نفيُ السهِو عن النبيِّ (ص)

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ماذا تقولونَ في رواياتِ سهوِ النبيِّ (ص) في الصلاة المنقول بالطرقِ الصحيحةِ وغيرها حتى بلغتْ درجةَ الاستفاضة، فهل تتعارضُ هذه الروايات مع العصمةِ الواجبة، فيجب ردُّها خصوصاً وأنَّها نصٌّ في المُراد لا تقبلُ التأويل، أو تُحملُ على التقيَّة ؟ وإذا كان كذلك فما هو الوجهُ في حملِها على التقيَّة فهل كان العامَّةُ يذهبون إلى ذلك في قِبال الإماميَّة؟

 

الجواب:

مثلُ هذه الروايات منافيةٌ لما ثبت بالأدلَّة القطعيَّة على عصمة النبيِّ الكريم (ص) عن الخطأ والسهو والغفلة مُطلقاً حتى في الموضوعات الخارجيَّة.

 

الوجه في البناء على العصمة في الموضوعات الخارجيَّة:

فمن الأدلَّة -غير النقليَّة المتواترةِ إجمالاً- على أنَّ العصمةَ لا تختصُّ بتلقِّي الوحي وتبليغِه بل تشملُ حتى الموضوعات الخارجيَّة الخطيرِ منها والحقير هو انَّه لو جاز وقوعُ الخطأ والسهو على النبيِّ الكريم (ص) في الموضوعات لكان ذلك مُفضياً للشكِّ وعدمِ الوثوق بصحَّة كلِّ ما ينسبُه للوحي وما يُبيِّنه من أحكامٍ وسائر شؤونات الدين والشريعة لا أقلَّ أنَّه يُفضي لذلك عند العامَّة من الناس، إذ أنَّهم لا يرون فرقاً بين الأمرين، فإنَّه إذا جاز عليه السهوُ والنسيانُ والخطأُ في الموضوعات الخارجيَّة خصوصاً في مثل الصلاة التي هي عمودُ الدين وتسترعي بحسب التوصيات الشرعيَّة الأكيدة تركيزًا مُضاعفاً واهتماماً بالغاً، فإذا جاز عليه السهوُ في مثلِها فإنَّه يجوزُ عليه السهوُ والخطأُ ولو في الجملة فيما يُبيِّنه من أحكامٍ وتشريعاتٍ، ومن ذلك يتسرَّبُ الاحتمال أو حتى الظنُّ إلى أوهام الناس بأنَّ النبيَّ (ص) قد لا يكون مُصيباً في تبيانه لبعض الأحكامِ والمعارف أو يكون قد كُلِّف ببيانِ بعض الأحكام والمعارف الدينيَّة فنسيَ بعضَها أو بعضَ حيثيَّاتِها بل قد يسهو فيبلِّغ ما لم يُؤمرْ بتبليغِه، وبذلك ينهدمُ أساسُ الدين القويم، إذ انَّ أساس الدين وقوامَه هو التصديقُ بما جاء به النبيُّ (ص) والاعتقادُ بمطابقة كلِّ ما أخبرَ به وبيَّنه للواقع، فليس لدين الله تعالى -اِبتداءً بالقرآن واِنتهاءً بأبسط الأحكام والآداب- من طريقٍ إلا ما يُخبرُ به النبيُّ(ص) ويُبيِّنه. فإذا تسلَّل الشكُّ إلى ذلك تعذَّر على الناس تحصيلُ الاعتقاد القطعي بما يُبيِّنه النبيُّ الكريم (ص) ويُخبرُ عنه، إذ أنَّ القطع لا يجتمعُ مع احتمال وقوعِ الاشتباه والخطأ للنبيِّ (ص). وبذلك ينتفي الوثوقُ بصوابيَّة كلِّ ما جاءَ به النبيُّ الكريم (ص).

