ما معنى: "نزِّهونا عن الربوبيَّة وقولوا فينا ما شئتم"

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

"نزِّهونا عن الربوبيَّة وقولوا فينا ما شِئتم" هل هذا الحديث المنسوبُ لأهلِ بيت العصمة (ع) صحيحٌ سنداً؟ وعلى فرض كونه صحيحاً ما المقصود منه، فهل يصلحُ لإثبات كلِّ ما نعتقدُ أنَّه منقبةٌ لأهل البيت (ع)؟

الجواب:

لم نجدْ هذا النصَّ في حدود ما وقفنا عليه من رواياتِ في المصادر الحديثيَّة، نعم وجدنا الفقرة الثانيةَ من النصِّ المذكور أعني: "قولوا فينا ما شِئتم"(1) في ضمن رواياتٍ عديدة وفي مصادرَ مختلفة.

أمّا الفقرةُ الأولى فلم نجد لها ذكراً في شيءٍ ممَّا وقفنا عليه من مصادر، ولعلَّ في النصِّ الذي نقلتموه وتناقلَه آخرون تصحيفاً أو لعلَّه قد نُقل بالمعنى، فقد وقفنا على روايةٍ مرسلة منسوبةٍ لأمير المؤمنين (ع) هذا نصُّها: "يا سلمان نزِّلونا عن الربوبيَّة، وادفعوا عنا حظوظَ البشريَّة، فإنّا عنها مُبعدون، وعمَّا يجوزُ عليكم منزَّهون، ثم قولوا فينا ماشئتم فإنَّ البحرَ لا يُنزفُ وسرُّ الغيب لا يُعرف .."(2).

ولكي يتَّضح المراد من الفقرة الثانية الواردة في ضمن مجموعة من الروايات لابدَّ من نقل بعض هذه الروايات:

ورد في بصائر الدرجات أنَّ أبا عبد الله (ع) قال لإسماعيل بن عبد العزيز: "لا ترفعوا البناءَ، فوق طاقتِنا فينهدم، اجعلونا عبيداً مخلوقين وقولوا فينا ما شئتم"، وفي رواية القطب الرواندي في الخرائج والجرائح "قولوا فينا ماشئتم إلاّ النبوَّة"(3).

ونقل الشيخ الطبرسي في كتابه الاحتجاج عن أمير المؤمنين(ع) أنَّه قال: "لا تتجاوزوا بنا العبوديَّة ثم قولوا فينا ماشئتم ولن تبلغوا، وإيَّاكم والغلو كغلوِّ النصارى، فإنّي بريءٌ من الغالين"(4).

وورد في مختصر بصائر الدرجات للحسن بن سليمان الحلِّي في روايةٍ عن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال لكامل التمَّار: "يا كامل اجعلوا لنا ربَّاً نؤوبُ إليه، وقولوا فينا ماشئتم .." ثم قال (ع): "والله ما خرج إليكم من علمنا إلاّ ألِفٌ غير معطوفة"(5).

وأورد الأربلي في كشف الغمَّة عن مالك الجهني عن أبي عبدالله (ع): "إنَّ لنا ربَّاً يكلؤنا بالليل والنهار نعبدُه .. قولوا فينا ما شئتم واجعلونا مخلوقين .." ووردت رواياتٌ أخرى بهذا المضمون(6).

وبما نقلناه يتبيَّن المراد من فقرة: "قولوا فينا ما شئتم" فمفادها أنَّ كلَّ صفةِ كمال تليقُ بالإنسان فأهلُ البيت (ع) واجدون لها، ولمَّا كانت العبوديَّة لله عزَّ وجل هي أسمى وسامٍ يُمكن أنْ يتَّصف به الإنسان لذلك فأهلُ البيت (ع) في أعلى درجات العبوديَّة لله تعالى، وهم الراسخون في العلم، والبالغون من الفضل أعلاه، ومن الخُلُق أرفعَه.

فالروايات المذكورة بصدد التعريف بالمقام السامي لأهل البيت (ع) فيما يتَّصل بجميع الكمالات الإنسانيَّة، إلا أنَّه ودفعاً لمحذورٍ قد يتورَّطُ البعضُ بالوقوع فيه وهو الغلو أكَّد أهل البيت(ع) أنَّهم وإنْ كانوا في أعلى درجات الكمال إلا أنَّه الكمالُ المُناسب للإنسان، وليس هو الكمالُ المناسب لساحة المعبود جلّت أسماؤه وتقدّست صفاتُه، وهذا هو معنى: "نزِّلونا عن الربوبيَّة" فمقام الربوبية يناسبُه العلم المطلق، والقدرة المطلقة، والكمال المطلق في كلِّ شيء، والتنزُّه عن الشريك والتجسيم وعن كلِّ ما لا يليق بالمعبود.

