النذر والذبح لأهلِ القبور

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ محمد وآل محمد

 

المسألة:

ثمّة أمر نودُّ استيضاحَه منكم، وهو أنّه يقال: إنَّ الشيعة تنذرُ لأهل القبور وتذبحُ لهم الذبائح تتقرَّبُ لهم بذلك من دون الله عزَّ وجل، وإذا صحَّ هذا القول فهو من الشرك بالله العظيم، فماذا تقولون؟

 

الجواب:

أقولُ هذه فِريةٌ وبهتانٌ عظيم نبرأُ إلى الله عزَّ وجلَّ منه، وسوف نُقاضي كلَّ من نسَبَ إلينا ذلك عند مَن ينتصفُ للمظلوم مِن الظالم.

 

وحتى تكونَ على بصيرةٍ من واقعِ حالِ الشيعة فيما يرتبطُ بهذا الموضوع نرى من الضروريِّ إيضاحَ أمور أربعة:

الأمر الأول: هو إيقاف السائل الكريم على واقع ما يفعلُه الشيعة فيما يرتبط بالموضوع المذكور، فإنَّهم وتقديراً منهم لبعض الشخصيات التي عُرفتْ بالإخلاص لله عزَّ وجل والجهادِ في سبيله والسعي من أجل إعلاء كلمته، وإيماناً منهم بلزوم التقدير والاحترام لرجالٍ تأهَّلوا لأَعلى مراتبِ الكمال كالأنبياءِ والأئمة المعصومين (ع)، وعرفاناً منهم بالجميل الذي أسداه الشهداءُ والصالحون لأبناء هذه الأُمَّة فإنَّهم لذلك دأبوا على التعبير عن مشاعرهم تجاه هؤلاء العظماء من الناس، وذلك بمجموعة من الوسائل.

 

منها: إطراؤهم والثناءُ عليهم والإشادُة بمآثرِهم ومناقبِهم والسعي من أجل التمثُّل بمكارمِ أخلاقِهم.

 

ومنها: زيارةُ قبورِهم وتقديمُ التحيَّةِ لهم وتأبينُهم ورثاؤُهم والثناءُ عليهم بالتقوى والإخلاص لله عزَّ وجل بالعبويَّة والجهاد في سبيلِه، ثم الدعاء لهم وتلاوة القرآن على أرواحِهم والتوسُّلُ بهم في قضاء حوائجِهم.

 

ومنها: بذلُ المال لتشييد قبورِهم وتأهيل مشاهدِهم لتكون صالحةً لاستقبال زوَّارِهم.

 

ومنها: بذلُ المال وإقامةُ المضائف لإطعامِ زوَّارهم، فتُذبحُ لذلك الذبائح ويتَصدَّى البعض لتهيئتها وتقديمِها للزائرين فيأكلُ منها من أحبَّ، ويُحمل ما تبقَّى منها للفقراء والمجاورين لمشاهدِهم.

 

ومنها: أنَّه قد ينذرُ بعضُ الشيعة للهِ عزَّ وجل أنَّه إنْ وفِّق لبلوغ غايةٍ من غاياتـه -على أن تكون مباحة- أنْ يبذلَ مالاً أو طعاماً أو يذبحَ ذبيحةً يُطعم بها مَن يزورُ الإمام الحسين (ع) مثلاً أو ينذرُ لله عزَّ وجل أنْ يبذل مالاً لتشييد مشهدٍ من مشاهد المعصومين (ع).

 

وقد ينذرُ بعضُهم لله عزَّ وجل أنْ يبذل مالاً أو يذبحُ ذبيحةً يتصدَّق بها على الفقراء ويُهدي ثوابَ ذلك للنبيِّ الكريم (ص) أو وأحدٍ من الأئمة المعصومين (ع) أو الأولياء الصالحين.

