معنى قولِه (ع): "مَن زنى زُنيَ به ولو في العقِب"

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

مسألة:

ورد عن الإمام الصادق (ع) قال: أوحى اللهُ إلى موسى (ع) "لا تزنوا فتزني نساؤُكم ومن وَطئَ فراشَ امرءٍ مسلم وُطِئَ فراشه، كما تُدِين تُدَان"(1).

هل لك شيخنا أنْ تُعلِّق على الجزء الأخير من الحديث الذي يقولُ كما تَدين تُدان؟ هل معناه أنَّ من يزني يُزنى بأهلِه أو أحد أفراد أُسرتِه؟! حيثُ إنَّ البعض يفهمُ الحديث هكذا ويُورد عدَّة إشكالات عليه من قبيل ولا تزرُ وازرةٌ وزرأُخرى..

الجواب:

الروايةُ المذكورة ضعيفةُ السند، فقد رواها الكلينيُّ في الكافي عن عدَّةٍ من أصحابنا عن البرقي، عَنْ شَرِيفِ بْنِ سَابِقٍ أَوْ رَجُلٍ عَنْ شَرِيفٍ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ أَبِي قُرَّةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: لَمَّا أَقَامَ الْعَالِمُ الْجِدَارَ أَوْحَى اللَّهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى إلى مُوسَى (ع) أَنِّي مُجَازِي الأَبْنَاءِ بِسَعْيِ الآبَاءِ إِنْ خَيْراً فَخَيْرٌ وإِنْ شَرّاً فَشَرٌّ، لَا تَزْنُوا فَتَزْنِيَ نِسَاؤُكُمْ ومَنْ وَطِئَ فِرَاشَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ وُطِئَ فِرَاشُه كَمَا تَدِينُ تُدَانُ"(2).

ومنشأُ الضعف من جهة السند اشتمالُه على شريف بن سابق التفليسي حيثُ لم تثبتْ وثاقتُه، فهو من المجاهيل، على أنَّ ثمة تردُّداً بين رواية البرقي عن شريف مباشرة أو عن رجلٍ عن شريف، فالروايةُ لذلك بحكم المُرسَلة، والمنشأُ الآخر لضعفِ السند هو الراوي عن الإمام الصادق (ع) أعني الْفَضْلِ بْنِ أَبِي قُرَّةَ، فهو ممَّن لم تثبت روايتُه عن الإمام الصادق (ع).

هذا وقد وردت رواياتٌ عديدة قريبةُ المضمون من هذه الرواية:

منها: ما رواه الصدوق في الفقيه بسنده عن عمرو بن أبي المقدام، عن أبيه، عن أبي جعفر -عليه السّلام- قال: «كان فيما أوحى اللَّه عزَّ وجل إلى موسى: يا موسى بن عمران من زنى زُنيَ به ولو في العقِبِ من بعدِه، يا موسى عِفَّ يعفَّ أهلُك، يا موسى بن عمران إنْ أردتَ أنْ يكثُر خيرُ أهلِ بيتِك فإيَّاك والزنا، يا بن عمران كما تَدين تُدان»(3) والروايةُ ضعيفةُ السند، لأنَّ طريق الشيخ إلى عمرو بن أبي المقدام مشتملٌ على الحكم بن مسكين وهو مجهول.

ومنها: ما رواه الكلينيُّ في الكافي عن عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْكُوفِيِّ وعَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيه جَمِيعاً عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّه الدِّهْقَانِ عَنْ دُرُسْتَ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ (ع) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه (ص): "تَزَوَّجُوا إلى آلِ فُلَانٍ فَإِنَّهُمْ عَفُّوا فَعَفَّتْ نِسَاؤُهُمْ، ولَا تَزَوَّجُوا إلى آلِ فُلَانٍ فَإِنَّهُمْ بَغَوْا فَبَغَتْ نِسَاؤُهُمْ، وقَالَ: مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ أَنَا اللَّه قَاتِلُ الْقَاتِلِينَ ومُفْقِرُ الزَّانِينَ أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَزْنُوا فَتَزْنِيَ نِسَاؤُكُمْ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ"(4).

