تجدُّد النبوَّة والنبوَّة الخاتمة (1)

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَيْسَ مَعَهُ إِلَهٌ غَيْرُهُ، وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ صلّى الله عليه وآله.

 

عبادَ الله أُوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ والورعِ عن محارمِه، يقولُ اللهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾، ويقول جلَّ وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ / وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ / وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.

 

أما بعدُ فيقولُ اللهُ تعالى في محكمِ كتابِه المجيدِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾(1).

 

نقفُ عند فقرةٍ من هذه الآيةِ الشريفة وهي قولُه تعالى: ﴿وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾(2) الخاتميَّةُ تعتبرُ من القضايا الضروريَّةِ في الإسلام، والمرادُ من ضروريَّتها هو وضوحُها بمستوىً نشأ عنه القطعُ واليقينُ بصَوابيَّةِ وحقَّانيَّةِ مؤدَاها عند جميعِ المسلمينَ، فختمُ الرسالاتِ برسالة النبيِّ محمدٍ (ص) أمرٌ لا يمكنُ أنْ يتطرَّقَ إليه الشك، لذلك فكلَّ مسلمٍ يدينُ بالإسلامِ ولا يعتقدُ بخاتميَّةِ الرسالةِ الإسلاميَّة فإنَّه يكونُ منكراً لضرورةٍ من ضروريَّات الدينِ ومكذِّباً للقرآنِ المجيدِ وللرسولِ الكريم (ص)، فما من أحدٍ يُؤمنُ بالرسول (ص) وبالقرآنِ الذي أُنزلَ من عندِ الله إلا ويلزمُه الإيمانُ بخاتميَّةِ الإسلامِ للأديان.

 

وقد نصَّت الآيةُ الشريفةُ ورواياتٌ كثيرةٌ تفوقُ حدَّ التواترِ الإجمالي على هذه القضيَّةِ، ومن هذه الرواياتِ ما ثبتَ بالتواترِ اللفظي من طرقِ الشيعةِ والسُنَّة، وهي قولُ الرسولِ (ص) لعليِّ بن أبي طالب (ع) في مواضعَ متعدِّدةٍ "أنتَ منِّي بمنزلةِ هارونَ من موسى إلا أنَّه لا نبيَّ بعدي"(3)، فهذا الحديثُ الشريفُ قد تحدَّثَ به الرسولُ (ص) في مواضعَ متعدِّدةٍ، لذلك نقلَه أكثرُ أربابِ الحديثِ من الفريقين، وأشهرُ واقعةٍ صدعَ فيها الرسولُ (ص) بهذا الحديثِ الشريفِ هي عندما نصَّبَ عليًاً (ع) قيِّماً على المدينةِ المنوَّرة حينَ خروجِه إلى تبوك لمواجهةِ الرومانِ الذين كانوا يتحضَّرون لاجتياحِ المدينةِ المنوَّرة، حينذاك كان الرسولُ (ص) قد عبَّأ جيشاً لم يسبقْ له نظيرٌ من حيثُ العددِ في تاريخِ الإسلامِ القصير، وخلَّف عليَّاً (ع) قيِّماً على المدينة، وبعد أنْ فرِغَ الرسولُ (ص) من تعبئةِ الجيشِ المعبَّرِ عنه بجيش (العُسرة) وخرجَ به إلى أطرافِ المدينة خرج معه عليٌّ يُشيِّعُه ويُودِّعُه فوجدَ الرسولُ (ص) في وجهِ عليٍّ (ع) ما يُعبِّرُ عن حزنه لعدم مرافقتِه له حينذاك خاطبَه على مسمعٍ ومشهدٍ من المسلمين فقال: "أما ترضى يا عليُّ أنْ تكون منِّي بمنزلةِ هارونَ من موسى إلا أنَّه لا نبيَّ بعدي"(4).