 

هذا مضافاً إلى أنَّ البناء على جواز وقوع الخطأِ والسهوِ على النبيِّ (ص) في الموضوعات يفتحُ بابَ الطعنِ على النبيِّ (ص) وعلى الإسلام من قِبَل المنافقين والكفَّار لأنَّهم سيقولونَ إذا كان النبيُّ (ص) يسهو وينسى فإنَّ من الجائز أنَّه نسيَ أموراً كُلِّفَ ببيانِها أو أنَّه غفِل أو نسيَ بعضَ شرائطِها وحيثيَّاتها أو توهَّم أموراً أنَّها من الدين وهي ليستْ من الدين، فإنَّ السهوَ والخطأَ والغفلةَ والاِشتباهَ تنزَعُ عن مصدرٍ واحد، فلا يسعُنا الاِطمئنانُ بقولِه وفعلِه وتقريرِه، فلعلَّ شيئاً أقرَّه وهو ليس من الدِّين، ولعلَّه لم يلتفتْ إليه فسكتَ عنه فكان ذلك تقريراً رغم أنً سكوتَه نشأ عن الغفلة، ولعلَّه فعَلَ شيئاً وهو في حالةِ ذهولٍ وغفلةٍ، وحينئذٍ كيف يسعُنا أنْ نجعلَ من فعلِه سُنَّةً متَّبعة.

 

هكذا سيقولون لو وقفوا للنبيِّ (ص) على هفوةٍ أو سهوٍ أو نسيانٍ أو خطأٍ في الموضوعات الخارجيَّة، أمَّا إذا وجدوه رغم الترصُّد مُستجمِعَ الحواس حاضرَ القلب في كلِّ شؤوناتِه وآناته فحينذاك لا يكون لهم مدخلٌ إلى الطعن ولا يسعُهم تفنيدُ دعواه العصمةَ فيما يُبلِّغه من أحكامٍ وفيما يُخبرُ به عن ربِّه جلَّ وعلا، لأنَّهم لم يجرِّبوا عليه غفلةً ولا سهواً ولا نسياناً في أحقر الأمور، ولو ادَّعى أحدُهم احتمال سهوِه لكذَّبته الوقائع، ولما أصغى إلى دعواه أحد.

 

والمتحصَّلُ إنَّ واحداً من العلل التي نشأ عنها جعلُ العصمة للنبيِّ الكريم (ص) هو أنْ يطمئن الناسُ إلى أنَّ كلَّ ما يصدرُ عن النبيِّ (ص) من بيانٍ للأحكام والمعارف وبأنَّ كلَّ مايُخبِرُ به عن الوحي فهو دينُ الله ومن عنده تعالى وأنَّه ليس فيه شيءٌ -وإنْ قلَّ وحقُرَ- ليس من عنده جلَّ وعلا، فالنبيُّ (ص) مبلِّغٌ في كلِّ ما يُبينُه ويُخبرُ به عن الله جلَّ وعلا، فلو لم يَجعلْ له العصمةَ فإنَّ من غير المُمكن أنْ يطمئنَ الناس بأنَّ كلَّ ما يَنسبُه النبيُّ (ص) للدِّين هو مِن الدِّين.

 

ومن ذلك يتبيَّن انَّ جعلَ العصمةَ للنبيِّ (ص) في تلقِّي الوحي وتبليغِه وعدمَ جعل العصمة له في الموضوعات يُفضي إلى نقضِ الغرض من جعلِ العصمة في الوحي وتبليغِه، لأنَّه تعالى إذا كان من غرضِه أنْ يُطمئِنَ الناسُ إلى أنَّ كلَّ ما ينسبُه النبيُّ (ص) للدين فهو من الدين واقعاً فإنَّ هذا الغرض غيرُ قابلٍ للتحقُّق لو وجدَ الناسُ نبيَّ اللهِ (ص) يُخطأ ويسهو في الموضوعات الخارجيَّة، لأنَّ خطأه في الموضوعات يسلبُ منهم الوثوقَ قهراً في عصمتِه عن الخطأ فيما ينسبُه إلى الدين، لأنَّهم لا يرونَ فرقاً بين الأمرين، فحين يجدونه يسهو في الصلاة فيُصلِّي ركعتين ويتوهَّمُ أنَّها أربع ويظلُّ على وهمِه فلا يلتفتُ إلا بعد التنبيهِ له من قِبَل بعض المصلِّين، وحين يجدونه يُصلِّي بهم خمساً وهو يتوهَّم أنَّها أربعُ ركعات، وحين يجدونَه يُصلِّي وهو على جنابةٍ، فلا يلتفتُ إلا بعد أو أثناء الصلاة يقطعها فيخرجُ ويغتسلُ ثم يعود فيصلِّي بهم ويعتذرُ عن ذلك بنسيان الجنابة أو يجدونَه يقرأُ سورةً في الصلاة فيُسقط بعض آياتِها نسياناً فلا يتثبَّت من نسيانِها إلا بعد أنْ يُلفته إلى ذلك أحدُ المصلِّين بعد الصلاة، وكذلك لو وجدوه في تقسيم الغنائم قد نسي أنْ يُقسِم لبعض المجاهدين رغم استحقاقِه، وحين يُنبَّه على ذلك يعتذرُ بالغفلةِ أو النسيان، ولو وجدوه يُخطأ في القِسمة أو ينسى بعضَ المستحقِّين للزكاة أو ينسى فيشربُ الماء أو يأكلُ الطعام في يومٍ كان فيه صائماً أو يطوفُ حول البيت ستة أو ثمانية أشواط وهو يعتقدُ أنَّه طاف سبعاً أو يأتي ببعض تروكات الإحرامِ ويعتذرُ بنسيان الإحرام أو نسيان أنَّه من التروكات أو يُخبرُه أحدُهم عن أمرٍ ثم حين يراجعُه يجدُه قد نسيَ ما كان قد أخبرَه به أو نسيَ إنجاز ما وعدَه بإنجازه أو يُعجلُه أمرٌ فيغفل عن أنْ يُسوِّي عليه ثيابَه وثمة ناظرٌ محترم أو أنَّه يُريد أنْ يزجرَ دابَّته فيُوجع رجلاً بالسوط خطأ.