 

وقد ينذرُ بعضُ الشيعة لله عزَّ وجل أنْ يبذل مالاً لزوَّار واحدٍ من الأئمةِ (ع) أو لتشييد مرقدِه ثم يهبُ ثواب ذلك لأمواتِه أو أمواتِ المؤمنين، هذا ما عليه واقعُ الشيعة فيما يرتبط بالموضوعِ المذكور.

 

وكلُّ هذه المظاهر المُعبِّرة عن الحبِّ والولاء للصالحين من عباده تعالى إنَّما تصدرُ عنهم اعتقاداً وإيماناً منهم بأنَّها من مواطن الرضا الإلهيِّ ومن التعظيم لشعائرِ الله عزَّ وجل والتي هي من تقوى القلوب كما أفادت الآيةُ الشريفة، فإذا كان هذا هو مبلغُ ما يصدرُ عنهم وكان التحرِّي للرضا الإلهيِّ دون سواه هو الباعث لهم، فهل يسوغُ لمنصفٍ يخافُ ربَّه أنْ يقذفَهم بالشرك ﴿سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾.

 

معنى النذر وشرطُ انعقادِه عند الشيعة:

الأمر الثاني: المرادُ من النذر كما أفاد السيِّد السيستاني (حفظه الله تعالى): "هو أنْ يجعلَ الشخصُ لله على ذمتِه فعلَ شيءٍ أو تركَه"(1)، وقريبٌ منه ما أفاده صاحبُ الجواهر نقلاً عن المهذَّب والدروس وغيرها من أنَّه: "التزامُ الكاملِ المُسلِم المُختارِ غيرِ المحجورِ عليه بفعلٍ أو تركٍ بقول: "لله تعالى" ناوياً القربة، والأصلُ في مشروعيَّته بعد الإجماع والسنَّة المتواترة التي سيمرُّ عليك شطرٌ منها قولُه تعالى: ﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾(2) وقولُه تعالى: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾(3)"(4).

 

تلاحظون أنَّ النذر بنظر الإماميّة يعني الالتزام لله عز وجل، فلو كان التزاماً لغير الله عزَّ وجل فهو ليس نذراً، ومعنى أنَّ النذر لله عزَّ وجل هو أنْ يقصد الناذرُ من التزامِه التقربَ لله عزَّ وجل كما اتَّضح ذلك ممَّا نقلناه عن صاحِبِ الجواهر (رحمه الله).

 

أقسام النذر:

يذكرُ فقهاءُ الإماميَّة أنَّ للنذر أقساماً ثلاثة:

القسم الأول: نذرُ بِرٍّ مُعلَّق، وهو أنْ يلتزمَ المكلَّفُ لله عزَّ وجل بفعلِ طاعةٍ إنْ وقع أمرٌ يرغبُ في وقوعِه أو صُرف عنه أمرٌ يرغب في انصرافِه، فهو نذرُ برٍّ لأنَّه التزامٌ بفعلِ طاعةٍ من الطاعات، وهو مُعلَّق لأنَّه علَّق وأَوقف التزامَه بالعمل التطوعي على وقوع أمرٍ أو عدم وقوعِ أمرٍ.

 

ومثاله أنْ يلتزمَ المكلَّف لله تعالى بدفعِ صدقةٍ أو صلاةِ نافلةٍ أو زيارة مريضٍ إنْ رُزق ولداً أو عُوفي من مرضٍ.

 

القسم الثاني: نذرُ زجرٍ معلَّق، وهو أنْ يلتزم المكلَّف لله عزَّ وجل بفعلِ طاعةٍ إنْ ارتكب أمراً مرجوحاً محرماً كان أو مكروهاً أو كان مباحاً ولكنَّه مرغوبٌ عنه أو إنْ ترك أمراً راجحاً، فهو يريد أنْ يزجرَ نفسَه عن ارتكابِ ذلك الفعل المرجوح أو تركِ ذلك الفعلِ الراجح فينذرُ لله تعالى إنْ ارتكبه أنْ يقومَ بطاعةٍ من الطاعات على أنْ تكون شاقةً عليه بمستوىً ما.