 

الحاجة إلى قيِّم على المسلمين:

لم يكن الرسولُ الله (ص) في مسيرِه إلى تبوكَ بحاجةٍ إلى قائدٍ عسكري لعلمِه أنَّ حرباً لن تقعَ، وإلا كان أجدرَ الناسِ بمرافقتِه هو عليُّ بن أبي طالب (ع) فهو فارسُ الإسلامِ الأولِ، وفاتحُ الحصونِ وحاملُ اللواءِ الأعظمِ في كلِّ الغزواتِ التي قادَها الرسولُ (ص)، أجمعَ على ذلك المسلمونَ قاطبة.

 

كان الرسولُ (ص) في تلك المرحلةِ الدقيقةِ التي تقتربُ من رحيلِه إلى ربِّه أحرصَ شيءٍ على التعريف بعليٍّ (ع) وأهليتِه للقيامِ مقامَه في ادارةِ شئونِ الأمةِ بعد غيابِه لذلك لم يُفوِّتِ الرسولُ (ص) هذه الفرصةَ التاريخيَّة ليقولَ للناس، إنَّ عليًاً هو القيِّمُ والمعلِّمُ للمسلمينَ بعدي: "أما ترضى أنْ تكون منِّي بمنزلةِ هارونَ من موسى إلا أنَّه لا نبيَّ بعدي"(5) فهو (ص) بهذه النصِّ القصيرِ والذي هو من جوامعِ الكلِم نصَّ على انَّه الخاتمُ للأنبياءِ ولكنَّ خاتميَّته لا تعني استغناءَ البشريةِ عن الوحي، أراد أنْ يقولَ إنَّ الوحي يتمُّ به والدينُ يكمُلُ قُبيل رحيله ولكنَّ البشريةَ بعده ستظلُّ مفتقرةً إلى أمرين إلى معلِّمٍ ومبيِّنٍ لما جاءَ به الوحي، وإلى قيِّمٍ يسوسُ العباد، ويُديرُ دفَّة الحكم، ويرعى شئونَ الأمةِ، ويحفظُ بيضةَ المسلمين، ويضمنُ للإسلام الخلودَ والبقاءَ والاستمرارَ والحيويَّةَ والعطاء، وليس لذلك كلِّه رجلٌ جديرٌ بحمل أعبائه سوى عليٍّ (ع).

 

قيِّمٌ يستخرج للناس معطيات القرآن:

فالإسلامُ جاء ليبقى وكذلك القرآنُ جاءَ ليبقى فهو كالشمسِ والقمرِ -كما في الروايات- فكما أنَّ الشمسَ والقمرَ في تجدُّدٍ دائمٍ ما دامتِ السماواتُ والأرضُ فكذلك هو القرآنُ في تجدُّدٍ دائمٍ وحيويَّةٍ لا يعتريها سكونٌ وعطاءٍ دؤوبٍ وأبديٍ، لكنَّنا لا نفهمُ القرآنَ بكلِّ معطياتِه ولا نُحيطُ بمقاصدِه ولا يسعُنا الاستيعابَ لدقائقِ معانيه لذلك فكما كانت الأمةُ بحاجةٍ إلى معلِّم هو النبيُّ (ص) ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾(6) كذلك فالناسُ بحاجةٍ إلى معلِّمٍ بعد النبيِّ (ص) والمعلِّمُ بمقتضى حديثِ المنزلةِ هو عليٌّ (ع)، فرسولُ الله (ص) يُشير بهذا النصِّ إلى ما هو المبرِّرُ لختمِ النبوَّة.

 

حيثُ انَّ السؤال ملحٌّ، كيف تُختمُ النبوَّةُ؟ وكيف تنقطعُ الرسالاتُ والتي امتدَّتْ بامتدادِ وجودِ الإنسانِ على هذه الأرض ؟ هل استغنى الإنسانُ عن الوحي؟ هل صار له أنْ يستقلَّ عن تعاليمِ السماء؟ هل كمُلَ عقلُه؟ وهل كمُلتْ روحُه؟ هل أصبحَ الإنسانُ والمجتمعُ الإنسانيُّ في عافيةٍ من كلِّ ما كان يعتريه من المشكلاتِ والمعضلات؟ هل بلغَ مرتبةَ العصمةِ في فكرهِ وروحِه وإدارتِه وسياستِه؟ والجوابُ عن كلِّ ذلك هو النفيُ، إذن لماذا تُختمُ الرسالاتُ؟! أليس من اللطفِ أنْ تبقى وأنْ تستمرَّ كما كان من اللطفِ أنْ تبدأ؟!

