سند: "حُبِّب إليَّ من الدنيا ثلاث"

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

الحديثُ النبويُّ القائل: "حُبِّب إليَّ من الدنيا ثلاث: النساء والطيب، وجُعلت قُرَّةُ عيني في الصلاة"(1) هل هو حديثٌ صحيح؟ وهل المقصودُ من النساء هو أصلُ الزواج أم تعدُّد الزوجات؟ ولماذا جاءت الصلاة بعد الطيب والنساء رغم أنَّها عمودُ الدين؟

الجواب:

الحديث المذكور بهذه الألفاظ ليس صحيحاً من حيثُ السند فقد أورده الشيخُ الصدوقُ في الخصال -بحسب نقل صاحب الوسائل- بسندٍ ضعيف إلى أنس بن مالك عن النبيِّ (ص) قال: "حُبِّب اليَّ من الدنيا ثلاث: النساء، والطيب، وجُعلت قُرَّةُ عيني في الصلاة".

ومنشأُ الضعفِ: هو اشتمالُ سنده على مَن لم يرد فيهم توثيق في كتبنا الرجاليَّة وغيرها.

وأورد الشيخُ الصدوق في الخصال الحديث بسندٍ آخر ضعيفٍ أيضاً عن أنس بن مالك إلا أنَّه لم يشتملْ على كلمة "ثلاث"، قال: قال النبيُّ (ص): حُبِّب اليَّ من دنياكم النساء، والطيب، وجُعل قُرَّةُ عيني في الصلاة"(2).

على أنَّ نسخةَ الخصال المُتداولة خاليةٌ من كلمة "ثلاث" في الطريق الأول أيضاً خلافاً لما ورد في الوسائل نقلاً عن الخصال، وقد ذكر المحقِّقُ لكتاب الخصال أنَّ كلمة "ثلاث" قد زِيدت في بعض النسخ ولا أصل لها، وسواءً تمَّ هذا الذي أفاده المحقِّقُ لكتاب الخصال أو لا فإنَّه لا يُمكن إحراز اشتمال الرواية على كلمة "ثلاث" بعد أنْ كانت النسخُ مختلفةً من حيثُ إثبات هذه الكلمة وعدم إثباتِها في متن الرواية.

ولعلَّ ما يُؤيد أنَّ كلمة "ثلاث" ليست من الرواية وأنَّها قد زِيدت عليها هو أنَّ أكثر طُرق الرواية في كتب العامَّة خاليةٌ من كلمة "ثلاث"، وحيثُ إنَّ من الواضح أنَّ الشيخ الصدوق قد أخذ الرواية من طُرق العامَّة وليس من طرقِنا لذلك يكون خلوُّ طرقِهم من كلمة "ثلاث" مؤيِّداً لخلوِّ الرواية من هذه الزيادة في الطريق الذي ذكره الصدوق.

قال الفتني في كتابه تذكرة الموضوعات وفي المقاصد "حُبِّب إليَّ النساء والطيب، وجُعلتْ قُرَّةُ عيني في الصلاة" ثبت عن جماعة، وما اشتهر من زياده لفظ ثلاث فلم أقف عليها إلا في موضعين من الإحياء وفي آل عمران من الكشَّاف، وما رأيتُها في شيءٍ من طُرقِ هذا الحديث بعد مزيد التفتيش، وبه صرَّح الزركشي وشيخُنا قال العقيلي ليست هي في شيءٍ من كُتب الحديث"(3).

وقال الشوكاني في كتابه نيل الأوطار: "قال الحافظُ قال شيخُ الإسلام زينُ الدين العراقي في أماليه وصرَّح بأنَّ لفظ ثلاث ليس في شيءٍ من كُتب الحديث وأنَّها مُفسِدةٌ للمعنى، وكذلك قال الزركشي وغيرُه وقال الدماميني: لا أعلمها ثابتةً من طريقٍ صحيحة"(4).

