تجدُّد النبوَّةِ والنبوَّةُ الخاتِمة (4)

 

أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي لَيْسَتْ فِي أَوَّلِيَّتِه نِهَايَةٌ، ولَا لآِخِرِيَّتِه حَدٌّ ولَا غَايَةٌ، الَّذِي لَمْ يَسْبِقْه وَقْتٌ ولَمْ يَتَقَدَّمْه زَمَانٌ، ولَا يَتَعَاوَرُه زِيَادَةٌ ولَا نُقْصَانٌ، الَّذِي بَطَنَ مِنْ خَفِيَّاتِ الأُمُورِ، وظَهَرَ فِي الْعُقُولِ بِمَا يُرَى فِي خَلْقِه مِنْ عَلَامَاتِ التَّدْبِيرِ، الَّذِي سُئِلَتِ الأَنْبِيَاءُ عَنْه فَلَمْ تَصِفْه بِحَدٍّ ولَا بِبَعْضٍ، بَلْ وَصَفَتْه بِفِعَالِه، ودَلَّتْ عَلَيْه بِآيَاتِه، الَّذِي نَأَى مِنَ الْخَلْقِ فَلَا شَيْءَ كَمِثْلِه، الَّذِي خَلَقَ خَلْقَه لِعِبَادَتِه وأَقْدَرَهُمْ عَلَى طَاعَتِه، وقَطَعَ عُذْرَهُمْ بِالْحُجَجِ، فَعَنْ بَيِّنَةٍ هَلَكَ مَنْ هَلَكَ، وبِمَنِّه نَجَا مَنْ نَجَا، ولِلَّه الْفَضْلُ مُبْدِئاً ومُعِيداً، نَحْمَدُه بِجَمِيعِ مَحَامِدِه كُلِّهَا، عَلَى جَمِيعِ نَعْمَائِه كُلِّهَا، ونَسْتَهْدِيه لِمَرَاشِدِ أُمُورِنَا، ونَعُوذُ بِه مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، ونَسْتَغْفِرُه لِلذُّنُوبِ الَّتِي سَبَقَتْ مِنَّا، ونَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وأَنَّ مُحَمَّداً (ص) عَبْدُه ورَسُولُه بَعَثَه بِالْحَقِّ نَبِيّاً، دَالاًّ عَلَيْه وهَادِياً إِلَيْه، فَهَدَى بِه مِنَ الضَّلَالَةِ واسْتَنْقَذَنَا بِه مِنَ الْجَهَالَةِ.

 

أُوصيكم عبادَ اللهِ ونفسي بتقوى الله، واعلموا أنَّ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَه فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً، ونَالَ ثَوَاباً جَزِيلاً، ومَنْ يَعْصِ اللَّه ورَسُولَه، فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً، واسْتَحَقَّ عَذَاباً أَلِيماً، عَصَمَنَا اللَّهُ وإِيَّاكُمْ بِالْهُدَى وثَبَّتَنَا وإِيَّاكُمْ عَلَى التَّقْوَى، وأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي ولَكُمْ.

 

قال اللهُ تعالى في مُحكمِ كتابهِ المجيد: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾(1).

 

تحدَّثنا فيما سبق عن المبرِّر الثالثِ من مبرِّرات تجدُّدِ النبوَّة وقلنا: إنَّ الرسالةَ التي يَبعثُ اللهُ تعالى بها نبيَّاً من الأنبياءِ تكونُ محدودةً بحدودِ قابليَّاتِ النبيِّ المبعوثِ، ولا يصحُّ أنْ يكونَ مستوى الرسالةِ أرقى وأوسعَ من قابليَّاتِ النبيِّ المبعوث.

 