 

فنقولُ: إنَّ الرسالاتِ والنبواتِ قد خُتمتْ لأنَّ الدينَ قد كمُل كما قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾(7) فدينُ الله تعالى قد تمَّ وكمُل، والذي لم يكمُلْ برحيلِ الرسول (ص) هو الإنسانُ كما يشهدُ لذلك مثلُ قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾(8)، إذن فالبشريةُ بعد الرسولِ (ص) ليستْ بحاجةٍ إلى دينٍ جديدٍ فلم يعُد في دينِ اللهِ ما ينقُصُه بعد الرسولِ الخاتَمِ (ص) وأما النقصُ الذي يظلُّ عليه الإنسانُ بعد رحيلِ الرسولِ (ص) فلا يُبرِّرُ تجدُّدِ النبوَّةِ وإنَّما يقتضي ضرورةَ وجودِ مَن يكونُ قادراً على ايصالِ هذا الدينِ كما هو للأجيالِ المتعاقبةِ إلى أنْ يرثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها، فحديثُ المنزلةِ يُشيرُ رغم قِصَرِه إلى هذا المعنى وهو انَّ البشريةَ لن تكونَ بحاجةٍ إلى دينٍ جديدٍ بعد الرسولِ (ص) ولكنَّها ستظلُّ بحاجةٍ إلى من يقودُها إلى الهدايةِ إلى هذا الدينِ، ولأنَّ اللهَ تعالى قد جرتْ سنتُه في عبادِه منذُ بِدْءِ الخليقةِ على أنْ لا يَدَعَهم دون قيِّمٍ يقودُهم إلى دينِه لتكونَ حجتُه عليهم بالغةً لذلك جعلَ لهم بعد ختمِ النبوة عليَّاً وبعده الأئمةَ من ذريتِه ليكونوا هم الهداةَ إلى الدينِ الخاتَم، فذلك هو المصحِّحُ والمبرِّرُ لختْمِ النبوةِ، وبغيرِ ذلك لن تجدوا مُصحِّحاً ولا مبرِّراً لختمِ النبوَّة.

 

لماذا ختمت النبوَّةُ بمحمد (ص)؟

فثمةَ استفهامٌ ملحٌّ وخطير، لماذا خُتمت النبوَّةُ بمحمد (ص)؟ إذا كان المنشأُ من تجدُّدِ النبوَّات في تاريخِ البشريةِ هو نقصُ الإنسان وحاجتُه المطَّردةُ للوحي، فلماذا تُختمُ النبوَّات؟ هل بلغَ الإنسانُ مرتبةَ الكمالِ والعصمةِ فاستغنى عن الوحي؟ أو أنَّ عجَلةَ التطورِ قد توقَّفت ولن يتطورَ الزمنُ والإنسانُ بعد محمدٍ (ص) فلا تكونُ ثمة حاجةٌ للوحي أو أنَّ اللهَ تعالى قد استنفدَ ما عنده ولذلك صارَ على الإنسانِ أن يشُقَّ طريقَه دون هدىً من الوحي، فعليهِ أن يُعالجَ ما يستجدُّ من قضايا وأمورٍ بنفسِه؟ !

 

