معنى: (يُجاهدُ في دولةِ الباطل بالتقيَّة)

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

رُوي عن الصادق (ع): "إيَّاكم والتعرُّض للحقوق، واصبروا على النوائب، وإنْ دعاكم بعضُ قومِكم إلى أمرٍ ضررُه عليكم أكثرُ من نفعِه لكم، فلا تُجيبوه"(1)، ورُوي عن الإمام الباقر (ع): "الجهادُ في دولةِ الحقِّ بالسيف، والجهادُ في دولةِ الباطلِ بالتقيَّة".

ما مدى صحة هاتين الروايتين سندًا ومتنًا وما المُرادُ منهما؟

الجواب:

الرواية الأولى: من حيث السند ضعيفة لأنَّ الراوي لها عن الإمام الصادق (ع) هو إسماعيل بن خالد وهو ممَّن لم يرد فيه توثيق بل هو مُهمل، هذا مضافاً إلى اشتمال السند على الحسن بن محمد بن شمُّون وهو مجهول الحال حيثُ لم يرد فيه توثيق ولا تضعيف.

وأمَّا من حيثُ المتن فالمرادُ من الحقوق المنهيِّ عن التعرُّض لها هي الالتزاماتُ المترتِّبة على مثل الاقتراض والكفالة، فالرواية تُوصِي بعدم فعلِ ما يترتَّب عليه تبعاتٌ وحقوقٌ للآخرين يكون معها الإنسان مُلزَماً بأدائها، ثم أوصت بالصبر على النائبة إذا اتَّفق ابتلاء الإنسان بها، أي أنَّه لا ينبغي للمؤمن التنصُّل عمَّا لزِمَه من حقوقٍ وتبعاتٍ.

والمؤيِّدُ لإرادة هذا المعنى من الرواية هو ما ورَد في روايةٍ أُخرى عن أحدِهما (ع) قال: "لا تُوجب على نفسِك الحقوق واصبرْ على النوائب .."(2).

وأمَّا المراد من قوله (ع): "وإنْ دعاكم بعضُ قومِكم إلى أمرٍ ضررُه عليكم أكثرُ مِن نفعِه له فلا تُجيبوه" فهو إنَّ على المؤمن العاقل عدمَ الاستجابةِ إلى طلب المَعونة من أحدٍ ولو كان من إخوانه قبل موازنةِ الأمرِ والنظرِ فيما يترتَّب عليه من نفعٍ وضرر، فإنْ كان الضرر المترتِّب على النفس منه أكثر من النفع الذي سيعود به صاحب الطلب فإنَّ مِن غير التعقُّل الاستجابة إلى طلبه وإنْ أوجب ذلك استيحاشَه.

وقد وردت الرواية في نسخةٍ أخرى بنحوٍ آخر: "وإنْ دعاكم بعض قومكم إلى أمرٍ ضررُه عليكم أكثر من نفعِه لكم فلا تُجيبوه"(3).

ومفادها لا يختلف عن مفاد النسخة الأولى إلا من جهة أنَّ النظر والمُوازنة يجبُ أنْ تقوم على أساس ملاحظة النفع والضرر المترتِّبين على النفس، بمعنى أنَّ الضرر المترتِّب على النفس من الاستجابة لو كان أكثرَ من النفع المترتِّب على النفس منها فإنَّ الرواية تُوصِي بعدمِ الاستجابة في حين أنَّ مفاد النسخة الأولى هو أنَّ الموازنة تقوم على أساس ملاحظة مقدارِ النفع الذي سيجنيه صاحبُ الطلب، فإنْ كان أكثرَ من الضرر الذي سيترتَّب على المُستجيب للطلب فإنَّ عليه المبادرةَ للاستجابة، وإنْ كان مقدارُ النفع الذي سيعود به صاحبُ الطلب أقلَّ من الضرر الذي سيترتَّب على المُستجيب للطلب فإنَّ الرواية تُوصِي بعدم الاستجابة.

