصدورِها.

 

فالسيِّد المرتضى قد نفى صدورها أولاً بقوله: "فأمَّا ما رواه عن أمير المؤمنين (ع) من التمنِّي لأنْ يلقى الله بصحيفة عمر، فهذا لا يقولُه من فضَّله النبيُّ (ص) على الخلقِ بالأقوال والأفعال المُجمع عليها"(13).

 

ونفى صدورها ثانياً بقوله: "ولا يصدرُ عمَّن كان يُصرِّح بتفضيل نفسِه على جميع الأُمَّة بعد الرسول (ص) ولا يقدرُ أن يصرِّح بذلك أيضا"(14).

 

ونفى صدورها ثالثاً بقوله: "وتمنِّي ذلك ممَّا لا يصحُّ على مثله (عليه السلام)"(15).

 

فالنافي الأول: لصدور الرواية المزعومة بحسب ما أفادَه السيِّد المرتضى هو انَّ مؤدَّاها يُناقضُ ما هو مقطوعُ الصدور -من الأقوال والأفعال- عن النبيِّ (ص) من تفضيل عليٍّ (ع) على جميع الخَلْق.

 

والنافي الثاني: هو ما أفادَه من تصريحِ عليٍّ (ع) نفسه بأنَّه أفضلُ من جميع أبناء هذه الأُمَّة بعد الرسول الكريم (ص) ولذلك لا يُمكن ان يتمنَّى الصيرورةَ لمَن هو دونه في الفضل.

 

والنافي الثالث: تأكيد للنافي الثاني بعد نقل الخبر المزعوم.

 

ثم إنَّ السيِّد المرتضى ناقش مدلول الرواية على فرض صدورِها وخرجَ بنتيجةٍ هي انَّه لا يصحُّ حملها على ظاهرها حتى مع التسليم جدلاً بصدورها، فالصدورُ بنظر السيِّد غير مسلَّم ولكن على فرض التسليم بصدورِ هذا الخبر المزعوم فإنَّه كما قال السيِّد: "لا يجوز أنْ يكونَ محمولاً على ظاهره"(16).

 

وبما ذكرناه يتَّضح انَّ ما نسَبه الكاتبُ للسيِّد المرتضى من الرواية والتبنِّي للخبر المزعوم المنسوب لعليٍّ (ع) لم يكن سوى فِرية اجترحها هذا الكاتب ليضلِّل بها مَن يتَّفق له عدم المراجعة لكتاب الشافي.

 

ثم إنَّ الروايةَ المزعومةَ والمنسوبةَ لعليٍّ (ع) لم يُذكر لها في كتاب الشافي سندٌ، فلو فرضنا جدلاً انَّها من رواية السيِّد المرتضى فأين طريقه إليها، فالفاصلةُ الزمنيَّة بينه وبين الإمام جعفر الصادق (ع) تفوق المائتين سنة وهذا يقتضي أنْ يكون للسيِّد وسائط متعاقبة تصلُ إلى الإمام الصادق (ع) وهي غير مذكورة في كتاب الشافي فهي إذن مُرسلة، وليس لعلماء الشيعة قاطبةً طريقٌ معتبر إلى هذه الرواية، فدعوى انَّ الإمام الصادق (ع) رواها عن آبائه عن الإمام عليٍّ (ع) ممَّا لا طريق لإثباته عندنا، فهي رواية محكومة بالضعف عند الشيعة لذلك لا يُمكن الاحتجاجُ بها عليهم، وأما الطُرق التي ذكرها العامَّة لهذه الرواية فهي طرقُهم لا يصحُّ انْ يُحتجَّ بها على غيرِهم ممَّن يرى وهنَ هذه الطُرق وعدم واجديَّتها لشرائط الحجيَّة والاعتبار.

 

ثم إنَّ الرواية التي زعم الكاتبُ صاحبُ الشبهة انَّ السيِّد المرتضى قد رواها متبنِّياً لها في كتابه الشافي ليست هي بطولها التي وردت في كتاب الشافي، فالكاتبُ صاحب الشبهة قد لفَّق إليها ما لم يرد أساساً في كتاب الشافي، فهو قد ادَّعى انَّ الرواية اشتملت على انَّ علياً (ع) حين حضر الجنازة كانت دموعُه تنهمرُ وذلك لم يرد في الكتاب أساساً، وادَّعى انَّ السيد قد روى انَّ علياً (ع) قال: "إنِّي لأرجو الله أنْ يُلحقك بصاحبيك رسولِ الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر، فطالما سمعتُ رسولَ الله (ص) يقول: دخلتُ أنا وأبو بكر وعمر، خرجتُ أنا وأبو بكر وعمر، صعدتُ أنا وأبو بكر وعمر، أكلتُ أنا وأبو بكر وعمر، وإنِّي أرجو الله أنْ يُلحقَك بصاحبيك" وهذا ما لم يرد في كتاب الشافي، فالكاتبُ قد أضافَ إلى فِريتِه حين زعم انَّ السيِّد المرتضى هو مَن روى تأبين عليٍّ (ع) لعمر والحال انَّ السيِّد كان ينقلُ كلام القاضي في المُغني ليردَّ عليه، أضاف إلى هذه الفِرية فريةً أُخرى وذلك حين جاء بكلامٍ زعَمَ انَّ علياً (ع) قالَه في عمر وانَّ السيَّد المرتضى قد رواه عنه والحال انَّ هذا الكلام بطولِه لم يردْ في كتاب الشافي.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

 


1- الشافي في الامامة -الشريف المرتضى- ج3 / ص95.

2- الشافي في الامامة -الشريف المرتضى- ج3 / ص117.

3- الشافي في الامامة -الشريف المرتضى- ج1 / ص33.

4- الشافي في الامامة -الشريف المرتضى- ج4 / ص366.

5- الشافي في الامامة -الشريف المرتضى- ج3 / ص95.

6- الشافي في الامامة -الشريف المرتضى- ج3 / ص86.

7- الشافي في الامامة -الشريف المرتضى- ج3 / ص89.

8- الشافي في الامامة -الشريف المرتضى- ج3 / ص91.

9- الشافي في الامامة -الشريف المرتضى- ج3 / ص96.

10- الشافي في الامامة -الشريف المرتضى- ج3 / ص117.

11- الشافي في الامامة -الشريف المرتضى- ج3 / ص117.

12- الشافي في الامامة -الشريف المرتضى- ج3 / ص117.

13- الشافي في الامامة -الشريف المرتضى- ج3 / ص117.

14- الشافي في الامامة -الشريف المرتضى- ج3 / ص117.

15- الشافي في الامامة -الشريف المرتضى- ج3 / ص117.

16- الشافي في الامامة -الشريف المرتضى- ج3 / ص117.