وقلنا: إن قابليَّاتِ النبيِّ المبعوثِ قد لا تتأهَّل لبعثِه إلى ما هو أوسعُ من مدينةٍ أو من جيلٍ، وحينئذٍ تكونُ الرسالةُ محدودةً بهاذينِ الحدينِ الزمانيِّ والمكانيِّ، وعندئذٍ يتحتَّمُ أن تُبعثَ نبوَّةٌ أُخرى خارجَ هذينِ الحدَّينِ الزمانيِّ والمكانيِّ، وهذا هو أحدُ مبرِّرات تجدُّدِ النبوَّاتِ، ولو كان مستوى النبيِّ قد بلغَ من الكمالِ حدَّاً يتأهَّلُ بواسطته لتحمُّلِ مسئوليَّةِ نبوَّةٍ شاملةٍ مستوعبَةٍ للزمان على امتداده ومستوعبةٍ لكلِّ أهل الأرضِ على اختلاف مواقعِهم فحينئذ ينعدمُ مبرِّرُ تجدُّدِ النبوَّةِ من هذه الجهة، وهذا ما هو ما تحقَّقَ لنبيِّنا الكريم (ص) فهو قد بلغَ من الكمالِ الذي يليقُ بالإنسانِ أعلى مراتبِه، فليس وراءَ مرتبتِه مرتبةً في الروح والنفس والعقل والخصال والسجايا والملكات. فليس من أحدٍ من أنبياءِ الله ورسلِه وملائكتِه المقربين قد حظيَ بما حظيَ به النبيُّ الأعظم (ص) كما يُنبئ عن ذلك مثلُ قولِه تعالى: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى / ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى / وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى / ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى / فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى / فَأَوْحَى إلى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾(2) إلى قوله تعالى: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى / لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾(3) فلم يطِّلعْ من أحدٍ على ما يُمكنُ الاطلاعُ عليه من الملكوتِ الأعلى بتمامِ تفاصيلِه، ولم تنكشفِ الحجُبُ لواحدٍ من رسُلِ اللهِ وأنبيائِه وملائكتِه كما انكشفتْ لرسولِنا الكريم (ص) ولهذا كانَ لائقاً بأنْ تكونَ نبوَّتُه عالميَّةً أبديَّةً، فهي عالميَّةٌ من بلحاظِ المكانِ وأبديَّةٌ بلحاظِ الزمان، فلا مبرِّر لتجدُّدِ النبوَّةِ من جهةِ المبرِّر الثالث.

 

وأما المبرِّرُ الرابعُ والأخيرُ: لتجدُّدِ النبوَّات فهو تطوُّرُ الإنسانِ الذي يُبعثُ الأنبياءُ من أجلِ هدايتِه، إذ من الواضحِ أنَّ أفقَ الوعيِ والنضوجِ عند الإنسان لا يقفُ عند حدٍّ محدودٍ بل يظلُّ في نموٍّ وتطوُّر، وحينئذٍ لا بدَّ وأنْ تكونَ النبوَّةُ مواكبةً ومتناسبةً مع مستوى النموِّ الذي يبلغُه ويصلُ إليه، إذ من غيرِ المعقولِ أنْ يكونَ مستوى الرسالةِ أدنى من مستوى الوعيِ الذي عليه الإنسانُ المخاطب بالرسالة.

 

وبتعبيرٍ آخرَ: إنَّ السرَّ في استمرارِ حركةِ الرسالاتِ الإلهيَّةِ على امتدادِ تأريخِ الإنسان الضاربِ في عمقِ الزمن هو إنَّ كلَّ نبيٍّ يأتي يخطوَ بالإنسانِ خطواتٍ نحوَ الأمام، ولذلك تكونُ الرسالةُ الجديدةُ واجدةً لمستوىً أعلى وأعمقَ من مستوى الرسالةِ السابقة، إذ أنَّ وظيفةَ الأنبياءِ هي التدرُّجُ بالإنسانِ في مدارجِ الكمال، فإذا ما قطعَ مرحلةً من مراحلِ الكمالِ يأتي دورُ نبيٍّ آخرَ ليقطعَ معه مرحلةً أخرى من مراحلِ الكمالِ، وهذا معناهُ أنَّ الإنسانَ إذا بلغَ درجةً تفوقُ حدودَ الرسالةِ التي سبقت فإنَّ ذلك يُحتِّمُ بعثَ رسالةٍ أخرى تتناسبُ ومستوى الكمالِ الذي انتهى إليه الإنسان، وذلك من أجل أن تخطوَ به الرسالةُ الجديدةُ خطوةً أخرى نحوَ الكمالِ، ولهذا كانت كلُّ رسالةٍ كما تُؤكِّدُ الآياتُ والرواياتُ مكمِّلةً للرسالةِ التي سبقتْها، على أنْ لا تكونَ الرسالةُ اللاحقةُ منافيةً في خطوطِها العامةِ للرسالةِ السابقة، فالخطوطُ العامةُ لتمامِ الرسالاتِ المتعاقبةِ متناغمةٌ بلْ ومتَّحدة، غايتُه أنَّ مستوى النُضوجِ والعمقِ يتفاوتُ بتفاوتِ مستوى الإنسانِ وما بلغَه من نضجٍ ونموٍ، ولهذا قال تعالى يصفُ نبيَّه الكريم (ص): ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ﴾(4) فالنبيُّ الكريم (ص) حينما بُعثَ لم يُبعثْ ليناقضَ محتوى ومضمونَ الرسالاتِ التي سبقتْه، وإنَّما جاء ليؤكِّدَها من جهةٍ ويتمِّمَها من جهةٍ أخرى، لذلك قال النبيُّ (ص) فيما رُوي عنه: "إنِّما بُعثتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاق"(5) وفي روايةٍ أخرى "إنَّما بُعثتُ لأتمِّمَ صالحَ الأخلاقِ"(6) فكلُّ الأنبياءِ جاءوا ليعلِّموا الناسَ القيمَ والفضيلةَ والصلاحَ والخيرَ، وبُعثوا لتعريفِهم المعارفَ الإلهيَّة، وذلك على مراحل، فوظيفةُ النبيِّ اللاحقِ هي البناءُ على ما جاءَ به النبيُّ السابق إلى أنْ انتهى الأمرُ إلى نبيِّنا الكريمِ (ص) فقدَّم للبشريَّةِ كلَّ ما تحتاجُه من معارفَ إلهيَّة وقيمٍ إنسانيَّة، ولهذا قال اللهُ تعالى بعد أنْ أكملَ الرسولُ (ص) مهمَّتَه على خيرِ وجهٍ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾(7) يعني إنَّ الأمرَ قد تمَّ وإنَّ الغايةَ والهدفَ من بعثِ الرسالاتِ على امتدادِ التاريخِ الطويلِ قد انتهى عندَ هذا الحدِّ.

