امتناع تسخير الملائكة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ما معنى تسخير الملائكة الذي يذكرُه الفقهاء في كتاب المكاسب ويُدخلُه بعضُهم في السحر؟ وهل يمكن فعلاً تسخيرُ الملائكة؟

 

الجواب:

المراد من التسخير هو الإلجاء والقسْر بحيث يُصبحُ المُسخَّر واقعاً تحت سُلطانِ فاعل التسخير، ينبعثُ حيثُ يبعثُه وينزجرُ حين يزجرُه، فتكونُ جميعُ قوى المُسخَّر خاضعةً لإرادةِ فاعل التسخير ومشيئتِه، فهي -أي قواه- أشبهُ شيءٍ بالأداة كالسكين في يد الرجلِ العاقلِ المُختار.

 

وتسخيرُ الملائكة بحسب دعوى مَن يَتوهَّم وقوعَها هي نحوُ سلطنةٍ قاهرةٍ لنفس المُسخِّر منشؤها اقوائية نفسِه الروحانيَّة على نفس المَلَك، فهو يُعمِل هذه القوَّة النفسانيَّة القاهرة والمتفوِّقة لإخضاع إرادة المَلَك إلى إرادتِه، ويستعينُ على ذلك أو قد يستعينُ على ذلك ببعض الطلسمات والتمائم والأوراد، فتكونُ هذه الطلسماتُ بمثابة الزِمام الذي يُوضَعُ في عنق الدابَّة فيُصبحُ قيادَها بيدِ مالك الزِمام.

 

وممَّا ذكرناه في بيان معنى التسخير يتَّضحُ امتناعُ التسخير للملائكة، وذلك لأنَّ مؤدَّاه خضوع الملَك لغير إرادةِ الله جلَّ وعلا وهو منافٍ لما عُلم من ضرورة الدين القاضية بعصمتِهم وانقيادِهم التام لإرادة الله جلَّ وعلا، قال تعالى يصفُ ملائكته: ﴿.. عِبَادٌ مُكْرَمُونَ / لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾(1) وقال تعالى: ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ / يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾(2) وقال جلَّ وعلا: ﴿.. وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ / يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾(3) وقال تعالى: ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ / وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ / وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ﴾(4) وقال جلَّ وعلا: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾(5).

 

فهذه الآيات بيِّنةُ الدلالة على عصمتِهم واختصاص انقيادِهم بالله جلَّ وعلا، فهم لا يسبقونَه بالقول أي أنَّهم لا ينطقون بكلمةٍ لأحدٍ إلا وهي مسبوقةٌ بإذن الله جلَّ وعلا وهم بأمرِه يعملون، فلا يتخلَّفون عن أمرٍ صدرَ عن الله جلَّ إلا ويأتمرون به، ثم إنَّهم في عبادةٍ لله، لا يفترونَ عن ذلك آناء الليل وآناء النهار كلِّها، وذلك هو معنى الإنقياد التامِّ الذي لا يتخلَّله انقيادٌ لغيرِه جلَّ وعلا، وقد جعل اللهُ تعالى لكلٍّ منهم مقاماً ومهمةً يقومُ عليها، فكلٌّ منهم صافٌّ لما كُلِّفَ به ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ / وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ / وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ﴾ وما يتنزَّلون إلا بأمرِ الله، فلا يُخاطِبون من أحدٍ ولا يُخبرونَه بغيبٍ، ولا يقومون له بعملٍ إلا بأمرِ الله تعالى: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾، ﴿وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾.

 

فلو كان التسخيرُ للملائكة ممكناً لكان معنى ذلك خضوعَهم لإرادة مَن سخَّرهم -ولو آناًما- وانصرافَهم قسراً عن إرادة الله جلَّ وعلا، ولكان معنى ذلك إخبارهم عمَّا نهى الله عن الإخبار به إذا أراد ذلك مَن سخَّرهم، ولكان معنى ذلك قيامهم بفعلِ ما يأمرُهم به فاعلُ التسخير وإنْ كان ذلك الفعلُ ممَّا لم يأذن الله بفعلِه بل ولو كان ذلك الفعل ممَّا نهى اللهُ تعالى عنه، وكلُّ ذلك منافٍ لصريح ما أفادته الآيات من عصمتِهم وانقيادِهم التامِّ والكاملِ لله جلَّ وعلا.

 

هذا ويؤيد ذلك ما أفادته الرواياتُ الواردةُ عن أهل البيتِ (عليهم السلام):

منها: ما ورد عن الإمام عليٍّ أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة يصفُ الملائكة قال: ".. وعَصَمَهُمْ مِنْ رَيْبِ الشُّبُهَاتِ، فَمَا مِنْهُمْ زَائِغٌ عَنْ سَبِيلِ مَرْضَاتِه، وأَمَدَّهُمْ بِفَوَائِدِ الْمَعُونَةِ، وأَشْعَرَ قُلُوبَهُمْ تَوَاضُعَ إِخْبَاتِ السَّكِينَةِ، وفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَاباً ذُلُلًا إلى تَمَاجِيدِه، ونَصَبَ لَهُمْ مَنَاراً وَاضِحَةً عَلَى أَعْلَامِ تَوْحِيدِه، لَمْ تُثْقِلْهُمْ مُؤْصِرَاتُ الآثَامِ، ولَمْ تَرْتَحِلْهُمْ عُقَبُ اللَّيَالِي والأَيَّامِ، ولَمْ تَرْمِ الشُّكُوكُ بِنَوَازِعِهَا عَزِيمَةَ إِيمَانِهِمْ، ولَمْ تَعْتَرِكِ الظُّنُونُ عَلَى مَعَاقِدِ يَقِينِهِمْ، ولَا قَدَحَتْ قَادِحَةُ الإِحَنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، ولَا سَلَبَتْهُمُ الْحَيْرَةُ مَا لَاقَ مِنْ مَعْرِفَتِه بِضَمَائِرِهِمْ، ومَا سَكَنَ مِنْ عَظَمَتِه وهَيْبَةِ جَلَالَتِه فِي أَثْنَاءِ صُدُورِهِمْ، ولَمْ تَطْمَعْ فِيهِمُ الْوَسَاوِسُ فَتَقْتَرِعَ بِرَيْنِهَا عَلَى فِكْرِهِمْ .."(6).

 

ومنها: ما ورد عنه (ع) أيضاً في نهج البلاغة قال في وصف الملائكة: ".. ومُسَبِّحُونَ لَا يَسْأَمُونَ، لَا يَغْشَاهُمْ نَوْمُ الْعُيُونِ ولَا سَهْوُ الْعُقُولِ، ولَا فَتْرَةُ الأَبْدَانِ ولَا غَفْلَةُ النِّسْيَانِ .."(7).

 

ومنها: ما رواه الصدوق في عيون الأخبار عن الإمام الرضا (ع): ".. إنَّ الملائكةَ معصومون محفوظون من الكُفر والقبائحِ بألطافِ الله تعالى، قال الله تعالى فيهم: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾(8) وقال عزَّ وجل: ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ -يعني الملائكة- لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ / يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾(9)"(10).

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة الأنبياء / 26-27.

2- سورة الأنبياء / 19-20.

3- سورة النحل / 49-50.

4- سورة الصافات / 164-166.

5- سورة مريم / 64.

6- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج1 / ص169.

7- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج1 / ص19.

8- عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج1 / ص243.

9- سورة التحريم / 6.

10- سورة الأنبياء / 19-20.