 

ومثاله أنْ ينذر لله عزَّ وجل إنْ اغتاب مؤمناً أو ترك نافلةَ الليل أنْ يصومَ لله عشرةَ أيام أو أنْ يتصدَّق بنصفِ أموالِه.

 

القسم الثالث: نذرُ التبرُّع ويُعبَّر عنه بالنذر المُطلَق: وهو أنْ يلتزم المكلَّف لله عزَّ وجل ابتداءً بفعلِ طاعةٍ من الطاعات أو بتركِ أمرِ مرجوح دون أن يُعلِّق ذلك على وقوع أمرٍ أو عدم وقوعِه، ومثالُه أن يقول: "لله علىَّ أنْ أصوم ثلاثة أيَّام" أو "لله علىَّ أنْ أترك التدخين".

 

وباتَّضاح الفرق بين الأقسام الثلاثة نقول إنَّ فقهاء الإماميَّة لم يختلفوا في انعقاد النذر في القسم الأول والثاني، وأمَّا القسم الثالث فذهب بعضهم إلى عدم انعقاده إلا أنْ المشهور ذهبوا إلى أنَّه مُنعقد وملزِم كما هو الحال في القسمين الأولَيْن، راجع ما أفاده في ذلك صاحبُ الجواهر(5).

 

ولك أنْ تُراجع ما شئتَ مِن كتب الإماميَّة.

 

شروط انعقاد النذر:

ثمَّ إنَّ الإماميّة اتَّفقوا على أنَّه يشترطُ في انعقاد النذر أمران مضافاً إلى ما ذكرناه:

الأوَّل: أنْ يأتي الناذر بصيغة النذر وهي: "لله علىَّ"، ويكون ذلك بقصدِ القُربة لله تعالى، قال صاحب الجواهر (رحمه الله): (وكيف كان فلا خلاف بيننا في أنَّه يُشترطُ مع الصيغة نيَّة القُربة بل بالإجماع بقسميه عليه مضافاً إلى صحيح الحلبي ..)(6).

 

الثاني: يشترطُ في متعلَّق النذر أنْ يكون راجحاً شرعاً بأنْ يكون طاعةً من الطاعات كالصلاة والصوم والصدقة أو يكون ممَّا ندب إليه الشارع بحيثُ يصحُّ التقرُّب به إلى الله تعالى كزيارةِ المريض وتشييعِ الجنائز وكإطعام المؤمنين، فإنَّ مثل هذه الأعمال وإنْ لم يُعتبر في رجحانِها قصدُ التقرُّب لله إلا أنَّه يصحُّ التقرُّب بها إلى الله تعالى فتُصبح مع قصد القُربةِ عبادةً من العبادات.

 

قال صاحبُ الجواهر: "وأما مُتعلَّق النذر سواءً كان معلَّقاً أو تبرُّعاً فضابطُه أنْ يكون طاعةً مقدوراً للناذر، فهو إذن مختصٌّ بالعبادات كالحجِّ والصومِ والصلاةِ والهدي والصدقةِ والعتق ونحوها ممَّا هو مأمورٌ به واجباً أو مندوباً على وجه يكون عبادة لصحيح منصور بن حازم وموثَّق سماعة إلى أنْ قال: وحينئذٍ فلو نذرَ محرَّماً أو مكروهاً لم ينعقدْ بلا خلافٍ نصاً وفتوىً بالإجماع مُحصَّلاً ومنقولاً عن الانتصار وغيره .."(7).