 

كلُّ ذلك ومثله -الذي ورد في روايات العامَّة- لو أمكن صدورُه من النبيِّ الكريم (ص) لأفضى إلى عدم الوثوق بعصمتِه في تبيان الأحكام والوحي، ذلك لأنَّ عامَّة الناس يرون أنَّه إذا جاز عليه السهوُ في الموضوعات الخارجيَّة فما الذي يمنعُ من وقوع السهوِ عليه حين تلقِّي الوحي وحين تبليغِه وبيانِ الأحكام، وبذلك لن ترقى إخبارتُه عند الناس عن مستوى الظنِّ بالصدقِ والمطابقة للواقع شأنُه في ذلك شأن الثقاة من الرواة اللذين يجوز عليهم الخطأُ والغفلةُ والاِشتباه، وهذا مالا يسعُ مسلماً ملتفتاً الإلتزامُ به.

 

ولهذا يتعيَّن طرحُ هذه الروايات أو حملُها على التقيَّة وهو الأرجح في المقام، وذلك لوضوح أنَّ هذه الروايات ناظرةٌ إلى ما أوردته طرقُ العامَّة من خبر ذي الشمالين واعتمدتْه في إثبات دعوى جواز وقوع السهوِ على النبيِّ الكريم(ص).

 

منشأ حمل روايات سهو النبيِّ (ص) على التقية:

والمصحِّح لحملِ رواياتِ سهو النبيِّ (ص) الواردةِ من طرقنا على التقيَّة هو أنَّها معارَضة في موردِها برواياتٍ أُخرى، وقد ثبت أنَّه إذا تعارضتْ روايتان أو طائفتانِ من الروايات واستحكمَ التعارضُ بينها وكانت احدى الروايتين أو الطائفتين موافقةً لمَذهب أو روايات العامَّة فإنَّ الترجيح يكون للروايات المخالفة للعامَّة وتكونُ الطائفة من الروايات الموافقة للعامَّة ساقطة عن الاعتبار والحجيَّة، وحيث إنَّ رواياتِ سهو النبيِّ (ص) موافقةٌ لروايات العامَّة بل ولمذهبِهم ومعارَضةٌ في موردها برواياتٍ أخرى واردة من طرقِنا لذلك يكون المتعيَّن البناءَ على صدور الرواياتِ الموافقة للعامَّة تقيةً فتكون بذلك ساقطةً عن الاعتبار والحجيَّة، وهذا هو المعبَّر عنه في الأصول بالمرجِّح الجهتي.

 

فمن الروايات المعارضة لرويات سهوِ النبيِّ (ص) في موردِها موثَّقة زرارة قال: سألتُ أبا جعفرٍ (ع): هل سجدَ رسولُ الله (ص) سجدتي السهو قطُ؟ فقال: "لا، ولا سجدهما فقيه"(1).

