إهالةُ الترابِ على قبرِ ذي الرحم

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

نسمع أنَّه يُكره للأقارب أنْ يُهيلوا الترابَ على ميتِّهم، فما مدى صحَّة ذلك؟ وهل يشملُ ذلك الزوجَ؟ وهل يُكرهُ للأقاربِ إنزال ميِّتهم في قبرِه -كما قِيل- وماذا لو كان الميِّتُ إمرأةً؟

الجواب:

أمَّا إهالةُ ذوي الأرحام الترابَ على ميِّتهم فقد ورد النهيُ عنه في معتبرة عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ: مَاتَ لِبَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) وَلَدٌ فَحَضَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع) فَلَمَّا أُلْحِدَ تَقَدَّمَ أَبُوه فَطَرَحَ عَلَيْه التُّرَابَ فَأَخَذَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع) بِكَفَّيْه وقَالَ: لَا تَطْرَحْ عَلَيْه التُّرَابَ، ومَنْ كَانَ مِنْه ذَا رَحِمٍ فَلَا يَطْرَحْ عَلَيْه التُّرَابَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّه (ص) نَهَى أَنْ يَطْرَحَ الْوَالِدُ أَوْ ذُو رَحِمٍ عَلَى مَيِّتِه التُّرَابَ فَقُلْنَا: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّه أتَنْهَانَا عَنْ هَذَا وَحْدَه فَقَالَ: أَنْهَاكُمْ مِنْ أَنْ تَطْرَحُوا التُّرَابَ عَلَى ذَوِي أَرْحَامِكُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُورِثُ الْقَسْوَةَ فِي الْقَلْبِ، ومَنْ قَسَا قَلْبُه بَعُدَ مِنْ رَبِّه"(1).

فالروايةُ صحيحةُ السند، وهي ظاهرةٌ في كراهة المشاركةِ من ذوي الأرحام في إهالة التراب على قبر ميِّتهم، وقد أفادت أنَّ الحكمة من النهي عن ذلك هو أنَّ طرح التراب على ذي الرحم يُورث القسوةَ في القلب، وكلُّ فعلٍ يُورثُ هذا الأثر فينبغي للمؤمن تجنُّبُه، إذ أنَّ مَن قسا قلبُه بعُد عن ربِّه.

ومنشأُ البناء على ظهور الرواية في الكراهةِ دون الحرمة -رغم انَّ النهي ظاهرٌ بحسبِ الأصل في الحُرمة- هو أنَّ هذه المسألة من المسائل التي يكثرُ الابتلاءُ بها في كلِّ يوم خصوصاً وأنَّ المتصدي غالباً لتجهيز الميِّت هم أقاربُه، فلو كان حكم الإهالة على قبر ذوي الرحم هو الحُرمة لكان من الواضحات، وحيثُ إنَّ الأمر ليس كذلك فتلك قرينةٌ على عدم إرادة الحرمة، لذلك يُحمل النهيُ في الرواية على الكراهة كما فهِم ذلك الفقهاءُ.

ثم إنَّ المرادَ من ذوي الرحم هم كلُّ من تربط الميت بهم علاقةُ النسَب مثل الإخوة والأعمام والأخوال وإنْ علوا، وبني الأعمام والأخوال وإنْ نزلوا، فلا فرق بين النسب القريب والبعيد، فكلُّ من تربطُه بالميِّت علاقة نسبٍ فهو مخاطَب بالنهي عن إهالة الترابِ على قبره إلا أنْ تكون القرابة من البُعد بحيثُ لا يُعدُّ الميِّت بنظر العُرف من ذوي قرابتِه.

إهالة الزوج التراب على فبر زوجته:

وأمَّا الزوج فهو مخاطَبٌ أيضاً بالنهي عن إهالة الترابِ على قبرِ زوجتِه لو كانت زوجتُه من ذوي قرابتِه، وأمَّا لولم تكن كذلك فهو غير منهيٍّ عن المشاركة في إهالة الترابِ على قبرها بل هو مشمولٌ لما دلَّ على اِستحباب إهالة التراب على قبر الميِّت كمعتبرة السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: إِذَا حَثَوْتَ التُّرَابَ عَلَى الْمَيِّتِ فَقُلْ: إِيمَاناً بِكَ وتَصْدِيقاً بِبَعْثِكَ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ ورَسُولُه (ص) قَالَ: وقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع): سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه(ص) يَقُولُ: مَنْ حَثَا عَلَى مَيِّتٍ وقَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَعْطَاه اللَّهُ بِكُلِّ ذَرَّةٍ حَسَنَةً"(2).