 

وهنا قد يسبقُ إلى الذهنِ سؤالٌ: هو إنَّه إذا كان الإنسانُ لا يقفُ النموُّ لمداركِه ووعيِه عند حدٍّ، وإذا كان في تطوُّرٍ دائمٍ ودؤوبٍ في مختلفِ شئونه وأحوالِه، وقد قُلتم بضرورة تناسبِ النبوَّاتِ مع مستوى الوعيِ والنضوجِ عندَ الإنسانِ ألا يقتضي ذلك تجدُّدُ النبوَّةِ إلى آخرِ الدهر؟ فإذا كان الإنسانُ كما هو المشهودُ بالوجدان في حركةٍ تصاعديَّةٍ دائبةٍ ومتسارعة فكيفَ نتعقَّلُ توقُّفَ النبوَّةِ وختمَها بالنبيِّ الكريم (ص) والحالُ أنَّ هذا الزمنَ الطويلَ الذي امتدَّ لأربعةَ عشرَ قرناً منذُ المبعثِ الشريفِ قد تجاوزَ فيه الإنسانُ وإلى حدًّ كبيرٍ ما كان عليه الإنسانُ في وعيهِ ومختلفِ شئونِه زمنَ المبعثِ النبويِّ الشريف، فالإنسانُ المعاصرُ في مَبلغِ وعيِه واستيعابِه للمعارفِ ليس هو الإنسانُ أيامَ الرسولِ الكريم (ص)، فهو في هذا اليوم أقدرُ على استيعابِ المعارفِ الإلهيَّةِ وسائرِ العلومِ من الإنسانِ في صدرِ الدعوةِ، أفلا يقتضي ذلك بعثَ نبوَّةٍ أخرى بعد النبيِّ الكريمِ (ص)؟.

 

والجوابُ عن ذلك يتمُّ بهذا البيان:

إنَّ المساراتِ التي يتطوَّرُ الإنسانُ فيها هي مساراتٌ ثلاثة: اثنانِ منها يرتبطانِ بخطِّ النبوَّة، وواحدٌ لا صِلةَ له بخطِّ النبوَّة، والذي يتطورُ فيه الإنسانُ على نحوٍ مستمرٍّ وبيِّنٍ هو الخطُّ الثالثُ دون الخطَّينِ الأولِ والثاني كما سيتضح:

 

أما المسارُ الأولُ فهو: وعيُ التوحيدِ والمعارفِ الإلهيَّةِ:

هذا الخطُّ يمرُّ بمراحلَ تصاعديَّة ولكنَّه يقفُ عند حدٍّ محدودٍ، وبعدئذٍ لا يطرأُ عليه تطوُّرٌ يُذكر، ولو طرأَ عليه تطوُّرٌ فهو ليس فيما يرتبطُ بأصلِ وعي التوحيدِ والمعارفِ الإلهيَّةِ، فوعيُ التوحيدِ والمعارفِ الإلهيَّةِ قد مرَّ بمراحلَ طويلةٍ امتدتْ بامتدادِ تاريخِ الإنسانِ من أولِ نشأتِه إلى أنْ بلغَ زمنَ بعثةَ النبيِّ الكريمِ (ص)، فأولُ نشأةِ الإنسانِ كان ألصقَ ما يكونُ بما يُشاهدُه من مُدركاتِه الحسيَّةِ، فهو لا يعرفُ غيرَ المحسوساتِ ومن الصعبِ جداً انتزاعُه من مرحلةِ الحسِّ والشهودِ إلى مرحلةِ عالَمِ الغَيب، فكان يصعبُ على الإنسانِ تصورَه لوجوداتٍ تكونُ وراءَ حواسِّه وما يشاهدُه بواسطةِ مُدركاتِه الحسِّيَّةِ السمعيَّةِ والبصريَّةِ، ولذلك يكونُ الوقوفُ على المعارفِ الإلهيَّةِ التي هي معارفُ غيبيَّةٌ يحتاجُ إلى ردحٍ طويلٍ من الزمنِ يتمكنُ فيها الأنبياءُ من الارتقاءِ بالإنسانِ خطوةً خطوة من مرحلةِ الحسِّ والشهودِ إلى مرحلة عالَم الغيب، فنلاحظ مثلاً التوحيدَ عند اليهود بعد أن تخطَّى الإنسانُ في عهدِهم مراحلَ طويلة حتى وصل إلى المرحلة التي كان عليها الإنسانُ زمنَ موسى (ع) فما هو الإلهُ الذي كانوا يعتقدونَ به؟

 

كانوا يعتقدونَ بوجودِ إلهٍ لهذا الكونِ مدبِّراً له ولكنَّهم كانوا يتصوَّرونَ نظراً لضيقِ أفقِهم ومحدوديَّةِ فهمِهم لهذا المعنى الغيبي كانوا يتصوَّرونَ هذا الإله انَّه إلهٌ خاصٌّ باليهود، وهذا بعد معاناةٍ شاقةٍ ومُضنيةٍ تكبَّدَها النبيُّ موسى(ع) معهم، فهو بعد أنْ دأبَ على تفهيمِهم أنَّ الله تعالى إلهٌ للعالمينَ نجدُهم حينَ مرُّوا على قومٍ يعكُفونَ على أصنامٍ لهم يقولونَ لموسى (ع): ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ﴾(8) هذا بعدَ طولِ عناءٍ تجشَّمّه معهم وبعدَ مقارعةِ فرعونَ وجنودِه وبعد كلِّ الآياتِ التي أقامَها عندَهم وفي محضرِهم تبيَّنَ إنَّ ذلك لم ينتجْ إدراكهم لحقيقة التوحيد، ولهذا اندفع موسى (ع) مجدَّداً يُبيِّنُ لهم ويُعرِّفُهم معنى التوحيدِ إلا أنَّ قصورَ استيعابِهم يظلُّ عائقاً دون تعقُّلهم لما يقول، ولهذا حينَ رحَلَ موسى (ع) إلى مناجاةِ ربِّه أربعينَ ليلةً اتَّخذوا العجلَ من بعده، فصاروا يعتقدونَ إنَّه إلهٌ لهم، فعاد من ميقاتِ ربِّه ساخطاً مغضباً وعاودَ تعريفَهم أنَّ العجلَ لا يصحُّ أن يكونَ إلهاً، فالإلهُ لا يُرى ولا يُدركُ بالحواس، ثم أخذ العجلَ بمرأى منهم فأحرقَه ونسفَ رمادَه في اليم، وبعد اجتهادٍ جَهيدٍ منه في تعليمِهم أنتخبَ الصفوةَ منهم ثم اصطفى من الصفوةِ سبعينَ رجلاً ليذهبوا معه إلى طورِ سيناء، وما إنْ وصلَ بهؤلاءِ الصفوةِ من الصفوة إلى طورِ سيناء حتى قالوا: يا موسى: ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾(9) إذن فالنبيُّ موسى(ع) وإنْ كانَ قد علَّمهم معنى التوحيدِ كما هو بمعناه الحقيقي إلا أنَّ أُفقَ استيعابِهم وقدرتِهم على الخروجِ من عالم الحسِّ والشهود إلى عالمِ الغيب كان محدوداً، ثم وبعد أنْ استوعبوا معنى التوحيدِ بالقدرِ المناسبِ لمداركهم كانوا يعتقدونَ إنَّ هذا الإلهَ لهم دون غيرِهم، لذلك كانوا يُسمُّون أنفسَهم بشعبِ الله المختار، وبأنَّ هذا الإلهَ قد اصطفاهم وحدَهم لنفسِه وعبادته، فلا يسوغُ لأحدٍ أنْ يتعبَّدَ له دونَهم، فهم وإنْ كانوا يعتقدونَ فيه بأنَّه خالقُ الكونِ والخلائقِ أجمعينَ إلا حقَّ التعبُّدِ له خاصٌ بهم دونَ سواهم، فضيقُ أفقِهم أنتجَ عندهم توهَّمَ أنَّ إلهَ الكونِ إلهٌ قومي، والعجيبُ أنَّ هذا الأفقَ الضيقَ لا زال يُلقي بظلِّه القاتمِ رغم تمادي الزمنِ على أُفقِ الوعيِ اليهودي، لذلك تُلاحظون أنَّ حركةَ التبشيرِ عندَ اليهودِ تكادُ تكونُ منعدمةً، فهم لا يُريدونَ لأحدٍ أنْ يدخلَ في دينِهم، بل إنَّ مَنْ يدخلُ في دينِهم دونَ أنْ تكونَ له أصولٌ يهوديَّة لا يعتبرونَه يهوديَّاً أصليَّاً بل قد لا يُقرُّونَ بيهوديَّتِه، لأنَّهم يَرونَ بانَّ اليهوديَّة هي دينٌ خاصٌ لجنسٍ خاصٍّ وإنَّ إلهَ الكونِ إلههُم وحدَهم، وإنَّ اللهَ قد ميَّزهم عن سائرِ العبادِ لأنَّه رضيَ أن يكونَ لهم ربَّاً ورضُوا بأنْ يكونوا له عبيداً، نعم هم يَطمحونَ في الهيمنةِ على الكونِ ومقدِّراتِ الأمم، لأنَّهم- بحسبِ زعمِهم -العنصرُ المؤهَّلُ للسلطنةِ على كلِّ مقدِّراتِ الأممِ، لأنَّ كلَّ ما عندَ الأممِ هو مالُ ربِّهم، فهم لذلك أحقُّ الناسِ به دون غيرِهم، هكذا يعتقدون، وهذا هو مستوى وعيِهم لمعنى التوحيد، وهذا بعد أنْ قضى الأنبياءُ ردحاً طويلاً من الزمن لتعليم الناسِ معنى التوحيد، فهم قد بلغوا بهم مستوىً اعتقدوا بوجود إلهٍ واحدٍ ولكنَّه إلهٌ قوميٌّ محتَكرٌ لشعبٍ مخصوصٍ وسائرُ الشعوبِ ينبغي أنْ يكونوا طوعَ أيديهم، فذلك هو الدينُ الذي ارتضاه لهم ربُّ إسرائيل. فاتَّباعُ اليهوديَّةِ بالنسبة لسائرِ الناس معناه أنَّ على الناسِ أنْ يكونوا طوعَ بني إسرائيل، هكذا كانوا يتوهَّمون.