 

فهذه المعتبرةُ تنفي أن يكون النبيُّ (ص) قد سجدَ سجدتي السهو نفياً قاطعاً طيلةَ عمره الشريف حيثُ إنَّ سؤال زرارة كان عن وقوع السجود للسهو ولو لمرَّةٍ واحدة قال: "هل سجَدَ رسولُ الله (ص) سجدتي السهو قطُ؟" فجاء الجوابُ بالنفي ومعناهُ نفيُ سجودِ النبيِّ (ص) للسهو بالمُطلق ولو لمرَّةٍ واحدة، وهذا ما يُنافي رواياتِ السهو كرواية سماعة التامَّة سنداً حيثُ اشتملتْ على أنَّ النبيَّ (ص) قد سجد سجدتي السهو، روى الشيخ الكليني بسنده عن سماعة بن مهران قال: قال أبو عبد الله (ع): من حفظ سهوه فأتمَّه فليس عليه سجدتا السهو، فإنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله صلَّى بالناس الظهرَ ركعتين ثم سها فسلَّم، فقال له ذو الشمالين: يا رسولَ الله أنزَلَ في الصلاةِ شيءٌ؟ فقال: وما ذلك؟ فقال: إنَّما صلَّيتَ ركعتين، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وآله: أتقولون مثلَ قولِه؟ قالوا: نعم، فقامَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله فأتمَّ بهمُ الصلاةَ وسجَدَ بهم سجدتي السهو.."(2).

 

وكذلك رواية سعيد الأعرج التامَّة سنداً قال: سمعتُ أبا عبد الله (ع) يقول: صلَّى رسولُ الله (ص) ثم سلَّم في ركعتين، فسألَه مَن خلفَه يا رسولَ الله (ص) أَحدثَ في الصلاةِ شيءٌ؟! قال: وما ذاك؟ قالوا: إنِّما صلَّيتَ ركعتين، فقال: أكذاك يا ذا اليدين؟ وكان يُدعى ذا الشمالين، فقال: نعم: فبنى على صلاتِه فأتمَّ الصلاةَ أربعاً، وقال: إنَّ اللهَ هو الذي أنساه رحمةً للأمَّة، ألا ترى لو أنَّ رجلاً صنع هذا لعُيِّر، وقيل: ما تُقبلُ صلاتُك، فمَن دخل عليه اليوم ذاك قال: قد سَنَّ رسولُ الله (ص) وصارتْ أُسوةً، وسجدَ سجدتين لمكانِ الكلام"(3).

 

كما أنَّ روايات السهو تُنافي مادلَّ من الروايات على فساد الصلاة ولزوم إعادتِها لمَن تكلَّم بكلام الآدمي متعمِّداً، والأوضحُ من ذلك منافاة مثل رواية أبي سعيد القمَّاط للروايات الدالة على أنَّ من أحدث في صلاتِه أو استدبرَ القبلةَ لزِمَه إعادة الصلاة لا البناء على ما مضى من صلاتِه بعد تجديد الوضوء أو بعد الاستقبال إلا أنَّ رواية أبي سعيد تدلُّ على خلاف ذلك.

 

روى الشيخ في التهذيب عن أبي سعيد القمَّاط قال: سمعتُ رجلاً يسأل أبا عبد الله (ع) عن رجل وجد غمزاً في بطنه أو أذى أو عصراً من البول وهو في صلاة المكتوبة في الركعة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة؟ فقال: إذا أصابَ شيئاً من ذلك فلا بأس بأنْ يخرج لحاجته؟ تلك فيتوضأ ثم ينصرف إلى مصلَّاه الذي كان يُصلِّي فيه فيبني على صلاته من الموضع الذي خرج منه لحاجتِه ما لم ينقض الصلاة بالكلام، قال: قلتُ: وإنْ التفت يميناً أو شمالاً أو ولَّى عن القبلة؟ قال: نعم، كلُّ ذلك واسعٌ، إنِّما هو بمنزلةِ رجلٍ سها فانصرف في ركعةٍ أو ركعتين أو ثلاثة من المكتوبة فإنَّما عليه أنْ يبنيَ على صلاتِه، ثم ذكر سهوَ النبيِّ (ص).(4)

 