 

وباتَّضاح ما ذكرناه يتبيَّن مستوى الجناية التي يقترفُها في حقِّنا من يدَّعي إنَّنا ننذرُ النذورَ للقبور من دون الله عز وجل، فإن كلَّ نذر لغير الله عزَّ وجل باطلٌ بإجماع الإماميَّة، وما عليه واقع الشيعة أنَّهم قد ينذرون لله عز وجل أن يتصدَّقوا على الفقراء ويهبون ثوابَ ذلك لأصحاب القبور، فالنذرُ لله تعالى ومُتعلَّقه الصدقةُ على الفقراء وهبةُ الثواب والأجر لأصحابِ القبور، فأيُّ محذورٍ شرعي في ذلك؟! وقد ينذرون لله عزَّ وجل نذرَ تبرُّع أو نذراً معلَّقاً بأن يُطعموا زوَّار الحسين مثلاً ابتداءً، أو معلَّقاً على وقوع أمرٍ يرغبون في وقوعِه أو عدم وقوع أمرٍ يرغبون في عدم وقوعِه.

 

فالنذرُ لله تعالى، ومتعلَّقُه إطعامُ زوَّار الحسين (ع) وهو أمرٌ راجحٌ لرجحان إطعام المؤمنين ورجحانِ زيارة الحسين (ع)، فأين الشرك في ذلك وهم قد نذروا للهِ وحده وقصدوا من نذرهم التقرُّب إليه تعالى. وهل في إطعام الزوَّار شركٌ بالله تعالى؟!

 

وقد ينذرون لله تعالى أن يشيِّدوا واحداً من مشاهد الأئمة المعصومين (ع) أو أحد مراقد الأولياء الصالحين، فالنذرُ لله وحده ومُتعلَّقه أمرٌ راجح، ولو سلَّمنا أنَّ متعلَّق النذر ليس راجحاً شرعاً وأنّه لا يجوز تشييد مراقد الأولياء الصالحين فإن النذرَ بناءً على ذلك سيكون باطلاً ولا يجب الوفاء به، أمَّا أن يكون ذلك من الشرك بالله تعالى فهو بلا موجبٍ، فلو أنَّ أحداً من المؤمنين نذرَ لله عز وجل أنْ يصومَ يومَ عيدِ الفطر أو الأضحى متوهِّماً أن ذلك ممَّا يرجحُ شرعاً فهل يُقال عنه إنَّه مشرك لمجرَّد أنَّه نذر صومَ يومِ العيد؟!

 

وبما ذكرناه يتبيَّن أنَّ الشيعة لا ينذرون للقبور ولا لأصحابِ القبور وإنَّما يتمحَّض نذرُهم لله تعالى وحدَه، نعم قد يكون متعلَّق نذرهم راجعاً لنفع أصحاب القبور كما في إهداء ثواب الصدقةِ أو ثواب الإطعامِ لأصحاب القبور أو يكون متعلَّق النذر راجعاً لنفع مشاهدِهم كما لو نذر لله أنْ يشيِّد مراقدَهم، وفرقٌ كبير بين كونِ النذر لله عزَّ وجل وبين كون متعلَّقه لواحد من خلق الله تعالى، فكما يصحُّ أن تجعل متعلَّق النذر لواحد من الأحياء بأنْ تقول لله علىَّ أن أطعم زيداً أو أبني له داراً فيكونُ نذرُك لله ونفعُ متعلَّقِه لزيد فكذلك يصحُّ أن يكون نفع متعلَّق النذر للأموات أو ما يتعلَّق بهم.

 

وإذا قال أحد المؤمنين إنّي نذرتُ للميت بكذا أو نذرتُ لزيدٍ الحيِّ بكذا فالمقصودُ من ذلك أنّه نذر لله أن يجعل متعلَّق نذرِه لهذا الميِّت أو لذلك الحي، وليس مقصودُه التزلُّف والتقرُّب للميِّت من دونِ الله تبارك وتعالى.

 

على أنَّ قوله نذرتُ للميِّت بكذا إنما هو إخبار وحكاية وليس إنشاءً للنذر، إذ أن إنشاء النذر لا يكون إلا بصيغة "لله علىَّ" مع قصد القربة لله كما اتَّضح ذلك ممَّا تقدم، فلو أوقع النذر بغير ذلك لكان باطلاً باتِّفاق الإماميَّة.