 

وأما التوحيدُ عند النصارى فلم يخلُ من الصِبغةِ الحسيَّةِ، فهم يرونَ أنَ الله تعالى هو إلهُ الكونِ، وهو الإلهُ العالميُّ ولكنَّهم عندما يُريدونَ تعريفَ الناسِ بهذا الإلهِ يقولونَ إنَّه أبو البشر، وإنَّ عيسى ابنُ الله، فهم لا يتصوَّرونَ أنَّ هناك إلهٌ منزَّهٌ عن كلِّ شوائبِ الحسِّ، فلم يتمكَّنوا من تعريفِ الإنسانِ بمعنى التوحيدِ الحقيقي إلا بواسطةِ تنظيرِه بالأبِ الذي يُديرُ شئونَ أبنائِه، هذا مع قطع النظر عما ابتُلوا به من الاعتقادِ بالتثليثِ والحلولِ والتناسُخ، فهذا هو مستوى التوحيدِ عندهم.

 

وأما التوحيدُ في القرآنِ الكريمِ فبلغَ مرتبةً لا ترقاها مرتبةٌ، ولذلك يكونُ مبرِّرُ بعثِ الرسالاتِ من هذه الجهةِ معدوماً، فالتوحيدُ في القرآنِ الكريمِ يعني التنزيهَ المطلقَ للهِ عزَّ وجل عن كل شوائبِ الحسِّ، فهو القادر المطلقُ والعالمُ المطلقُ والكاملُ الذي لا يشوبُه ولا يعتريه نقص على الاطلاق، فهو سبوحٌ قدُّوسٌ ليس كمثلِه شيء، ولا تُدركُه الأبصار، وهو واحدٌ أحدٌ صَمَدٌ لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وهو خالقُ كلِّ شيءٍ ومهيمنٌ على كلِّ شيءٍ ومدبِّر لشئونِ الكونِ حقيرِه وخطيرِه، تقدَّست أسماؤه وجلَّت صفاته.

