تناول الجبن هل هو مكروه؟

المسألة:

ورد على مسمعي أن الجبن مكروهٌ أكله!! فما مدى صحّة ذلك؟ وإن كان مكروهًا فلماذا؟ وماذا لو أُكلَ مع الخبز أو أيّ شيء آخر؟

الجواب:

لم تثبت كراهةُ الأكل للجبن بل ورد ما يقتضي محبوبيَّة أكلِه، فقد ورد في سُنن النبيِّ (ص) أنَّه كان يأكلُ الجبن(1)، وورد عن أبي جعفر بسندٍ معتبر أنه قال حينما سُئل عن الجبن: "سألتني عن طعام يُعجبُني"(2)، وورد بسندٍ معتبٍر أيضاً أنَّ أبا عبد الله (ع) سألَه رجلٌ عن الجبن فقال: "إن أكلَه ليعجبُني ثم دعا به فأكلَه"(3).

وتصدَّت بعضُ الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) لبيان آثاره وفوائدِه:

منها: ما رواه ابنُ طاووس في الدروع الواقية بسنده إلى سماعة قال: سمعتُ أبا عبد الله (ع) يقول: "نِعْم اللُّقمة الجبن تُعذِّب الفم وتُطيِّب النكهة ما قبله وتُشهِّي الطعام، ومَن يعتمدُ أكلَه رأس الشهر أوشكَ أنْ لا تُردَّ له حاجة"(4).

ومنها: ما رُويَ عن أبي عبد الله (ع): "إنَّه نافعٌ بالعشيِّ ويزيدُ من ماءِ الظهر" (5).

ومنها: ما رُويَ عن النبيِّ (ص): "كُلوا الجبنَ فإنَّه يُذهبُ النعاس ويهضمُ الطعام"(6).

نعم وردت رواياتٌ عديدة تذمُّه إلا أنَّ بعضَها مقيَّدٌ بظرفٍ أو حالٍ أو وصف، وبعضُها مطلق.

أمَّا المقيَّد منها فثلاث طوائف:

الأولى: تناولُه في الغداة، فقد رُوي عن أبي عبد الله (ع) أنَّ رجلاً سألَه عن الجبن فقال: "داءٌ لا دواءَ فيه"، ثم أفاد (ع) إنَّه ضارٌّ بالغداة نافعٌ بالعشي(7).

ومعنى قولِه لا دواءَ فيه أي لا نفع فيه أو أنَّه لا يُنتفع به دواءً لشيء، والواضحُ من الرواية أن وصف الجبن بالداء وبأنَّه لا دواء فيه مختصٌّ بتناولِه وقتَ الغداة. وذلك بقرينةِ ذيل الرواية فإنَّها شارحةٌ لصدرِها.

الثانية: تناولُه بقشره: فقد رُوي في الكافي أنَّ "مضرَّة الجبن في قِشره"(8).

ومفاد هذه الرواية أنَّ ضرراً ينشأُ عن تناول الجبن بقشرِه، ولعلَّها الطبقةُ التي تعلو الجبن خصوصًا بعد تعرُّضه للهواء، والروايةُ مشعرة بأنَّ الضرر منتفٍ عن الجبن لو تمَّ تناولُه دون قِشرِه.

الثالثة: تناولُه مُنفرداً دون الجوز، فقد رُويَ عن أبي عبد الله (ع) إنَّ "الجبن والجوز إذا اجتمعا كان في كلِّ واحدٍ منهما شفاء وإنْ افترقا كان في كلِّ واحدٍ منهما داء"(9).

ومفاد الرواية هو اقتضاء تناول الجبن للداء، حينما يُؤكل وحدَه، أما حينما يُؤكَل مع الجوز فإنَّه لا يقتضي الداء بل يكون مقتضياً للشفاء.

وأمَّا ما ورد في ذمِّه مطلقاً فيُمكن تصنيفه إلى ثلاث طوائف:

الأولى: ما روي عن أبي عبد الله (ع) قال: "شيئان صالحان لم يدخلا جوفاً قط فاسدًا إلا أصلحاه، وشيئان فاسدان لم يدخلا جوفاً صالحًا إلا أفسداه: فالصالحان: الرمان والماء الفاتر، والفاسدان: الجبن والقديد الغاب"(10).