والجوابُ الإجمالي: هو أنَّ الأمرَ ليس كما يتوهَّمُه الواهمون، فالإنسانُ لم يستغنِ ولن يستغنيَ عن الوحي، لأنَّه سيظلُّ ناقصاً، واللهُ تعالى لا تنفدُ كلماتُه: ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾(9)، إلا أنَّ المنشأ من ختمِ النبوة هو كمالُ الدين، ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾(10)، فالآيةُ تنصُّ على انَّ الدينَ قد كمُلُ، وذلك هو ما برَّر ختمَ النبوَّةِ، نعم ليس المنشأُ من تجدُّدِ النبوَّات هو كمالُ الدينِ والتشريعِ وحسب هناك مناشئُ أخرى سنأتي على ذكرها ولكنَّ هذه المناشئ كلَّها -كما سيتضحُ- تسعى بانْ يبقى هذا الدينُ الكاملُ قادرًا على العطاءِ والاستمرار، وهذا لا يحتاجُ إلى نبوَّةٍ جديدةٍ، وإنَّما يحتاجُ كما قلنا إلى معلِّمٍ وقيِّم، وخطُّ الإمامةِ يضمنُ هذينِ الأمرين، وقد أفاد ذلك الرسول (ص) بقولِه بعد حجَّة الوداع: "إنِّي مخلفٌ فيكم الثقلينِ كتابَ الله وعترتي أهلَ بيتي ما إنْ تمسكتُم بهما فلنْ تضلوا بعدي أبدا"(11) فخطُّ الإمامةِ الذي يتمثلُ في عليٍّ والأئمةِ من أولادِ عليٍّ (عليهمُ السلام)، هذا الخطُّ يضمنُ هذين الأمرينِ فعليٌّ والحسنُ والحسينُ والأئمةُ (عليهم السلام) إلى المهديِّ القائمِ (عج) هم معلمو الإسلامِ وهم القيِّمونَ على شئونِ المسلمين، هذا هو الجوابُ الإجمالي.

 

إيضاح أكثر:

ولكي يتَّضحَ الجوابُ بشكلٍ تفصيلي نقولُ: إنَّ منشأَ التَّجدُّدِ في النبوَّاتِ هو أحدُ أمورٍ أربعةٍ أو خمسةٍ -أشار إليها السيُّدُ الشهيدُ باقرُ الصدر- هذه الأمورُ وهذه المناشىءُ والأسبابُ، عندما نستعرضُها سيتَّضحُ لنا أنَّ جميعَها مفقودةٌ بعد الرسالةِ الخاتمةِ لذلك لا يكونُ ثمةَ ما يُبرِّرُ التجدُّدِ للنبوَّات، فتجدُّدُ النبوَّاتِ يخضعُ لمبرِّراتٍ، فهي لا تتجددُ عبثًا وإنَّما تتجددُ لمبرراتٍ وأسبابٍ ومناشئ، لو استعرضناها فسنجدُ أنَّها غيرُ موجودةٍ بعد الرسالةِ الخاتِمة، لذلك لا مبرِّرَ لتجدُّدِ النبوَّات، وذلك هو المبرِّرُ لختمِ النبوَّات.

 