وهذه الروايةُ ضعيفةُ السند أيضاً لاشتمالِها على عَبْدِ اللَّه الدِّهْقَانِ وفي نسخة الوسائل عبيد الله الدهقان وهو ضعيف كما أفاد النجاشي، والظاهرُ انَّ عبد الله هو عبيد الله الدهقان وإلا فهو مجهول، فالروايةُ ضعيفةٌ على كلِّ تقدير.

ومنها: ما رواه الكلينيُّ في الكافي عن عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِيه عَمَّنْ ذَكَرَه عَنْ مُفَضَّلٍ الْجُعْفِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع) مَا أَقْبَحَ بِالرَّجُلِ مِنْ أَنْ يُرَى بِالْمَكَانِ الْمُعْوِرِ فَيُدْخَلَ ذَلِكَ عَلَيْنَا وعَلَى صَالِحِي أَصْحَابِنَا، يَا مُفَضَّلُ أتَدْرِي لِمَ قِيلَ مَنْ يَزْنِ يَوْماً يُزْنَ بِه؟ قُلْتُ: لَا، جُعِلْتُ فِدَاكَ قَالَ: إِنَّهَا كَانَتْ بَغِيٌّ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُكْثِرُ الِاخْتِلَافَ إِلَيْهَا فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ مَا أَتَاهَا أَجْرَى اللَّه عَلَى لِسَانِهَا: أَمَا إِنَّكَ سَتَرْجِعُ إلى أَهْلِكَ فَتَجِدُ مَعَهَا رَجُلاً قَالَ: فَخَرَجَ وهُوَ خَبِيثُ النَّفْسِ فَدَخَلَ مَنْزِلَه غَيْرَ الْحَالِ الَّتِي كَانَ يَدْخُلُ بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وكَانَ يَدْخُلُ بِإِذْنٍ فَدَخَلَ يَوْمَئِذٍ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَوَجَدَ عَلَى فِرَاشِه رَجُلاً فَارْتَفَعَا إلى مُوسَى (ع) فَنَزَلَ جَبْرَئِيلُ (ع) عَلَى مُوسَى (ع) فَقَالَ: يَا مُوسَى مَنْ يَزْنِ يَوْماً يُزْنَ بِه، فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا فَقَالَ: عِفُّوا تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ"(5) وهذه الرواية ضعيفةٌ أيضاً للإرسال.

المعنى المستظهَر بدواً مناقضٌ لظاهر القرآن:

هذا هو أهمُّ ما وقفتُ عليه من الروايات التي يظهر منها بدواً انَّ مَن ارتكب فاحشة الزنا عُوقِب بوقوع الزنا على أهلِه أو بعضِ عقِبه أو بعضِ أقاربِه، ولو كان هذا المعنى هو المرادُ من هذه الروايات المذكورة فإنَّها تكون ساقطةً عن الاعتبار، لأنَّ مقتضى ذلك أنَّ عقوبة المرتكِب للزنا قد أصابت مَن لا ذنبَ له ولا اختيار، وهو منافٍ لظاهر القرآن الكريم، وكذلك هو منافٍ لما يُدركُه العقل القطعي بأنَّ الله جلَّ وعلا عدلٌ لا يجور، فلا يُجازي أحداً بذنبِ غيره، وعليه يلزم طرحُ هذه الروايات لو كان ذلك هو المرادُ منها، لأنَّ كلَّ ما خالفَ كتابَ الله تعالى فهو زخرف ومكذوبٌ على الرسول (ص) وأهلِ بيتِه (ع) ويجبُ طرحُه عرضَ الجدار كما تواتر ذلك عن أهلِ البيت (ع).

ويدلُّ على مخالفة هذا المعنى لكتاب الله جلَّ وعلا قولُه تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾(6) فإنَّ الواضح من مفاد الآية المباركة أنَّ أحداً وإنْ كان من ذوي قربى المُذنِب فإنَّه لا يتحمَّل من وزْرِ المُذنبِ شيئاً خطُر أو حقُر قلَّ أو كثُر.