وكيف كان فالحديثُ الذي أوردَه الصدوق (رحمه الله) في الخصال ضعيفُ السند، ولم يرد من طرقِنا وإنْ ذكرَه الصدوقُ في كتابِه، على أنَّ اشتماله على كلمة ثلاث ليس ثابتاً عندنا بل هو ليس ثابتاً في طُرق العامَّة وإنْ اشتهرَ على الألسُن.

وأما معنى الرواية: فإنَّه يستقيمُ بعد إتِّضاح خلوُّها من كلمة "ثلاث"، ولو كانت الرواية مشتملة على كلمة "ثلاث" لكان مقتضى ذلك أنَّ الصلاة من شؤون الدنيا كما هي النساء والطيب، وذلك لا يصحُّ إلا مع التكلُّف في التأويل، وحيثُ اتَّضح أنَّ كلمة "ثلاث" ليست من الرواية يكون المراد منها -بعد تجاوز ضعفِ سندِها- واضحاً، فمعنى: "حُبِّب إليَّ من الدنيا أو من دنياكم النساء والطيب" هو أنًّ أمرين من الدنيا مُحبَّبان للنبيِّ الكريم (ص) وهما النساء والطيب، وأمَّا الصلاة فالحديثُ عنها كان كلاماً مستأنَفاً، لذلك فالواو في قوله (ص): "وجُعلتْ قُرَّةُ عيني في الصلاة" ليست عاطفة بل هي واوٌ استئنافية بمعنى أنَّ الكلام الذي جاء بعدها ليس متَّصلاً بما قبلها كما هو شأنُ الواو العاطفة، وعليه فليست الصلاة ممَّا حُبِّب إليه من الدنيا، وأنَّ الذي حُبِّب إليه من الدنيا بمقتضى الرواية يتمحَّض في النساء والطيب ثم إنَّ النبيَّ (ص) استأنف كلامًا جديداً فأفاد إنَّ الله تعالى قد جعل قُرَّة عينِه في الصلاة، ومعنى ذلك أنَّ منتهى ما تستريحُ إليه نفسُه هي الصلاة، فليس من شيءٍ يُضاهي الصلاة في قلبِ رسول الله (ص) فهي التي ينشرحُ لها صدرُه، ويبتهجُ لها قلبُه، وتسكنُ عند أدائها روحُه، فهذا هو معنى أنَّ الصلاة كانت قُرَّة عينِ الرسول (ص).

مؤدَّى قولِه (ص): "حُبِّب إليَّ من دنياكم النساء:

ثم إنَّ مؤدَّى قولِه (ص): "حُبِّب إليَّ من دنياكم النساء والطيب" هو أنَّ شيئاً من ملاذِّ الدنيا رغم كثرتِها واختلافِ مذاقها ليست مورداً لأُنسِ رسول الله (ص) فهو لا يعبأُ بشيءٍ منها ما عدا الأمرين المذكورين، فإنَّ ذلك هو غايةُ ما أصابَه النبيُّ (ص) من ملاذِّ هذه الدنيا كما في معتبرة حفص بن البختري، عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رسولُ الله (ص): (ما أُصيب) من دنياكم الا النساء والطيب"(5)، فلم يكن قد اتَّخذ لنفسِه المساكن الفارهة والمفارش الناعمة، ولا تنوَّقَ في الأطعمةِ والأشربة، ولا اصطفى لنفسِه مايلبسُه المترَفون حتى بعد أنْ فتح اللهُ تعالى عليه فدانت له كلُّ جزيرةِ العرب.

فقد أكدت الروايات أنَّه "ما أكل رسولُ الله (ص) خبزَ بُرٍّ قط، ولا شبع من خبز شعيرٍ قط" كما في معتبرة العِيص بن القاسم عن أبي عبدالله (ع)(6).