 

كل ذلك قد جاء في القرآنِ الكريم، وقد بقيَ الإنسانُ أربعةَ عشرَ قرناً بعد المبعثِ النبويّ لم يتمكَّنْ من أنْ يصلَ لأعمقَ ممَّا أفادَه القرآن من هذه الجهة، فالإنسانُ وإنْ كان في تطوُّرٍ دائم، إلا أنَّ هذا المسارَ غيرُ قابلٍ للتمدُّد أكثرَ ممَّا هو عليه، لذلك لا يكونُ التوحيدُ بمعناهُ القرآني قابلاً للنموِّ أكثرَ ممَّا هو عليه، فما وراءَ عبادانَ قرية، نعم استيعابُ الإنسانِ للتوحيدِ وسائرِ المعارف الإلهيَّةِ قد لا يكون استيعاباً تامَّاً إلاَّ أنَّ مَن أراد أنْ يستفيضَ ويتعرَّفَ على حقيقةِ التوحيدِ فإنَّه سيَجدُ ذلك ماثلاً في آياتِ القرآنِ الكريم، فالأنبياءُ السابقونَ لم يكونوا يَعرضون معنى التوحيدِ وسائرِ المعارفِ الإلهيَّةِ بهذا العمقِ والكيفيةِ المتكاملة، وذلك لعجزِ الإنسانِ آنذاك عن استيعابِ هذه الحقيقةِ بعمقِها وتفاصيلِها، ولكنَّ الإنسانَ بعد مجيءِ النبيِّ الكريم(ص) أصبحَ بمستوىً يكونُ معه مؤهلاً للاستيعابِ لا نقول إنَّه استوعبَ ولكنَّه كانَ قادراً على أنْ يستوعبَ المقدارَ المطلوبَ، فلذلك أُعطيَ الحقَّ كلَّه، فإنْ شاءَ فليُذعنْ، ويستوعب ويتعرَّف وإنْ شاءَ فليُعرِض.

 

المسار الثاني: تأهُّلُ الإنسانِ لتحمُّلِ مسئوليةِ أعباءِ الرسالة

هذا المسارُ ليستْ له مرتبةٌ واحدةٌ، وإنَّما هو ذو مراتبَ، فبمقدارِ ما يمتلكُه الإنسانُ من أهليَّةٍ فإنَّه يُعطى مسئوليةً تتناسبُ مع تلك الأهليَّةِ، فالإنسانُ في زمنِ الأنبياءِ لم يكن قادراً ومؤهَّلاً لتحمُّلِ أعباءِ رسالةٍ عالميَّةٍ أبديَّةٍ وإنَّما كان قادراً على تحمُّل أعباءِ رسالة بسعةٍ أضيقَ، لذلك فإنَّه لا يُعطى رسالةً ولا يكلَّفُ بالنهوضِ بأعباءِ رسالةٍ هي أوسعُ من طاقتِه وأوسعُ من استعداداتِه.

 

أما بعد أنْ يبلغَ الإنسانُ مرتبةً يتأهلُ فيها لتحمُّل أعباءٍ رسالةٍ عالميَّةٍ فعندئذٍ يُعطى هذه المسئوليَّةَ ويُكلَّفُ بها، والإنسانُ وإبَّانَ بعثةِ النبيِّ الكريمِ (ص) لا نقول إنَّه كان قادراً على تحمُّلِ أعباءِ المسئوليَّةِ ولكنَّنا نقولُ إنَّه كان مؤهَّلاً وكان له الاستعدادُ بعد أنْ خطى به الأنبياءُ خطواتٍ طويلةٍ فإنَّه أصبحَ مؤهَّلاً لتحمُّل أعباءِ الرسالةِ المشتملةِ على مضامينَ كثيرة، فمن جهةٍ هناك معارفُ إلهيَّة ومن جهةٍ هناك مسئوليَّاتٌ أخلاقيَّةٌ وقيمٌ ونبُلٌ وأنظمةٌ وتشريعاتٌ، وكان الإنسانُ في ذلك الوقتِ مؤهَّلاً لتحمُّلِ أعباءِ مسئوليَّةِ هذه الرسالةِ بما تشتملُ عليه من قيمٍ ومعارفَ.