وكذلك يدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾(7) فإنَّ مفاد هذه الآية هو حصرُ تبعاتِ الذنب بذاتِ النفس التي ارتكبت واكتسبت ذلك الذنب، فتبعاتُ ما اكتسبتْه النفسُ من ذنبٍ لا يتعدَّى النفسَ التى اكتسبتْه، واستفادةُ الحصرِ من الآية نشأ عن أنَّها صِيغت بنحو النفي والإثبات وهو من صيغ الحصر كما هو ثابتٌ في محلِّه، فهي قد نفتْ أثر ما تكتسبه النفسُ من ذنبٍ عن كلِّ أحدٍ سوى النفس الذي اكتسبتْه، فلو قِيل إنَّ عقوبة الزنا تُصيب أهل مرتكب الزنا فإنَّ معنى ذلك أنَّ تبعاتِ الزنا قد أصابت غير مَن اكتسبَه، وذلك مناقضٌ لمفادِ الآية المباركة.

ومن الآياتِ التي تدلُّ على مناقضةِ المعنى المذكور لكتاب الله جلَّ وعلا قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾(8) وفي الآية حصرٌ لما كسبتْه النفس على ذات النفس كما هو مقتضى تأخير المبتدأ ﴿مَا اكْتَسَبَتْ﴾ الذي حقُّه التقديم، وتقديم متعلَّق الخبر وهو قوله: ﴿وَعَلَيْهَا﴾ فمفاد قوله تعالى: ﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ هو أنَّ ما كسبته النفس من شرورٍ ومعاصٍ منحصرةٌ تبعاتُها على ذات النفس المكتسِبة.

وثمة آياتٌ أخرى تدلُّ على مناقضة المعنى المُستظهَر بدْواً من الروايات لكتاب الله تعالى إلا أنَّ فيما ذكرناه غنىً وكفاية، فلا محيصَ من الاِلتزام بطرح مثلِ هذه الروايات لو كان المرادُ منها أنَّ الله تعالى يُعاقِبُ الزاني بوقوع الزنا على أهلِه أو بعض عقِبه.

توجيه مفاد الروايات المذكورة:

لكنَّ هذا المعنى غير متعيَّن من مفاد الروايات المذكورة، فمِن المحتَمل أنَّ المراد من هذه الروايات هو أنّ مَن ارتكب الزنا أو اعتاد ارتكابَه فإنَّه لا يتيسَّر له الزواج من إمرأةٍ عفيفةٍ بل يُبتلى بالزواج من إمرأةٍ فاجرةٍ وإنْ كانت على ظاهر العفَّة أو أنَّه لا يتيسَّر له الزواج إلا من إمرأةٍ لها قابليَّة الوقوع في رذيلةِ الزنا نظراً لرقَّةٍ في دينِها وورعِها فيدخلُ عليه منها الخزيُ والعارُ أو يدخلُ عليه الأذى النفسيُّ بعد علمِه بخيانتِها له.

وهذا المعنى لو كان هو المرادُ من الروايات فإنَّه لا محذور من الاِلتزامِ به نظراً لتمحُّض عقوبة الزنا بمُرتكبِ الزنا نفسِه، فالعقوبةُ بناءً على هذا المعنى لا تتعدَّى منه إلى غيره، فمؤدَّى هذه العقوبة هو أنَّ الله تعالى يخذلُ المرتكِبَ للزنا فلا يتيسَّرُ له الاختيارُ الصالح للزوجة وإنْ حرص على ذلك.

وأمَّا وقوعُ زوجتِه في الزنا فنشأ عن سوءِ اختيارها، فهي إمرأةٌ فاجرةٌ في نفسِها أو قابلةٌ للوقوع في الفجور بقطع النظر عن أنَّ هذا الرجل قد تزوَّجها أو لا، فلم يكن اقترافُه لفاحشة الزنا هو السبب في اجتراحِها هي للزنا، نعم هو قد عُوقب بالخذلان فتزوَّج منها جهلاً منه بواقعِها، فدخلَ عليه من ذلك الأذى بعد اطِّلاعه ووقوفِه على واقعِها المَشين.