 

ويمكن تأييد ما ذكرناه من أن النذر للأموات أو الأحياء ليس بمعنى التقرُّب لهم، وإنَّما هو بمعنى النذر بإيصال النفعِ لهم قربةً لله فلا يكون ذلك من الشرك، يمكن تأييد ذلك رغم وضوحِه بما ورد في كتاب بداية المجتهد لابن رشد القرطبي. قال: "واختلفوا فيمن نذر ذلك على جهة الشرط مثل أن يقول: "مالي للمساكين إذا فعلت كذا ففعلَه". فقال قوم ذلك لازم كالنذر على جهة الخبر ولا كفَّارة فيه، وهو مذهبُ مالكٍ في النذر التي صيغتها هذه الصيغة أعني لا كفَّارة فيه. وقال قوم: الواجب في ذلك كفارةُ يمين فقط، وهو مذهبُ الشافعي في النذور، والذين اعتقدوا وجوب إخراج مالِه في الموضع الذي اعتقدوه اختلفوا في الواجب عليه، فقال مالكٌ: يُخرج ثلث مالِه فقط، وقال قومٌ: يُخرج جميع مالِه وبه قال إبراهيم النخعي وزُفُر، وقال أبو حنيفة: يُخرِج جميعَ الأموال التي تجب الزكاةُ فيها وقال بعضُهم: (إنْ أخرج مثل زكاة ماله أجزأه)(8).

 

تلاحظون أنَّ فرض المسألة هو أنّه قال: (مالي للمساكين) ورغم ذلك لم يفهم أحدٌ بل لم يحتمل أحدٌ أنَّ اللام للغاية وأنَّ قصده التقرُّب للمساكين وإنَّما فهموا من قوله "للمساكين" هو أنَّه جعل مصرف مالِه للمساكين، ولذلك لم يقلْ أحدٌ إنَّ ذلك من الشرك وإنَّما اختلفوا في أنَّ هذا النذر لازمٌ أو غير لازم، وعلى فرض لزومِه فما الذي يجب عليه صرفُه من أموالِه للمساكين.

 

ومثل ما أفاده القرطبي ورد في كتاب المُغني لابن قدامة قال: روى الحسينُ بن إسحاق الخرقي عن أحمد قال: سُئل عن رجل قال: "ما يرثُ من فلان فهو للمساكين، فذكروا أنه قال: يُطعم عشرة مساكين، وقال ربيعةُ يتصدَّق منه بقدر الزكاة .."(9).

 

الذبحُ وشرطُ صحَّته عند الشيعة:

الأمر الثالث: يشترطُ في صحَّة الذبح وتحقُّق التذكية أمور، منها استقبالُ القبلةِ بالذبيحة حين الذبح، فلو لم يستقبلْ بها القبلة متعمِّداً عالماً فإنَّ الذبيحةَ تكون بحكم الميتة، ويكون أكلُها محرَّماً بنظر الإماميَّة قاطبة.

 

قال صاحب الجواهر: "وكيف كان فيُشترطُ فيها أي الكيفيَّة شروطٌ أربعة: الأول أنْ يستقبلَ بها القبلةَ مع الإمكان بلا خلافٍ أجدُه فيه بل الإجماعُ بقسميه عليه بل المحكيُّ منهما مستفيضٌ كالنصوص، ثم ذكر بعض الروايات الدالة على ذلك"(10).

 

منها: حسنة محمد بن مسلم عن أبي جعفر(ع) قال: سألته عن الذبيحة فقال: "استقبل بذبيحتِك القبلة"(11).

 

ومنها: حسنة محمد بن مسلم قال سألتُ أبا جعفر (ع) عن رجلٍ ذبحَ ذبيحةً فجهل أنْ يوجِّهها إلى القبلة، فقال: "كُلْ منها، فقلتُ له: فإنه لم يُوجهها فقال: لا تأكل منها ولا تأكل من ذبيحة ما لم يُذكر اسم الله عليها، وقال إذا أردتَ أنْ تذبح فاستقبلْ بذبيحتك القبلة"(12).