 

و يمكنْ أن ننظِّرَ للإنسانِ مع رسالاتِ اللهِ تعالى بالطفلِ الصغيرِ الذي نريدُ أن نُوصِلَه للمدرسةِ التي تبتعدُ عن المنزل بمسافةٍ طويلةٍ وثمَّة طرقٌ وفروعٌ وتعرُّجاتٌ ومداخلُ وممرَّاتٌ كثيرةٌ لا يمكنُ لهذا الطفلِ أنْ يصلَ للمدرسةِ وحدَه، فلا بدَّ وأنْ نُمسكَ بيدِه، حتى نُوصلَه إلى تلك المدرسةِ، هكذا كان الأنبياء يصحبونَ الإنسانَ ويتدرَّجونَ معه مدارجَ الكمالِ، إذ لا يمكنُ للإنسانِ أنْ يقطعَ وحده هذا الدربَ الطويلَ المليءَ بالتعقيداتِ دون أن يصحبَه رجالٌ قد أُوحي إليهم وتعرَّفوا على الطريقِ بواسطةِ الوحي، لذلك تعاقبَ الأنبياءُ على مصاحبةِ الإنسانِ حتى بلغوا به مرتبةً يكون معها مؤهَّلاً للوصول إلى الهدف، فإذا رجعنا إلى ما نظَّرنا به فنقول: إذا كبُرَ هذا الطفل وبلغ مرتبةً يتمكَّنُ بواسطتِها من عبورِ الطريقِ وحدَه وهيئنا له الوسيلةَ التي يتمكنُ بها من الوصولِ إلى الهدفِ عندئذٍ يمكنُ أن نتركَه وحدَه، عيناً كما نُرشدُ الضالَّ إلى طريقِه، فإذا وصفنا له الطريق من أولِ الأمرِ قد لا يصلُ، نظراً لكثرةِ التعقيداتِ وبُعدِ الطريقِ وعدم لياقةِ هذا الضالِّ للإحاطة بحيثياتِ المعابرِ والممرَّاتِ لذلك نضطُّرُ إلى أنْ نَسلكَ معه جزءً من الطريق، فإذا وصلنا معه إلى مرحلةٍ تجاوزنا عندها التعقيداتِ وأحرزنا معها أهليتَه لمتابعةِ الطريق ثم وفَّرنا أو كان واجداً لوسيلةٍ يتمكنُ بها من قطعِ بقيةِ الطريقَ وحدَه فعندئذٍ لا مبرِّرَ لصحبتِه إلى آخرِ الطريقِ فليس يلزمُنا في هذا الفرض إلا أنْ نُرشدَه إلى أنَّ الطريقَ من هنا ونمضي عنه، وكذلك هو الطفلُ عندما يكبرُ وينضجُ ويوفِّرُ له والدُه المركبَ المناسب فإنَّ صحبتَه إلى مقصدِه تكونُ بلا مبرِّرٍ، فخطُّ الأنبياءِ والرسالاتِ كان كذلك، فالوصولُ إلى الكمال والوصولُ إلى المعارفِ الإلهية واستيعابُ القيمِ وتفاعلُ الإنسانِ وقدرتُه على تمثُّل القيمِ وسلوكُها سلوكاً صحيحًا يحتاجُ إلى زمنٍ طويل، وهذا يقتضي أن تُبعثَ أنبياءُ تلوَ أنبياء من أجل أن يُمسكوا بيدِ الإنسان ليُوصلوه إلى الهدف فإذا بلغ مرحلةً يكونُ عندها مؤهَّلاً لقطعِ بقيةِ الطريقِ وحدَه حينئذٍ ليس علينا سوى توفيرِ الوسائلِ التي يُمكنُ أن توصلَه إلى آخرِ الطريق من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى نقولُ له إنَّ الطريقَ من هنا، فالأنبياء مهَّدوا لرسالةِ الرسولِ الكريم(ص) حتى أوصلوا الإنسانَ إلى مرحلةٍ متقدِّمةٍ نسبيَّاً فجاء الرسولُ(ص) ليتمِّم الشوط فما كان عليه إلا أنْ يوفِّر لهم الوسائلَ من جهةٍ وأنْ يقولَ لهم: الطريقُ من هنا.

 

فهنا عناصرُ ثلاثة:

الأول: أهليَّةُ الإنسان ووصولُه إلى مرحلةٍ يكونُ معها قادراً على سلوكِ الطريقِ وحدَه.

الثاني: إعطاؤه الوسيلةَ التي يتمكَّنُ بها من الوصولِ.

الثالث: إرشادُه إلى الطريق، وهذا ما فعله النبيُّ الكريم (ص).