فهذه الرواية معارِضة في موردها لرواياتٍ صحيحة وعديدة تدلُّ على أنَّ الحدث والاستدبار للقبلة يُوجبان إعادة الصلاة من رأس، ولذلك تُحمل رواية أبي سعيد على التقيَّة لموافقتِها للعامَّة حيثُ إنَّ ذلك هو مذهبُهم وكذلك تُحملُ أكثرُ رواياتِ سهو النبيِّ (ص) لأنَّها وإنْ لم تُفصِّل ما يُروى من خبر ذي الشمالين إلا أنَّها تُشير إليه بمثل، "فذكر له حديث ذي الشمالين" أو "ثم ذكر حديث ذي الشمالين" والواضحُ أنَّ هذه الروايات تُشير إلى ما روتْه العامَّة من تفصيل خبر ذي الشمالين الذي اشتمل على أنَّ الرسول (ص) قام بعد التسليم على الركعتين واستقبل المصلِّين وسألَهم ليتثبَّت من كلام ذي الشمالين ثم عاد فأتمَّ الصلاة، فتكون رواياتُ السهو الظاهرة في الاستدبار معارضة في موردِها بما دلَّ على أنَّ الاستدبار للقبلة موجبٌ لإعادة الصلاة.

 

وفي بعضِ رواياتِهم أنَّ النبيَّ (ص) حين سألَه ذو الشمالين أو ذو اليدين "أقصرتْ الصلاةُ يا رسول الله أم نسيت؟ قال النبيُّ (ص): "كلُّ ذلك لم يكن"(5) وذلك مناف لما أفاده القرآن من أنَّ كلَّ ما ينطقُ به النبيُّ (ص) فهو مطابق للواقع والحالُ أنَّ قولَه (ص) بحسب الرواية: "كلُّ ذلك لم يكنْ" منافٍ للواقع، لأنَّه قد سهى فأنقصَ من الصلاة ركعتين بحسب زعم الرواية!!

 

وبما ذكرناه يتَّضح أنَّ روايات سهو النبيِّ (ص) الواردة من طرقِنا لو فُرض صدورُها فهي صادرةٌ لأجل التقيَّة، لذلك لا يصحُّ الاحتجاجُ بها لما ثبتَ من أنَّ كلَّ خبرٍ صدر للتقيَّة فإنَّه لا يكون صادراً لبيان الواقع.

 

على أنَّ هذه الروايات لو لم تكن مبتليةً بالمعارِض في موردِها فإنَّها رغم ذلك تكونُ ساقطةً عن الاعتبار والحجِّية نظراً لمنافاتها للأدلة القطعيَّة القاضية بعصمةِ النبيِّ (ص) مُطلقاً حتى في الموضوعات الخارجيَّة.

 

قضية خزيمة شاهد على العصمة في الموضوعات:

ومن المناسب للمزيد من التأكيد على ما بيَّناه الإشارة إلى مفاد مارواه الكليني بسندٍ صحيح في قضية الصحابي الجليل خزيمةَ الأنصاري الذي عُرف بعد هذه القضية بخزيمةَ ذي الشهادتين، ومُحصَّل ما ورد في هذه القضيَّة أنَّ النبيَّ (ص) اشترى فرساً من إعرابي كان يعرضُها في سوقٍ في المدينة المنورة، وبعد أنْ اشتراها منه استمهلَه (ص) حتى يأتيَه بالثمن المتَّفق عليه بينهما، وبعد أنْ عادَ النبيُّ (ص) إلى الإعرابي بالثمن أنكر الإعرابي بيع الفرس، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه (ص): سُبْحَانَ اللَّه، بَلَى واللَّه لَقَدْ بِعْتَنِي ".. وعندئذٍ اجْتَمَعَ نَاسٌ كَثِيرٌ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع) ومَعَ النَّبِيِّ (ص) أَصْحَابُه إِذْ أَقْبَلَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيُّ فَفَرَّجَ النَّاسَ بِيَدِه حَتَّى انْتَهَى إلى النَّبِيِّ (ص) فَقَالَ: أَشْهَدُ يَا رَسُولَ اللَّه لَقَدِ اشْتَرَيْتَه مِنْه، فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: أتَشْهَدُ ولَمْ تَحْضُرْنَا، وقَالَ لَه النَّبِيُّ (ص) أشَهِدْتَنَا فَقَالَ لَه: لَا يَا رَسُولَ اللَّه ولَكِنِّي عَلِمْتُ أَنَّكَ قَدِ اشْتَرَيْتَ أفَأُصَدِّقُكَ بِمَا جِئْتَ بِه مِنْ عِنْدِ اللَّه ولَا أُصَدِّقُكَ عَلَى هَذَا الأَعْرَابِيِّ الْخَبِيثِ قَالَ: فَعَجِبَ لَه رَسُولُ اللَّه (ص) وقَالَ: يَا خُزَيْمَةُ شَهَادَتُكَ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ".(6)