وروى الطبرسي في مكارم الأخلاق أنَّ رسول الله (ص) لم يأكلْ على خوانٍ قط حتى مات، ولا أكل خُبزاً مرقَّقاً حتى مات"(7).

"ولقد كان يأكلُ الشعير إذا كان غيرَ منخولٍ خبزاً أو عصيدةً في حالة كلِّ ذلك كان يأكلُ صلَّى الله عليه وآله"(8).

ورُوي عن الصادق (ع) أنَّه قال: "كان قوتُ رسولِ الله (ص) الشعير، وحلواهُ التمر، وإدامُه الزيت"(9).

وروت إحدى زوجاتِه، قالت: "كانت تأتي علينا أربعون ليلةً وما يُوقدُ في بيتِ رسولِ الله (ص) مصباحٌ ولا غيره قال: قلنا: أي أُمَّاه فبِمَ كُنتم تعيشون قالتْ: بالأسودين التمر والماء"(10).

وعن عائشة قالت: "دخلتْ عليَّ امرأةٌ من الأنصار فرأت فِراش رسولَ الله عباءةً مثنيَّة، فبعثتْ بفراشٍ حشوهُ الصوف، فدخل عليَّ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله سلم) فقال: ما هذا؟! قلتُ: بعثتْ فلانة فقال: ردِّيه يا عائشة فواللهِ لو شئتُ لأجرى اللهُ معي جبالَ الذهبِ والفضَّة، فلم أردَّه، وأعجبني أنْ يكونَ في بيتي، حتى قال ذلك ثلاثَ مرات"(11).

وعن أبي السليل قال: أخبرني أبي قال: شهدتُ النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله وسلم) وهو جالسٌ في دار رجلٍ من الأنصار يُقال له: أوس بن حوشب، فأُتي بعسٍّ فوُضع في يدِه فقال: ما هذا؟ فقالوا: يارسول الله لبنٌ وعسل، فوضعه في يدِه ثم قال: هذا شرابانِ لا نشربُه ولا نحرِّمه، ومَن تواضعَ رفعَه الله، ومن تجبَّر قصمَه الله، ومن أحسن تدبيرَ معيشتِه رزَقَه"(12).

وأمَّا النساء فهو وإن كان قد تزوَّج بالعديد منهنَّ إلا أنَّ أكثرهنَّ كنَّ من المطلَّقات والأرامل وذوات السنِّ المتقدِّم بل لم يتزوَّج من الأبكار إلا واحدة أو إثنتين على الخلاف، وكان بوسعه أنْ يصطفيَ من الأبكار مَن شاء من نساء العرب، وأنْ يختار أكثرَهنَّ جمالاً إلا أنَّه لم يفعلْ ولم يرغبْ أنْ يفعل، ورغم ذلك عدَّ نفسه -بناءً على الرواية- ممَّن حُبِّب إليه من دنيا هؤلاء الناس النساء شأنُه في ذلك شأنُ مَن يصوم دهره فإذا أفطر أياماً ثلاثة أو أربعة عدَّ نفسه قد أفطر أياماً كثيرة، وكذلك هو شأنُ مَن لا يأكل في يومِه كلِّه إلا رغيفاً واحداً فإذا اتَّفق أنَّه زاد على ذلك قليلاً عدَّ نفسه قد أكلَ كثيراً.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج2 / ص144.

2- الخصال -الشيخ الصدوق - ص165.

3- تذكرة الموضوعات -الفتني- ص125.

4- نيل الأوطار -الشوكاني- ج1 / ص157.

5- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج2 / ص143.

6- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج24 / ص244.

7- مكارم الأخلاق -الشيخ الطبرسي- ص28.

8- مكارم الأخلاق -الشيخ الطبرسي- ص28.

9- مستدرك الوسائل -الميرزا النوري- ج16 / ص334.

10- المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج4 / ص106.

11- كنز العمال -المتقي الهندي- ج7 / ص188.

12- كنز العمال -المتقي الهندي- ج7 / ص189.