 

ومن الشرائط المعتبرة في التذكية وصحَّة الذبح التسمية وذكر الله تعالى عند الذبح، فلو تعمَّد تركَ الذكرِ لله عند الذبح حرُمت الذبيحةُ وأصبحتْ بمثابة الميتة بإجماع الإماميَّة.

 

قال صاحب الجواهر: "الشرط الثاني التسمية من الذابح التي لا خلافَ فتوىً ونصَّاً في اشتراطِها في حلِّ الأكل مع التذكُّر، بل الإجماعُ بقسميه عليه مضافاً إلى الكتاب العزيز، وهي -أي التسمية- أنْ يذكر الله سبحانه وتعالى، يقول (بسم الله والحمد لله) و(لا إله إلا الله) ونحو ذلك، قال محمد بن مسلم في الصحيح عن رجل ذبح فسبَّح أو كبَّر أو هلَّل أو حمد الله تعالى، قال (ع): "هذا كلُه من أسماء الله لا بأس به(13)"(14).

 

وباتّضاح ما يُعتبر في حلِّية الذبيحة عند الإماميَّة تتبين جُزافية دعوى مَن يدَّعي أنْ الشيعة يذبحون الذبائح للقبور على غرار ما يفعلُه المشركون من ذبحِهم الذبائح لأوثانهم، فالشيعة يستقبلون بذبائحِهم القبلة ويذكرون اسمَ الله تعالى وحدَه عليها، نعم قد يذبحون الذبيحة مراعين حين ذبحها ما يُعتبر في تذكيتِها من استقبال وذكر لاسم الله تعالى عليها ثم يُطعمون لحمَها زوَّارَ الحسين (ع) أو أحد المعصومين (ع) أو يُطعمون لحمَها الفقراء أو عموم المؤمنين ويهبون ثوابَ ذلك للحسين (ع) مثلاً، وأين هذا من الذبح للقبور أو أصحاب القبور.

 

وإذا قال أحدهم ذبحتُ للحسين مثلاً أو للنبيِّ (ص) ذبيحةً فإنَّ مقصوده أنَّه صرف نفعَها للحسين (ع) أو النبيِّ (ص) وليس من قصدِه أنَّه ذبحها قرباناً للحسين (ع)، نعم الباعث لصرفِ نفعِها للحسين هو حبُّه للحسين (ع) كما أنَّ الباعث من الصدقة عن أبيه هو حبُّه لأبيه الميِّت، ولعمري اِنَّ ذلك أوضح من أنْ يخفى فنضطَّرُ لإيضاحه إلا أن النفوس إذا ابتليت بالعُقد والأضعان كابرتِ الحقيقة رغم جلائها وجهدتْ عابثةً من أجل التعتيمِ عليها.

 

ولتأييد ما ذكرناه رغم وضوحه نذكرُ رواية وردت من طرق العامَّة وهي أنَّ سعداً سأل النبيَّ (ص) قال: يا نبيَّ الله إنَّ أمّي قد افتلتتْ وأعلمُ أنَّها لو عاشت لتصدَّقت فإنْ تصدَّقتُ عنها أينفعُها ذلك؟ قال (ص): "نعم"، فسألَ النبىَّ (ص): أيُّ الصدقة أنفعُ يا رسولَ الله؟ قال (ص): "الماء" فحفرَ بئراً وقال: هذهِ لأمّ سعد(15).

 

الأمر الرابع: قد يقال إنَّ ما يفعله الشيعة من نذر النذور وذبح الذبائح عند القبور يُشبه ما يفعلُه المشركون من النذر للأوثان والذبح قرباناً لهم، ولأنَّ بناء القبور لمَّا كان منهياً عنه كان مقتضى ذلك أنْ تصبح حين بنائها أوثاناً وحينئذٍ يكونُ الذبح عندها ذبحاً للوثن وهو من الشرك بالله العظيم.