ويُمكن تأييدُ إرادةِ هذا المعنى من روايةِ المفضَّل الجعفي فإنَّ الواضحَ منها أنَّ زوجة الإسرائيليِّ الزاني كانت فاجرةً وإنْ كان ظاهرُها على خلاف ذلك، فهو حين فاجئها فدخل عليها دون استئذان وجدها مع رجلٍ على فراشِه، وذلك ما يُعبِّر عن اختيارها للزنا وأنَّ مَن كان معها على فراشِ زوجها كان خديناً لها.

فهذا الرجلُ المُقترِف لرذيلة الزنا كان حين أراد أنْ يتزوَّج بحث عن إمرأةٍ عفيفة لكنَّه خُذل فوقع اختيارُه على إمرأةٍ فاجرة وإنْ كانت على ظاهر العفاف أو أنَّها وإنْ لم تكن فاجرةً إلا أنَّها كانت لقلَّةِ ورعِها ورقَّةِ دينِها مؤهَّلةً للوقوع في هذه الرذيلة.

وكذلك فإنَّ رواية عبد الحميد أو هو وإبراهيم بن عبد الحميد غير آبيةٍ للحمل على المعنى الذي احتملناه، وذلك لظهورِها في أنَّ ارتكاب نساء آل فلانٍ للزنا كان عن اختيارٍ منهن، إذ أنَّ اِسناد البغي لهنَّ ظاهرٌ في أنَّهنَّ فواجر ولسْنَ مُستكرَهات.

نعم هذا المعنى الذي احتملناه لا يستقيمُ مع رواية عمرو بن أبي المقدام حيثُ اشتملت على قوله (ع): "مَن زنى زُنيَ به ولو في العقِب مِن بعده"(9) فإنَّ الظاهر من "العقِب من بعده" هي الذريَّة، واحتمالُ إرادة أنَّ زوجتَه تُمارسُ الفجورَ من بعده لكون واقعِها سيئاً من أول الأمر، وأنَّ ذلك تبدَّى وظهَر عليها بعد موتِه، هذا الاحتمالُ في غاية البُعد.

معنى آخر لمفاد الروايات:

وعليه فإنَّ الأرجح هو حملُ هذه الرواية على معنىً آخر، وهو أنَّ معنى قوله (ع): "مَن زنى زُنيَ به ولو في العَقِب مِن بعدِه" هو أنَّ مَن تعدَّى بالزنا على أعراض الناس أغرى بفعلِه ذلك فُسَّاق الناس أنْ يعتدوا على عِرضه أو أنَّه يُغري بذلك فُسَّاق مَن هتك أعراضهم أنْ ينتهكوا عرضَه فيعتدوا على زوجتِه أو بعض ذريَّتِه من بناته أو بناتِ أبنائه أو بعض قرابته، فهذا المعنى يستقيمُ مع قوله (ع): "مَن زنى زُني به ولو في العقِب مِن بعده" الوارد في رواية عمرو بن أبي المقدام، ويستقيمُ كذلك مع قوله (ع): "مَنْ يَزْنِ يَوْماً يُزْنَ بِه"(10) الوارد في رواية المفضَّل الجعفي ومع قوله (ع): "ومَنْ وَطِئَ فِرَاشَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ وُطِئَ فِرَاشُه"(11) الوارد في رواية الْفَضْلِ بْنِ أَبِي قُرَّةَ.

وثمة احتمالٌ آخر يُمكن أنْ يكون هو المراد من هذه الروايات وهو أنَّ مَن يزنِ فإنَّه يُغري بفعله ذلك أهلَه وعقِبَه بفعل الزنا، فإنَّ البيتَ الذي يكون الراعي له زانياً ينتفي أو يضعفُ عند أهلِه الاستيحاش من هذه الرذيلة فيقعُ بعضُهم فيما وقع فيه راعي هذا البيت. وعليه يكون معنى: "مَن زنى زُني به" هو أنَّ مَن ارتكب هذه الفاحشة فإنَّه يُغري بذلك زوجتَه أو بعض بناته فترضى لنفسها التلوُّث بهذه الرذيلة، فكأنَّه حين وقوع أهلِه في الزنا قد زُني به، لأنَّ عرضَه قد تمَّ هتكُه.