ومنه يتَّضحُ عدمُ شمول النهي لمُطلق مَن تربطُهم بالميِّت علاقة مصاهرة.

نزول الأقارب قبر ميِّتهم:

وأمَّا إنزال الأقارب ميِّتَهم في قبرِه فالمشهور هو الكراهةُ ايضاً في غير المرأة بل أفاد صاحبُ الحدائق (رحمه الله): "إنَّ ظاهر الأصحاب الإتِّفاق على الحكم المذكور"إلا أنَّه لم يرد في الروايات ما يظهرُ منه الحكم بكراهة ذلك لمُطلق الأقارب، نعم ورد النهي مستفيضاً عن إنزال الوالد لولدِه في قبرِه دون العكس.

فمِن ذلك ما رواه الكلينيُّ بسندٍ معتبر عن حفص بن البختري وغيره، عن أبي عبد الله (ع) قال: "يُكرهُ للرجل أنْ ينزِل في قبرِ ولده"(3).

ومنه: ما رواه مارواه الشيخ الطوسي في التهذيب بسنده عن عبد الله بن محمد بن خالد، عن أبي عبد الله (ع) قال: "الوالدُ لا ينزلُ في قبرِ ولدَه، والولدُ يَنزل في قبر والدِه".

ومنه: ما رواه أيضاً في التهذيب بسنده عن عبد الله العنبري قال: قلتُ لأبي عبد الله (ع): الرجلُ يدفنُ إبنَه؟ فقال: لا يدفنُه في التراب، قال: قلتُ: فالإبن يدفنُ أباه؟ قال: نعم، لا بأس"(4).

فمثلُ هذه الروايات لا يقتضي ظهورها أكثر من كراهة نزول وإنزال الوالد ولده في قبره، ولم يرد في غير إنزال الولد نهيٌ، نعم قد يُستدلُّ للبناء على كراهة إنزال مُطلق الأقارب لميِّتهم في قبرهِ بفحوى ما دلَّ على كراهة أنْ يحثوَ ذوو الرحم التراب على قبر ميِّتهم، إذ أنَّ ما يُورثُه الإنزال لذي الرحم من القسوة في القلب لعلَّهأ أكثر ممَّا يُورثه حثو التراب على القبر، فإذا كان ملاك الحكم بكراهة حثوِ التراب هو ما يورثُه ذلك من القسوة في القلب فإنَّ الحكم بكراهة الإنزال لذي الرحم يكون أولى لأنَّ ملاك الكراهة فيه أشدُّ.

الجواب عن هذا الوجه:

إلا أنَّ ما يرد على هذا الوجه هو عدم إتِّحاد الموردين من تمام الجهات، فهما وإنْ كانا متَّحدين من حيث إقتضائهما للقسوة -بحسب الفرض- إلا أنَّ الأرفق بإنزال الميِّت في قبره هم الأقارب، كما لا يبعدُ أنَّ في تصدِّيهم أنفسهم لإنزاله مزيداً من التكريم، فلعلَّ مثلَ هذه الحيثيَّات مانعٌ من الحكم بكراهة الإنزال وإنْ كان متَّحداً مع الحثو للتراب من جهة إقتضائهما معاً للقسوة.

وبتعبير آخر: إنَّ تزاحم الملاكات في إنزال الأقارب لميِّتهم قد يقتضي واقعاً ترجيح ملاك الإباحة بالمعنى الأخص أو حتى الاستحباب على مِلاك الكراهة، وحيث إنَّ من غير المُحرَز ما هو الراجح عند المشرِّع في فرض تزاحم المِلاكات لذلك لا يمكن اِستكشاف الكراهة الشرعيَّة للإنزال لمجرَّد إحراز اشتمالِه على ملاك الكراهة بعد احتمال مزاحمة هذا الملاك بملاكاتٍ أُخرى مقتضيةٍ للإباحة أو الاستحباب.