مبررات تجدُّد النبوات

فالمبررُ الأول: لتجدُّدِ النبوَّاتِ في تاريخِ الإنسانِ هو أنَّ النبوَّةَ قد تستنفدُ غرضَها، وحينذاك لا يكونُ ما يُبرِّرُ لعدمِ بعثِ أو إرسال نبيٍّ أو رسولٍ جديدٍ ليواصلَ الشوطَ وليقودَ البشريةَ للهدى، فإذا كانت النبوَّةُ قد استنفدتْ غرضَها بإعتبار أنَّها جاءتْ لمعالجةِ قضيَّةٍ ومشكلةٍ طارئةٍ لم تكن فكانت، فإنَّ الله عزَّ وجل ومن لطفِه بعباده يبعثُ لهم نبيَّاً ليُعالج تلك المشكلة سواءً كانت هذه المشكلة روحيَّةً أو فكريَّة أو اجتماعيَّة، وقد تكونُ هذه المشكلةُ بحاجةٍ إلى علاجٍ مخصوص، وهذا العلاجُ لا يناسبُ كلَّ حالةٍ وكلَّ مجتمعٍ وكلَّ زمنٍ لأنَّ وسيلةَ العلاجِ التي توسَّلَ بها النبيُّ المبعوثُ لمعالجةِ تلك المشكلةِ الطارئةِ، قد تكون بمثابةِ الوصفةٍ العلاجيَّة التي تُعطى للمريض، فحينَ يطرأُ مرضٌ على إنسانٍ فيتصدَّى الطبيبُ لمعالجةِ ذلك المريض، فإنَّه قد يصفُ له دواءً، لا ينفعُ غيرَ هذا المريض أو انَّه لا ينفعُه في الحالاتِ الاعتياديَّة حينما لا يكونُ مبتلى بذلك المرض أو بعد أن يتعافى منه، فالدواءُ لم يكن غذاءً اعتياديًا للإنسان وإنَّما احتاج إليه لمرضِه، فإذا عُوفي من مرضه فإنَّ ذلك الدواء لن ينفعَه بل قد يضرُّه ويكونُ وبالاً عليه لو تناولَه بعد شفائه، هكذا هي بعضُ النبوَّات تأتي لهذِه الغايةِ، أي لمعالجةِ حالةٍ طارئةٍ روحيَّةٍ أو اجتماعيَّة أو غيرهما فيُعطي النبيُّ وصفةً علاجيَّةً مخصوصةً، لا تنفعُ لمجتمع ٍآخر كما لا تنفعُ نفسَ ذلك المجتمعِ بعدما يتعافى من تلك المشكلة، وعندئذٍ تَستنفدُ النبوَّةُ غرضَها، فإذا استنفدتْ غرضَها لم يكن هناك من حاجةٍ للتعاليمِ والإرشاداتِ التي جاءَ بها النبيُّ المبعوث، فحينَ تستجدُّ قضايا ومشكلاتٌ جديدةٌ نكونُ بحاجةٍ إلى نبوَّةٍ أخرى، لمعالجةِ تلك المُستجِدَّات، ونُمثِّل لتقريبِ ذلك بنبوَّة السيِّدِ المسيحِ (ع) فقد قيل إنَّه إنَّما بُعث لمعالجةِ مشكلةٍ روحيَّة قد طرأتْ في المجتمعِ اليهودي، فاليهودُ وبعد تعاقبِ الزمنِ وابتلائهم بالغرور، والاستكبار وتوهُّمِهم بأنَّهم شعبُ اللهِ المختار، ولأنَّهم قد كبرت الدنيا أعينِهم وراقَهم زبرجُها لذلك كلِّه أصبحوا حريصينَ على جمعِ الأموالِ واكتنازها فانصرفوا عن الغيب وعن العبادة الحقيقية، فأصبحتْ الدنيا هي شغلُهم وهي همُّهم، تلك هي أحوال المجتمعِ الذي بُعث إليه المسيحُ (ع)، ولهذا كان شغلُه الشاغلُ هو معالجةَ هذه الأزمةِ الروحيَّة، التي ابتُليَ بها اليهود خصوصاً العلماءُ والرهبانُ منهم، فكان الراهبُ اليهوديُّ بمنزلةِ الجبتِ الذي يُعبدُ من دونِ الله، فهو الذي يُقرِّرُ فيُتَّبَع، حتى وإنْ كان قرارُه على خلافِ أمرِ الله تعالى كما يؤكدُ القرآنُ الكريم، فرهبانُ اليهود كانوا يجمعونَ الأموالَ من الناسِ بعنوانِ النذوراتِ والمبرَّات ثم لا ينفقونَها في سبيلِ الله بل يكتنزونَها أو يصرفونها في مصالحِهم وشئونِهم الشخصيَّة أو الفئويَّة، وكانوا لا يعبئون بالعبادة والآثار الغيبية، فقد انصرفوا عن الصلاة إلى الدنيا إلى النساء والأموال والعمران، وصاروا يبحثونَ عن كلِّ وسيلةٍ لاستعباد الناس والتمهيدِ للاستيلاء على العالم، هكذا تؤكدُ كتبُ التأريخ، وتؤكدُ كتبُ علماءِ النصارى في أوروبا، ولهذا جاء السيدُ المسيحُ ليفتحَ المجتمع اليهودي على الغيب، فجاءَ بالرهبانيَّة، فكان يحضُّ على الرهبنةِ والانقطاعِ التامِّ عن الدنيا، عن الزواجِ والأولادِ والأموالِ والعمران، فكان الرجلُ المتنسِّكُ والملتزمُ بدينِ المسيح هو مَن لا يتزوجُ، ولا يعملُ، ويقنعُ بحشائش الأرض والرديءِ من القوتِ كما كان السيدُ المسيحُ يقنعُ من الطعام بحشائشِ الأرض وبُقولِها، وهكذا كانت السيدةُ مريم (ع) وكذلك النبيُّ يحيى (ع) حتى ورد انَّه كان نحيفاً شاحباً تبدو عروقُه في حلقِه ووجهِه، وقد مدحَهُ القرآنُ بأنَّه كان ﴿سَيِّدًا وَحَصُورًا﴾(12) أي انَّه لم يتزوج، وكذلك السيدُ المسيح بلغ من العمر ثلاثينَ سنةٍ أو تزيد ولم يتزوجْ حتى رفعَه الله إليه، والعذراءُ مريمُ (ع) كانت كذلك والحواريُّون اتباعُ السيدِ المسيحِ كانوا كذلك، منقطعينَ عن الدنيا إلى الله، قد أوقفوا أنفسَّهم على العبادة في المحاريبِ والمعابدِ والكنائسِ والجبالِ، فلا يشتغلونَ بغيرِ الصلاةِ والصيامِ والإمساكِ عن الكلام زمنًا ليس بالقصير ولا يتزوَّجونَ إلى الموت، فكانت تلك هي معالجةُ النزعةِ المادية المتجذِّرة والمستفحِلة في المجتمعِ اليهودي، فقد كانوا بحاجةٍ إلى ردةِ فعلٍ قاسيةٍ كهذه التي أصَّل لها السيدُ المسيحُ (ع) ليعودَ بهم إلى طريقِ التوازن، فهو قد جاء بالرهبانيةِ المتطرِّفة لأنَّها كانت علاجاً لهم، لكنَّها لا تصلحُ علاجاً لهم إلى الأبد كما انَّها لم تكن علاجاً لكلِّ مجتمع، فهي إذن علاجٌ مؤقتٌ لمرضٍ كان قد استفحلَ في المجتمعِ اليهودي، وهذه الوصفةُ العلاجيَّةُ لا تصلحُ لكلِّ زمن، ولذلك حين جاء الإسلام نصَّ على انَّه "لا رهبانيَّة في الإسلام"(13) وقال (ص) "أَمَا إِنِّي آكُلُ اللَّحْمَ وأَشَمُّ الطِّيبَ وآتِي (وأتزوَّج) النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"(14) وقال تعالى: ﴿يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾(15) وهكذا جاء الإسلامُ فأباح للناسِ الانفتاحَ على الدنيا بحذرٍ فقال تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾(16) فالرهبنةُ التي جاء بها السيدُ المسيح (ع) لم تكن نافعةً لمجتمعٍ غيرِ المجتمعِ الذي بُعث فيه.