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّ الروايات المذكورة تحتمل الإرادة لمعانٍ لا يلزم منها محذورُ إيقاع عقوبة الزنا على غير مرتكِبه:

الاحتمال الأول: أنَّ مرتكب الزنا يُعاقب بالخُذلان فلا يتيسَّر له الزواج من امرأةٍ عفيفةٍ وإنْ حرصَ على ذلك، ولو كان هذا المعنى هو المراد فإنَّ عقوبة الزنا لم تتعدَّ مرتكِب الزنا، فلم تكن زوجتُه عفيفةً وتسبَّب هو باِرتكابه للزنا إلى أنْ تُصبح فاجرةً قسراً أو أنْ يقع عليها الزنا اِكراهاً بل إنَّ ارتكابه للزنا تسبَّب في ابتلائه هو بزوجةٍ غير عفيفة، فعدمُ عفَّتها لم ينشأ عن ارتكابه للزنا بل هي كانت كذلك قبل زواجه منها، وقد عُوقب بأنْ يقع اختياره على هذه المرأة الفاسقة فيدخلُ عليه منها الأذى والخِزيُ والعار كما أدخل هو الخزىَ والعارَ على الناس اللذين هتك أعراضَهم.

فمعنى: "مَن يزني يُزنَ به" هو أنَّ مَن يزني ويهتكُ أعراضَ الناس يبتلي بزوجةٍ فاجرة يدخلُ عليه من بغيها وفجورِها الخزيُ والعار، وكذلك هو معنى: "ومَنْ وَطِئَ فِرَاشَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ وُطِئَ فِرَاشُه".

الاحتمال الثاني: إنَّ الروايات بصدد التحذير من الزنا وذلك ببيان أحد الآثار السيئة التي يَخشى من الوقوع فيها حتى الزناة من الرجال، فحاصلُ مفاد الروايات هو أنَّ اقتراف أحدٌ للزنا وهتكه لأعراض الناس يتسبَّب في إغراء فسَّاق الناس على هتك عرض الزاني أو أنَّ هتكَه بالزنا لأعراضِ الناس يتسبَّب في إغراء فسَّاق مَن هتك أعراضَهم على هتك عرضِه، فيكونُ الزاني باِقترافه للزنا قد ساعد على أنْ يُهتَك عرضَه.

وعليه فمعنى: "مَن زنى زُنيَ بِه ولو في العقِب مِن بعده"(12) ومعنى: "مَنْ يَزْنِ يَوْماً يُزْنَ بِه"(13) هو أنَّ مَن هتك أعراضَ الناس أغرى بفعلِه ذلك فُسَّاقَ الناس أنْ يهتكوا عرضَه ولو بعد حين، وكذلك فإنَّ معنى: "ومَنْ وَطِئَ فِرَاشَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ وُطِئَ فِرَاشُه"(14) هو أنَّ مَن آذى أحداً بهتك عرضِه ووطئ فراشه أغرى بفعلِه ذلك الفُسَّاقَ من أقرباء مَن هتك عرضَهم أو غيرهم في أنْ يهتكوا عرضَه إما انتقاماً أو إدانةً أو لأنَّ الفسَّاق حين يجدون هذا الرجل يهتكُ أعراضَ الناس تزول حريجتُهم من هتكِ عرضِه أو تضعفُ لأنَّهم يتوهَّمون أنَّه لا يُمانع من ذلك أو أنَّه لا يقدر على إدانتِهم لأنَّه مثلهم.

وعلى كلِّ تقدير لو كان هذا المعنى هو المُراد من الروايات أو بعضِها فإنَّ وقوع الزنا على أهل الزاني أو بعض عَقِبه لا يكون عقوبةً من الله تعالى على مَن لا ذنبَ له، وهم الزوجةُ والذريَّة بل إنَّ ما يقع عليهنَّ يكون من سوء اختيار الزاني فهو مَن ساهم في الجناية عليهنَّ بإقدامِه على هتك أعراضِ الناس، فليس على أهلِه وعقِبه مِن وزر، ولم يكن وقوع الزنا عليهنَّ اكراهاً وقسراً عقوبةً لهنَّ من الله تعالى بل إنَّ ذلك ظلمٌ وقع عليهنَّ ويتحمَّل جريرتُه اثنان، قريبُهنَّ الذي هتكَ أعراضَ الناس فتسبَّب في أنْ يُعتدى على عرضِه، والثاني هو الفاسق الذي باشر الاِعتداءَ عليهن.