 

والجواب عن هذه الشبهة أن البناء على القبور ليس منهيَّاً عنه مُطلقاً كما اتَّضح ذلك من بحوثٍ سابقة، وعلى فرض قبول ثبوت النهيِّ مطلقاً لا يكون ذلك مقتضياً لاعتبار القبور المبنية أوثاناً، وإلا كان قبرُ النبيِّ (ص) وثناً وكانت قبور الصالحين المنتشرة في كل الحواضر الإسلاميَّة أوثاناً رغم أنَّ المسلمين على اختلاف مذاهبهم يقصدونها.

 

ثمّ إنَّ القول بأنَّ الشيعة يذبحون الذبائح عند القبور يُوهم غير المطلعين على واقع ما يفعلُه الشيعة أنَّهم يذبحون الذبائح بجانب القبور أو المشاهد كما يفعل المشركون حينما يذبحون لأوثانِهم، والحال أنّ الواقع ليس كذلك وإنَّ مثير الشبهة أراد أن يُعمِّي على غير العارفين بواقع حال الشيعة فحسبُنا الله فهو نعم الوكيلُ والمدافعُ عن عباده المؤمنين.

 

إنَّ ما يفعله الشيعة هو أنَّهم يذبحون الذبائح في مواضعِها أعني المسالخ والمجازر وبعد تهيئتِها وطهيها يقومون ببذلها للمؤمنين أو الفقراء أو زوَّار مراقد الأئمة (ع)، وعادةً ما يكون ذلك في المضائف والمواضع المهيئة لتناولِ الطعام، فالمشاهدُ الشريفة ليست موضعاً للذبح ولا يأذنون لأحدٍ بدخولها وهو على نجاسة فضلاً عن تلويثها بدم الذبائح وقذاراتِها.

 

وأمَّا دعوى المشابهة بين ما يفعلُه المشركون وما يفعلُه الشيعة حيث إنَّ المشركين ينذرون النذور ويذبحون الذبائح لأوثانِهم وكذلك يفعلُ الشيعة لقبور الأولياء، فقد تبيَّن أنْ لا مشابهة بين السلوكين، على أنَّ المشركين ينذرون لأوثانِهم وأما الشيعة فينذرون لله عزَّ وجل وحده ويذكرونَ اسم الله على ذبائحِهم ويستقبلون بها القبلة فبين السلوكين بُعدَ المشرقين، على أنَّ القُصود والنيَّات هي المائز بين الكثير من الأفعال المتشابهة فكيف يسوغُ لمنصفٍ يحترم نفسَه أن يرميَ الآخرين بالعظائم لمجرَّد وجود التشابه بنحوٍ ما بين ما يفعلونه وما يفعلُه مَن هم على غير ملَّتهم!!

 

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: تساؤلات في الفقه والعقيدة

الشيخ محمّد صنقور

3 / ربيع الأول / 1427هـ


1- منهاج الصالحين -السيد السيستاني- ج3 / ص229.

2- سورة الحج / 30.

3- سورة الإنسان / 7.

4- جواهر الكلام -الشيخ الجواهري- ج35 / ص356.

5- جواهر الكلام -الشيخ الجواهري- ج35 / ص363-365.

6- جواهر الكلام -الشيخ الجواهري- ج35 / ص369.

7- جواهر الكلام -الشيخ الجواهري- ج35 / ص377.

8- بداية المجتهد -ابن رشد القرطبي- ج1 / ص645.

9- المغني -عبد الله بن قدامه- ج11 / ص339.

10- جواهر الكلام -الشيخ الجواهري- ج36 / ص163.

11- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج24 / ص15.

12- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج24 / ص28.

13- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج24 / ص31.

14- جواهر الكلام -الشيخ الجواهري- ج36 / ص113.

15- تفسير القرطبي -القرطبي- ج7 / ص215.