 

وقد يكونُ تتجددُ النبوَّةُ لغرضِ معالجةِ مشكلةٍ اجتماعيَّة قد طرأتْ على أمةٍ من الأمم لم يستنفد دينُ نبيِّها الراحل غرضَه ولكنَّ ابتلاءَها بتلك المشكلةِ اقتضى الحاجةَ إلى نبوَّةٍ تقومُ على معالجة تلك المشكلة، فنبيُّ الله لوطٌ (ع) مثلاً كان على دينِ إبراهيم والمفترضُ انَّ قومَه كانوا كذلك على دينِ إبراهيم (ع) فهو لم يُبعثْ لأنَّ الدين الذي هم عليه قد استنفدَ غرضَه وإنَّما بُعث لمعالجةِ أزمة أخلاقية ابتُلي بها ذلك المجتمعُ وإلا فنبيُّ اللهِ لوط (ع) كان وكانت الأمةُ التي بُعث فيها على دينِ الخليل إبراهيم (ع) كما نصَّ على ذلك القرآن، إذن ثمَّة نبوةٌ عامَّة وأخرى نبوَّةٌ خاصَّة، والنبوَّة الخاصة في مثال قومِ لوط كان المبرِّرُ لبعثها هو المشكلةَ الأخلاقية غيرَ المسبوقة التي ابتُلي بها قومُ لوط (ع) فجاءَ الوحي لمعالجةِ هذه المشكلة.