الاحتمال الثالث: إنَّ مفاد الروايات هو أنَّ اِمتهان رذيلةَ الزنا يُفضي إلى اِنتفاء الاستيحاشِ منها عند أهلِ مرتكِبها وبعضِ عقِبه وذوي قرابتِه، فلا يجدون في ارتكابِها حريجةً أو غضاضة بل قد يصلُ بهم الحال إلى أنْ يأنسوا بمقارفتِها ويستمرؤا الاِمتهان لها، ذلك لأنَّ سلوك مدبِّر الأسرة كثيراً ما ينعكس على أُسرتِه، لذلك تجد في الغالب تمثُّل الأبناء والزوجات وصغار الأسرة لسلوك الآباء والأزواج وكبار الأسرة.

وعليه فمعنى: "لَا تَزْنُوا فَتَزْنِيَ نِسَاؤُكُمْ" هو أنَّه لا تقترفوا الزنا فتُغروا نساءكم على اقترافه، وكذلك فإنَّ معنى: "ومَنْ وَطِئَ فِرَاشَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ وُطِئَ فِرَاشُه" هو أنَّ مَن هتك عِرض أحدٍ فوَطئَ فراشه حراماً أغرى بفعلِه ذلك أهلَه على تمكين غيرِه من نفسِها، فبارتكابه للزنا صيَّر من فراشِه معرَضاً للزنا، وكذلك فإنَّ معنى: "مَن زنى زُنيَ به ولو في العقِب مِن بعده" هو أنَّ مَن اقترفَ رذيلةَ الزنا صيَّر منه فعلاً مُستمرئاً عند أهلِه وعقِبه فيقعنَ في اقترافِه، فهو قد زُنيَ به لأنَّه قد زُني بأهلِه وعقِبه.

ولو كان هذا المعنى هو المراد من الروايات فإنَّه لا يكون ثمة عقوبةٌ على مَن لا ذنبَ له، إذ أنَّ وقوع الأهلِ والعقِب في الزنا كان عن محض اختيارهن، فلم يكن ارتكابُهنَّ للزنا عقوبةً عليهنَّ بل كان معصيةً منهنَّ لربِّهن، إذ لم يكن ما وقعن فيه ناشئاً عن قسرٍ واِكراه بل عن اختيارٍ تامٍّ، نعم كان لارتكاب راعي البيت للزنا أثرٌ في جرِّهن إلى هذه الرذيلة، ولهذا كان الخزيُ والعار الذي دخل عليه بوقوع أهلِه وعقِبه في الزنا يمكن اعتباره عقوبةً ولكنًّها عقوبةٌ عليه وليست على عقِبه وأهلِه، وهي عقوبةٌ إلهيَّة مستحقَّة لأنَّها أصابت مَن ارتكب الزنا اختياراً وجرَّ أهلَه وعقِبَه للزنا بسوء اختياره، فاستحقَّ لذلك أن يدخلَ عليه الخزيُ والعار.

هذه الاحتمالات الثلاثة يمكن أنْ يكون أحدُها هو المراد من مجموع هذه الروايات أو يكون المقصودُ من بعضِها المعنى الأول، ويكون المقصودُ من بعضِها المعنى الثاني، ويكون المعنى الثالث هو المقصود للبعض الآخر من هذه الروايات.