وجهٌ آخر للبناء على كراهة نزول الأقارب قبر ميِّتهم: 

وهنا وجهٌ آخر قد يُستدلُّ به على كراهة إنزال مُطلق الأقارب لميتِّهم وهو أنَّ مناط النهي عن إنزال الوالد لولده المنصوص على كراهته متحقِّق في إنزال مُطلق الأقارب لميِّتهم، وهذا المناط هو الخشية من الإبتلاء بالجزع حين رؤية الميِّت مسجَّى وسط اللحد وقد كُشف عن وجهه ووضع خدّه على وسادةٍ من تراب، فهذا هو مناطُ الكراهة في إنزال الوالد لولده في قبره كما ورد ذلك في رواية علي بن عبد الله قال: سمعتُ أبا الحسن موسى (ع) قال: -في حديث عن عليٍّ (ع)- لما قُبض إبراهيم بن رسول الله (ص) قال: ياعلي، إنزل فألحِدْ ابني، فنزل (ع) فأَلحدَ إبراهيم في لحدِه، فقال الناس: إنَّه لا ينبغي لاحدٍ أنْ ينزل في قبر ولده، إذ لم يفعل رسول الله (ص)، فقال لهم رسول الله (ص): يا أيُّها الناس إنَّه ليس عليكم بحرام أن تنزلوا في قبور أولادِكم ولكنِّي لستُ آمنُ إذا حلَّ أحدُكم الكفن عن ولده أنْ يلعبَ به الشيطان فيدخلُه عند ذلك من الجزع ما يُحبط أجرَه، ثم انصرفَ (ص)"(5).

فحيث إنَّ مناط الكراهة المذكور في الرواية متحقِّق لمُطلق الأقارب لذلك يصحُّ البناء على تعميم الكراهة لإنزال مُطلق الأقارب لقريبِهم.

الجواب عن هذا الوجه:

والجواب عن ذلك أنَّ مناط الكراهة لو سُلِّم تحقُّقُه في ذوي القرابة القريبة فإنَّ من غير المسلَّم تحقُّقه في مطلق الأقارب، على أنَّ مستوى الخشية من الجزع عند الأب ليس هو كمستوى الخشية منه عند غيره من ذوى القرابة القريبة فضلاً عن غيرهم، ولعلَّ ما أوجب الكراهة هو هذا المستوى الذي يكون عند الأب، فالاتِّحاد في المناط بعد هذا الاحتمال ليس مُحرَزاً.

والمتحصَّل انَّه لا دليل على كراهة نزول غير الأب من الأقارب قبر ميِّتهم لإنزاله بل لعلَّ الراجح هو خلاف ذلك، فقد ورد في رواية محمد بن عجلان انَّه سمع ابا عبد الله (ع) يقول: فاذا أدخلته الى قبره فليكن أولى الناس به عند راسه، ولْيَحسرْ عن خدِّه وليُلصِقْ خدَّه بالارض، وليذكرِ اسم الله .."(6) فإنَّ أولى الناس بالميِّت هو أقربُهم إليه نسباً وأولاهم بميراثه.

نزولُ أقاربِ المرأة لقبرها:

وأمَّا المرأة فلم يختلف الفقهاء في عدم كراهة نزول أقاربِها من المحارم إلى قبرِها لإنزالها بل ادُّعي الإجماع على رجحانِ نزول المحارم لإنزالها سواءً كانوا من الأقارب أو ممَّن تربطُهم بها علاقة المصاهرة، ويدلُّ على ذلك معتبرةُ السكوني، عن أبي عبد الله (ع) قال: قال أميرُ المؤمنين (ع): مضت السُنَّة من رسول الله (ص) أنَّ المرأة لا يدخل قبرَها إلا مَن كان يراها في حياتِها"(7).

نعم، الأولى من سائر المحارم هو الزوجُ، ويدلُّ على ذلك مثلُ معتبرة اسحاق بن عمَّار، عن أبي عبد الله (ع) قال:"الزوجُ أحقُّ بامرأتِه حتى يضعَها في قبرِها"(8).

وإذا إحتاج إلى مَن يُعينه فالأولى بالزوج أن يأخذ الطرفَ الأسفل منها، ويأخذُها ممَّا يلي كتفيها أحدُ أرحامِها من المحارم، ويُستأنس ذلك من رواية زيدِ بن عليٍّ، عن آبائه، عن أمير المومنين (ع) قال: يكونُ أولى الناس بالمرأة في مؤخرِها"(9).

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج3 / ص191.

2- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج3 / ص190.

3- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج3 / ص185.

4- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج3 / ص186.

5- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج3 / ص186.

6- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج3 / ص176.

7- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج3 / ص187.

8- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج2 / ص531.

9- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج3 / ص188.