 

وهكذا هو الشأن في أنبياءَ آخرين كنبيِّ اللهِ شعيب (ع)، فإنَّه ليس من الواضحِ انَّه بُعث لينسخَ النبوَّات التي سبقته، بل جاءَ شعيبٌ (ع) ليؤكِّدَها في قومِه من جهة ويُقرّهم على دينِهم السابق وجاء كذلك ليعالجَ مشكلةً اقتصاديَّةً قد طرأت في مجتمعِهم، هذه المشكلةُ هي استغلالُ الأغنياء والمتنفِّذينَ للضعفاء فكان شأنُهم البخسَ في المكيال والميزان، قال الله تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ / وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾(17) لذلك اقتضتِ العنايةُ الإلهيَّةُ أنْ يُبعثَ لمدينَ نبيٌّ يُعالجُ مشكلةً طرأت عليه، وليس من الضروري أنْ تكونَ الوصفةُ العلاجيَّةُ التي يأتي بها النبيُّ غيرَ صالحةٍ لمجتمعٍ أخر فقد تكون صالحة إلا انَّه ونظراً لعدم تصدِّي النبوةِ السابقة لعلاج تلك المشكلة لذلك يبعثُ اللهُ نبيَّاً آخر لتبيان ومعالجة تلك المشكلة، فالنبوةُ السابقةُ وإنْ كانت صالحةً للمجتمعِ المتأخرِ عنها ولكنَّها لم تكن شاملة، وهذا منشأٌ آخر من مناشئ التجدُّد في النبوَّات، وهذا المنشأُ والذي سبقَه لا ينطبقُ على الإسلام، فالإسلامُ لم يأتِ لمعالجة قضيةٍ طارئة أو قضايا محدَّدة، بل جاء بكلِّ ما يُمكن أنْ يحتاجَه الإنسانُ إلى أن تقومَ الساعةُ كما تُصرِّحُ بذلك الآيات، قال تعالى: ﴿اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾(18)، فرسالةُ الرسولِ محمد (ص) جاءت لحياةِ البشريَّة على سعتِها الجغرافية وامتدادِ تاريخها في مستقبل الزمان، ويقول الله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾(19).

 

يقول الإمامُ الباقرُ (ع) فيما رُوي عنه: "قالَ اللهُ تعالى في موسى (ع): ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾(20) فأعلَمنا أنَّه لم يكتبْ له الشيءَ كلَّه، وقال في عيسى ﴿وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾(21) فأعلَمنا أنَّه لم يُبينْ له الامرَ كلَّه، وقال لمحمَّدٍ (ص): ﴿وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾(22) .."(23).

 

ونستكمل الحديثَ فيما بعدُ إنْ شاءَ اللهُ تعالى.

 

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / وَالْعَصْرِ / إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ / وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(24)

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

21 من صفر 1437هـ - الموافق 4 ديسمبر 2015م

جامع الإمام الصّادق (عليه السّلام) - الدّراز


1- سورة الأحزاب / 40.

2- سورة الأحزاب / 40.

3- الكافي -الشيخ الكليني- ج 8 ص 107، الأمالي -الشيخ الصدوق- ص 156، شرح الأخبار -القاضي النعمان المغربي- ج 1 ص 97، مسند أحمد -الإمام أحمد بن حنبل- ج 1 ص 177.

4- مسند أحمد -الإمام أحمد بن حنبل- ج 1 ص 177.

5- مسند أحمد -الإمام أحمد بن حنبل- ج 1 ص 177.

6- سورة الجمعة / 2.

7- سورة المائدة / 3.

8- سورة آل عمران / 144.

9- سورة الكهف / 109.

10- سورة المائدة / 3.

11- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 2 ص 100.

12- سورة آل عمران / 39.

13- البداية والنهاية -ابن كثير- ج 2 ص 179، أعيان الشيعة -السيد محسن الأمين- ج 1 ص 306.

14- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 20 ص 107.

15- سورة الأعراف / 31.

16- سورة القصص / 77.

17- سورة هود / 84.

18- سورة الأنفال / 24.

19- سورة النحل / 89.

20- سورة الأعراف / 145.

21- سورة الزخرف / 63.

22- سورة النحل / 89.

23- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 26 ص 198.

24- سورة العصر.