والظاهر من الرواية خصوصاً بناءً على النسخة الثانية هو أنَّ نوع الطلب الذي تُوصي الرواية بالنظر فيه ومُوازنتِه على أساس النفع والضرر هو ما يكون الضررُ أو النفعُ المترتِّبان عليه عامَّين، وذلك بقرينة نسبة الضرر والنفع إلى ضمير الجمع المخاطَب "عليكم، لكم" وكذلك قوله "فلا تجيبوه". فالمخاطَب بالنهيِ عن الاستجابة هو الجمع.

وعليه فلا يبعدُ أنَّ نظر الروايةِ هو ما يدعو إليه البعض من النهوض لمقارعة الظالمين، فإنَّ مثل هذه الدعوة يكثر وقوعُها في دول الظالمين، والرواية تُوصِي بعدم الانسياق مع كلِّ دعوة دون التأمُّل والنظرِ فيما يترتَّب عليها من شرورٍ ومنافع على العموم، فهي لا تنهى عن الاستجابة مُطلقاً لكنَّها تُوصِي بعدم الاستجابة دون ملاحظةِ الآثار والتبِعات، فقد يقتضي النظرُ رجحانَ الاستجابة، وقد يقتضي رجحانَ عدمِ الاستجابة. وذلك على أساس المُوازنة التي أفادتها الرواية.

وأمَّا الرواية الثانية: فلم ترد بالنحو الذي نقلتم وإنَّما وردت في علل الشرائع للشيخ الصدوق (رحمه الله) بهذه الصيغة "والمؤمن مجاهدٌ لأنَّه يُجاهد أعداءَ الله تعالى في دولةِ الباطل بالتقيَّة وفي دولة الحقِّ بالسيف"(4).

وهذه الرواية وإنْ لم تكن نقيةَ السند لاشتماله على بعض المجاهيل إلا أنَّ مضمونَها غيرُ منافٍ للقواعد العامَّة المستفادة من الرواياتِ الورادةِ عن أهل البيت (ع).

فمفادُ الرواية هو أنَّ المؤمن مكتوبٌ عند الله تعالى في عِداد المجاهدين لأنَّه يعملُ بالتكليف المُوكَل إليه من قِبل الله (عزَّ وجلَّ) على أيِّ حال وفي كلِّ ظرف، فهو حينما يكونُ في دولة الحقِّ ويقتضي التكليفُ الجهادَ بالسيف فإنّه يُجاهد بالسيف، وحينما يكونُ في دولةِ الباطل فإنَّ التكليفَ الموكَل به هو الالتزامُ بالتقيَّة، وليس معنى التقيَّة هو الممالئة للظالمين أو السكوت مطلقاً عن مقارعتِهم فإنَّ ذلك منافٍ للنصوص المتواترة عن أهل البيت (ع) ومنافٍ لما ثبتَ من سيرتهم، فمعنى التقيَّة هو المزيد من المحاذرة وأخذِ الحيطةِ في مقام الدعوة والتبليغ للدِّين وفي مقام المقارعة للظالمين، وهذا المعنى للتقيَّة هو المناسب لمدلولِها اللغويِّ والشرعي.

فالمؤمن في دولة الباطل ينبغي أنْ لا يكون على رِسلِه فإنَّ في الاسترسال دون تأملٍ في التبعات التي قد تعودُ بالضررِ على نفسه أو على إخوانه المؤمنين، وقد تعودُ بالضرر على معالم الدينِ والعقيدة، فهو وإنْ كان يلزمه الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر والسعيُ من أجل إحقاق الحقِّ إلا أنَّ السعيَ في ذلك يجبُ أن يُحاطَ بالتقيَّة والتي تعني الحَيطة والمحاذَرة.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج16/ ص317.

2- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج16 / ص316.

3- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج16 / ص317.

4- علل الشرائع -الشيخ الصدوق- ج2 / ص467.