والقديد الغاب هو اللحم المجفف إذا انتن. والرواية كما هو ملاحظ لم تقيِّد وصف الجبن بالمفسِد للجوف بظرفٍ أو حالٍ أو نوع أو غيرها، فهي ظاهرة بدواً في اقتضاء التناول للجبن لإفساد الجوف مطلقًا.

الثانية: ما روي في المحاسن عن أبي عبد الله (ع) قال: "ثلاثٌ يُؤكلن ويُهزِلْنَ: اللحم اليابس والجبن والطلع"(11).

وهذه الرواية مطلقة من جهة عدم تقييد الجبن بشيء من القيود إلا أنها أفادت أن الأثر السيئ المترتِّب على تناول الجبن هو الهُزال، والرواية السابقة أفادت أنَّ الأثر هو إفساد الجوف، ولا تنافي بينهما إذ لعلَّ كلا الأثرين مترتِّبان على تناول الجبن فلا اقتضاء لمدلول إحدى الروايتين على نفي وتكذيب مدلول الرواية الثانية ولعل الروايتين تُشيران إلى أثرين مترتبين طولاً فيكون تناول الجبن مقتضيًا لإفساد الجوف ويترتب على إفساد الجوف أثرٌ آخر هو الهزال.

فالهزال وإن كان يترتب عن مناشئ أخرى غير فساد الجوف لكنَّه قد يترتَّب عن فساد الجوفأيضاً، وفساد الجوف قد تكون له آثار أخرى غير الهزال لكنَّ الهزال من آثاره أيضًا، وعليه يكون من المحتمل أن الرواية الثانية كانت بصدد بيان أحد الآثار المترتبة على فساد الجوف الناشئ عن تناول الجبن فلا يكون تنافٍ بين الروايتين، ولن يكون ثمة تناف بينهما وبين ما لو وردت رواية أخرى تتحدث عن أثرٍ آخر لتناول الجبن.

الثالثة: ما روي عن النبي (ص) في طبِّ الأئمة (ع) أنه قال: "عشر خصال تُورث النسيان وعدَّ منها أكل الجبن"(12).

وهذه الرواية مطلقة أيضاً حيث لم تُقيِّد ترتُّب هذا الأثر عن تناول الجبن بظرفٍ أو حالٍ أو وصف أو غيرها.

هذا ما وقفت عليه من الروايات الذامّة لأكل الجبن، فأما الروايات المطلقة فهي وإن كانت منافية بدواً للروايات المادحة لتناول الجبن خصوصاً التي أفادت أنه يُفسد الجوف ويُورث الهزال إلا أنها ساقطة جميعاً عن الاعتبار نظراً لضعفها سنداً في حين أن الروايات المادحة فيها ما هو معتبرٌ سنداً كما أشرنا لذلك في صدر البحث.

فإن تنزلنا وفرضنا اعتبارها سنداً فإن التنافي الواقع بين الروايات المادحة والذامة تنقلب نسبة التباين والتنافي التام بينهما بعد تقييد الروايات الذامة مطلقاً بالروايات الذامة لتناول الجبن في بعض الظروف والحالات. وبذلك تكون النسبة هي الإطلاق والتقييد أي أن الروايات الذامة مطلقاً بعد تقييدها تكون مقيَّدة للروايات المادحة مطلقاً.

فتكون النتيجة هي أن تناول الجبن نافع ومحبوب إذا لم يكن تناوله في الغداة ولم يتم تناوله بقشره ولم يُؤكل وحده دون الجوز.

وللبحث تتمة إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 25 ص 34.

2- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 25 ص 117-118.

3- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 25 ص 118.

4- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 25 ص 122.

5- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 25 ص 120.

6- مستدرك الوسائل -الميرزا النوري- ج 16 ص 376.

7- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 25 ص 120.

8- المصدر السابق.

9- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 25 ص 121.

10- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 63 ص 64.

11- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 63 ص 104.

12- مستدرك الوسائل -الميرزا النوري- ج 16 ص 399.