وعندما يكون أهل البيت (ع) دون مرتبة الربوبيَّة فهم غير واجدين لما اختصَّ اللهُ عزَّ وجلَّ به من صفات، وهم في ذات الوقت يحملون كلَّ خصائص المخلوق كما أفادت الروايات المذكورة: "اجعلونا عبيداً مخلوقين" و"إنَّ لنا ربَّاً يكلؤنا بالليل والنهار نعبدُه" غايتُه أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد منحَهم ما لم يمنحْه كثيراً من خلقِه وأنَّ هذه المِنحَ الإلهيَّة بلغتْ من السعة حدَّاً لا تصلُ إليه مداركُنا وعقولنا، فما مِن كمالٍ يليقُ بالمخلوق يخطرُ على قلب بشرٍ إلا وأهلُ البيت (ع) قد مُنحو إيَّاه، لذلك ينبغي تنزيهَهم عن كلِّ نقصٍ يمكن للإنسان أن يجترحَه كالذنب والخطأ وسوءِ الخُلق، وهذا هو معنى القول المنسوب لأميرِ المؤمنين (ع): "ادفعوا عنَّا حظوظَ البشريَّة فإنَّا عنها مُبعدون".

وأمَّا خصائص الخَلق التي لا تُعدُّ نقصاً بالنسبة للإنسان فأهلُ البيت (ع) واجدونَ لها كالنكاح والأكل والشرب والمرض والنوم والموت، وهذا هو معنى قولهم (ع): "إجعلوا لنا رباً نؤوبُ اليه" وقولهم (ع): "إنَّ لنا ربَّاً يكلؤنا بالليل والنهار".

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّه لا غضاضة على الانسان في أنْ يقبلَ في أهل البيت (ع) كلَّ ما ثبت نقلُه فيما يرتبط بتَعداد مناقبِهم وكمالاتِهم إذا لم تكن تتجاوزُ حدود البشريَّة باستثناء النبوَّة، وأنَّ الاستيحاش من ذلك بسببِ عدم تعارف اتَّصاف سائر البشر بهذه الكمالات لا مبرَّر له بعد أنْ كانت هذه الكمالات ممنوحةٌ لهم من قِبَل الله عزَّ وجل.

كما كان يمنحُ أنبياءَه وأولياءَه الصالحين بما هو مذكورٌ في القرآنِ الكريم والسنَّة الشريفة.

نعم ذلك لا يُبرِّرُ قبولَ ما لم يثبت صدورُه عنهم (ع) وإنْ كان ذلك يليقُ بشأنِهم، إذ أنَّ الروايات المذكورة ليست متصدِّية لتصحيح كلِّ ما يذكرُه الرواة من حوادث شخصيَّة عنهم، وإنَّما هي متصدِّية للتعريف بمقاماتِهم وأنَّ كلَّ صفةِ كمال تليقُ بالإنسان فهم واجدون لها، ولذلك يصحُّ أنْ نصفهم بكلِّ كمالٍ بشريٍّ وإنْ لم نجد في ذلك نصَّاً خاصَّاً، هذا هو مفادُ الروايات المذكورة.

وبمجموع ما ذكرناه يتَّضح معنى: "نزِّهونا عن الربوبية" لو ثبت أنَّه حديث وأنَّ معناه اصرفوا عنَّا كلَّ صفةٍ لا تليق إلا بالله عزَّوجل ثم إنسبوا لنا كلَّ كمالٍ يليقُ بالإنسان فإنَّنا واجدون له.

والحمدُ لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- الاحتجاج -الشيخ الطبرسي- ج2 / ص233.

2- اللمعة البيضاء -التبريزي الأنصاري- ص65.

3- بصائر الدرجات -محمد بن الحسن الصفار- ص261.

4- الاحتجاج -الشيخ الطبرسي- ج2 / ص233.

5- بصائر الدرجات -محمد بن الحسن الصفار- ص527.

6- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج25 / ص289.