وأقربُ هذه الاحتمالات لمساق الروايات هو الاحتمال الثالثُ، وذلك للقرائن التالية:

القرينة الأولى: اشتمال رواية ابن أبي المقدام على قوله: "يا موسى عفَّ يعف أهلُك"(15) فإنَّ الظاهر من هذه الفقرة هو أنَّ عفَّة مدبِّر الأسرة ينعكسُ تربويَّاً على عفَّة الأهل والعقِب بقرينة المقابلة بين هذه الفقرة وبين قوله: "مَن زَنى زُنيَ به ولو في العقِب مِن بعده" أي أنَّ اقتراف الأب لرذيلة الزنا ينعكس تربوياً على الأهل والعقِب، فيكون مفاد الرواية أنَّ لعفاف الراعي للأسرة أو تهتُّكه دوراً بالغ التأثير على أُسرتِه، فإذا كان لراعي الأُسرة حرصٌ على أنْ لا يدخلَ عليه الخزيُ والعار فليتمثَّل بالعفاف فإنَّ في ذلك تحصيناً لأهلِه وعقِبه من بعده عن الوقوع فيما يُوجبُ الخزي والعار.

وهذا هو مفاد رواية عبد الحميد عن أبي إبراهيم (ع) فإنَّها اشتملت على فقرة: "عَفُّوا فَعَفَّتْ نِسَاؤُهُمْ"(16) أي إنَّ عفَّة الآباء والأزواج انعكست تربوياً على نسائهم، فيكون مفاد قوله: "بَغَوْا فَبَغَتْ نِسَاؤُهُمْ" هو أنَّ امتهان الآباء والأزواج للبغاء انعكس تربوياً على نسائهم، فقولُه (ع) بعد ذلك: "لَا تَزْنُوا فَتَزْنِيَ نِسَاؤُكُمْ" معناه انَّ ارتكاب الآباء والأزواج للزنا يُغري الزوجاتِ والبناتِ على مقارفةِ الزنا عن محض رغبة واختيار، وهكذا هو مفاد رواية المفضَّل الجعفي لذات القرينة حيث اشتمل ذيل الرواية على قوله (ع): "عِفُّوا تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ"(17).

القرينة الثانية: هو اِسناد الزنا في رواية الفضل بن أبي قرَّة، إلى نساء الزاني وهو ظاهر في صدوره عن اختيارٍ منهن، فيكون ذلك قرينةً على أنَّ قوله (ع) بعد ذلك: "ومَنْ وَطِئَ فِرَاشَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ وُطِئَ فِرَاشُه" يعني أنَّ ما وقع لزوجة الزاني كان عن اختيارٍ منها لأنَّها استمرأت الزنا بعد أنْ استمرأه الزوج بقرينة اعتبار صدور الزنا عنها اختياراً مترتِّباً على صدوره من الزوج" لَا تَزْنُوا فَتَزْنِيَ نِسَاؤُكُمْ "(18).

وذات هذه القرينة اشتملت عليه رواية عبد الحميد، وعليه فيكون مفاد الروايات بمقتضى القرينة المذكورة هو ما ذكرناه من أنَّ وقوع الأهل في الزنا كان انعكاساً تربوياً عن ارتكاب الزوج للزنا.

القرينة الثالثة: اِسناد البِغاء إلى النساء في رواية عبد الحميد، وذلك ظاهرٌ في أنَّ وقوعهن في البغاء كان محض اختيارٍ منهنَّ، وحيث إنَّ الرواية رتَّبت صدور البِغاء عن النساء على صدوره عن أزواجهنَّ وآبائهن حيث أفادت: "فَإِنَّهُمْ بَغَوْا فَبَغَتْ نِسَاؤُهُمْ"(19) فحيثُ إنَّ الأمر كان كذلك فهو يقتضي استظهار أنَّ صدور البِغاء عن النساء كان من تأثير صدوره عن الآباء والأزواج أي أنَّ لصدوره عن الآباء والأزواج أثراً تربويّاً على النساء فأصبح البِغاءُ مُستساغاً عندهن، لذلك وقعنَ فيه.

فهذه قرائنُ ثلاث تقتضي الترجيح لإرادة الاحتمال الثالث فإذا أضفنا إليها الجزم باِمتناع إرادة المعنى المستظهَر بدواً من الروايات فإنَّ ذلك يُنتج استظهار إرادة هذا المعنى.