 

فخزيمةُ قد شهِد للنبيِّ (ص) أنَّه قد اشترى الفرسَ من الأعرابي والحال أنَّه لم يكن قد حضرَ الواقعة ورغم ذلك قال له الرسولُ (ص): " يَا خُزَيْمَةُ شَهَادَتُكَ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ" وذلك تقريرٌ من النبيِّ (ص) بنفوذِ شهادةِ خزيمة بل والاِرتقاء بشهادتِه إلى شهادةِ رجلين أي أنَّه (ص) اعتبر شهادةَ خزيمة بيِّنةً كاملةً لا تحتاجُ إلى أنْ يَنضمَّ إليها شهادةُ رجلٍ آخر رغم أنَّ شهادةَ خُزيمة ليستْ على الضوابط لولم تكنْ لرسول الله (ص)، وذلك لأنَّ الشهادة المقبولة شرعاً يجبُ أن تكون عن حسٍّ ومعاينةٍ، وخزيمةُ لم يكنْ قد حضَرَ الواقعة ولكنَّه استدلَّ على شهادتِه بنبّوَّة المشهودِ له، وقد صوَّبَ النبيُّ (ص) ما استدلَّ به ورفع شهادتَه إلى مستوى البيِّنةِ الكاملة.

 

ووجه الاستدلال بهذه الرواية أنَّه لو لم يكنْ النبيُّ (ص) معصوماً عن الخطأ والاشتباه والنسيان لما صحَّت شهادةُ خزيمة لأنَّه وإنْ كان النبيُّ (ص) صادقاً ولا يصدرُ منه الكذب قطعاً إلا أنَّ غيرَ الشاهد للواقعة ينبغي أنْ يحتمِلَ أنَّ النبيَّ (ص) -لولم يكن معصوماً عن الخطأ والغفلة والسهو- ربَّما كان مُخطئاً في دعواه، فقد تكون الفرسُ التي اشتراها هي غيرَ هذه الفرس، وقد يكون الذي باعَه هو غيرَ هذا الأعرابي ولكنَّه اشتبَه فتوهَّمَ أنَّ الذي وقعتْ معه المعاملة هو هذا الأعرابي خصوصاً وأنَّ المعاملة قد وقعتْ في السوق، ويُحتمل أنَّ الأعرابي قد تقاول مع النبيِّ (ص) ولكنَّه لم يُنشأ معه عقدَ البيع فظنَّ اشتباهاً أنَّ البيع قد تمَّ، فمِن أجل هذا وشبهه لا تُقبل الشهادة إلا عن حسٍّ ومعاينةٍ وإنْ كان المشهودُ له في أعلى درجات الصدق، لأنَّ الصادق قد يشتبه أو يغفل أو ينسى، فقبولُ شهادةِ خزيمةَ واعتبارها بيِّنةً تامَّة دليلٌ قاطعٌ على أنَّ السهوَ والغفلةَ والنسيانَ لا يمكنُ احتمالُ وقوعِه من النبيِّ الكريم (ص) ولهذا ساغَ لخزيمةَ (رحمه الله) أنْ يشهدَ للنبيِّ (ص) وإنْ لم يكن قد حضَرَ الواقعة.

 

هذا جوابٌ إجماليٌّ للمسألة، ولولا ضيقُ الوقتِ والنفسِ لأفضتُ في الجواب.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج8 / ص203.

2- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 / ص356.

3- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج8 / ص204.

4- تهذيب الأحكام -الشيخ الطوسي- ج2 / ص355.

5- صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج2 ص87. / المدونة الكبرى -الإمام مالك- ج1 / ص135.

6- الكافي -الشيخ الكليني- ج7 / ص401.