وبه يتَّضح أنَّ المراد من قوله (ع): "كما تَدين تُدان" هو انَّه كما تفعل تُجازى، فالجزاء من سِنخ العمل، فإذا كان الإنسان يُقارف الزنا فيُدخِل بفعله ذلك الخزيَ والعار على أقرباء مَن قارف معهنَّ الزنا فإنَّه يُجازى بدخول الخِزي والعار عليه، لأنَّ أهلَه وبعض عقبه سوف يستسيغون الزنا وإنْ كان هو لا يرضاه لهنَّ وتأباه غيرتُه عليهن، فإذا رغبنَ في الزنا ووقعنَ فيه تأسِّياً واقتداءٍ به أصابَه من سوء اختيارهنَّ خزيٌ وعار، فصار جزاؤه من سِنخ عملِه وهو معنى: "كما تَدين تُدان"(20).

وخلاصة القول: إنَّه لا محذور من الالتزام بمتون هذه الروايات بعد أنْ كان الأظهر هو إفادتها للمعنى الذي رجَّحناه أعني الاحتمال الثالث، وأمَّا المعنى المُستظهَر بدْواً من هذه الروايات وهو اصابة العقوبة مَن لا ذنب له فيكفي للاِطمئنان بعدم إرادته منافاتُه لظاهر القرآن ولِمَا تقتضيه الضرورةُ العقليَّة مِن أنَّ الله عزَّوجل عدلٌ لا يجور، ولا يُعاقِب أحداً على ذنبٍ لم يرتكبْه، فذلك وحده قرينةٌ تامَّة على عدم إرادة هذا المعنى لكنَّه ليس قرينةً على أنَّ هذه الروايات مكذوبةٌ بعد أنْ كان من الممكن حملُها على معنىً آخر لا يترتَّب على الالتزام بمؤدَّاه محذور خصوصاً وأنَّها رواياتٌ عديدة، نعم لو كانت هذه الروايات صريحةٌ في المعنى المنافي للضرورة الدينيَّة لكان من المُحتَّم طرحُها والبناءُ على أنَّها مكذوبةٌ لكنَّ الأمر ليس كذلك، وأقصى ما يُمكن القبول به هو أنَّها ظاهرة بدْواً في ذلك والظهور البدْوي لا يُعوَّل عليه ما لم يستقر ويصل لمرتبةِ الظهور التصديقي الجدِّي، ولا يصل الظهور إلى هذه المرتبة التي لها الحجيَّة إلا عند عدم وجود قرينةٍ مانعةٍ أو صارفة للكلام عن ظهوره الأَوْلي، والمقام ليس كذلك، فالروايات محتفَّةٌ بقرينة قطعيَّة مانعة عن إرادة المعنى المستظهَر بدْواً من الروايات، هذا مضافاً إلى اشتمالها على قرائن داخليَّة تصلحُ لاستظهار الاحتمال الثالث أو لا أقل من صلاحيتِها للمنع من استظهار المعنى الأولي.

والحمد لله رب العالمين

سماحة الشيخ محمد صنقور


1- الكافي -الشيخ الكليني- ج5 / ص553.

2- الكافي -الشيخ الكليني- ج5 / ص553.

3- من لا يحضره الفقيه -الشيخ الصدوق- ج4 / ص21.

4- الكافي -الشيخ الكليني- ج5 / ص554.

5- الكافي -الشيخ الكليني- ج5 / ص553.

6- سورة فاطر / 8.

7- سورة الأنعام / 164.

8- سورة البقرة / 86.

9- من لا يحضره الفقيه -الشيخ الصدوق- ج4 / ص21.

10- الكافي -الشيخ الكليني- ج5 / ص553.

11- الكافي -الشيخ الكليني- ج5 / ص553.

12- من لا يحضره الفقيه -الشيخ الصدوق- ج4 / ص21.

13- الكافي -الشيخ الكليني- ج5 / ص553.

14- الكافي -الشيخ الكليني- ج5 / ص553.

15- من لا يحضره الفقيه -الشيخ الصدوق- ج4 / ص21.

16- الكافي -الشيخ الكليني- ج5 / ص554.

17- الكافي -الشيخ الكليني- ج5 / ص553.

18- الكافي -الشيخ الكليني- ج5 / ص553.

19- الكافي -الشيخ الكليني- ج5 / ص554.

20- الكافي -الشيخ الكليني- ج5 ص554.