 

فأمَّا الأهليَّةُ فقد توفَّرت بواسطةِ الرسالاتِ السابقةِ وجاءَ النبيُّ (ص)فتمَّمها للناس، وأما الوسائلُ فهي القرآنُ الكريم والسُنَّةُ الشَّريفةُ والعِترةُ المطهَّرة أعدَّها الرسول (ص) لهم ثم قال لهم هذه هي الوسائلُ وهذا هو الطريقُ، وعندئذٍ لا يكون ثمةَ من حاجةٍ لنبوَّةٍ أخرى، لماذا يَبعثُ اللهُ أنبياءَ آخرين؟ لإيضاحِ المعارفِ الإلهيَّة؟ فقد أوضحت، وقد تكفَّلَ اللهُ بحفظِها وقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾(10) فهذه الوسيلةُ لن تعطَبَ، ولن يمسَّها أحدٌ بتحريف ثم إنَّ هناك قُوَّامٌ قد أحاطوا معرفةً بالقرآنَ والإسلامَ هؤلاءِ سيكونونَ معكم أدلاءَ على الحقِّ والخيرِ وهم أهلُ البيتِ (ع) فإذا شئتم الهدايةَ فتمسَّكوا بهم واهتدُوا بهديِهم وإنْ شئتم غيرَ ذلك فهو شأنُكم فقد قامت الحجَّةُ عليكم. هذا من جهةٍ ومن جهةٍ أخرى فالإنسانُ مؤهَّل لأنْ يتعاطى مع هاتينِ الوسيلتينِ القرآنِ والعترةِ، عندئذٍ لا مبرِّرَ لتجدُّدِ النبوَّة، فكلُّ المعارفِ قد أُودعتْ في القرآنِ وفي السنّةِ الشريفة وكلُّ القيمِ قد جاءَ بها الإسلام ثم اختار لهم أوصياءَ يكونون على درايةٍ ووعيٍ كاملٍ بالقرآن والسنَّة، فبأي عذرٍ يعتذرُ الإنسان، هل يعتذر بقصورٍ أو نقصانٍ في المعارفِ نقولُ إنَّها ليست ناقصةً أليستِ المعارفُ الإلهيَّة من عند الله؟ فهو يقول قد: أكملتُها، أليستْ القيمُ والتشريعاتُ من عند الله؟ وقد قال إنِّي أكملتُها وارتضيتها لكم أبدَ الآبدين، تقولون: إنَّ الطريق يحتاجُ إلى وسيلةٍ فنحن نعرفُ الطريقَ ولكن ليست لدينا وسيلةٌ فيقولُ الله تعالى: هذه الوسيلة قد بذلناها لكم وضمنا لكم أنَّها لا تنحرف: "إنِّي مخلفٌ فيكم الثقلين كتابَ الله حبلٌ ممدودٌ من السماء إلى الأرض وعترتي أهلَ بيتي لا يفترقان حتى يردا علي الحوض"(11) "ما إن تمسكتم بهما فلن تضلوا بعدي أبدا"(12) فهو ضمانُ بعدم الانحرافِ عن الجادة، عندئذٍ لا يكون من مبرِّرِ لتجدُّدِ الرسالاتِ.

 

الخاتمة:

إنَّ الإنسانَّ قد بلغَ في زمن النبيِّ محمَّدٍ (ص) مرتبةً تؤهِّله لتحمُّلِ أعباءِ المسئولية، ومعنى إنَّه مؤهَّلٌ لتحمُّلِ أعباءِ المسئوليَّة ليس هو أنْ يسلكَ الطريقَ وحدَه دون اعتمادِ الوسائل، فرغم أنَّه مؤهَّلٌ ولكنَّ هذه الأهليَّة تحتاجُ إلى تفعيلٍ وهذه الأهليَّة إنَّما تنتجُ عن الوقوف على الوسائل التي أعتمدَها الإسلام، فالإنسان لو كان مؤهَّلاً لسلوك الطريق لكنه ليس واجداً للوسائلِ التي قد تُوصله للطريق فإنَّه لا يصل لكنَّ الوسائلَ قد توفَّرت عليها الشريعةُ الإسلاميةُ، لذلك يسقط كلُّ مبرِّرٍ لتجددِ النبواتِ وهذا هو منشأ عدم تجدُّدِ النبوات.

 

وأما المسارُ الثالثُ والذي يتطوَّرُ فيه الإنسانُ فهو تطوَّرُه من حيثُ استيعابُه للعللِ التكوينيَّة ومن حيث استيعابُه للطبيعةِ ولأسرار الظواهر الكونيَّة ثم هيمنتُه عليها، وهذا الخطُّ وهذا المسارُ لا يقفُ عند حدٍّ، ويظلُّ الإنسانُ ينمو ويتطوُّر من جهته وتكون قدرتُه على الهيمنةِ على الطبيعة وعلى الكونِ في تقدُّمٍ مستمر، لكنَّ هذا المسار لا يرتبطُ بخطِّ النبوة، فخطُّ النبوة يرتبطُ بأمرينِ الأول هو المعارفُ الإلهيَّة ووعيُ التوحيد ووعي معنى المعاد والصفات الإلهية وصفات الجلال والجمال والتقديس والتنزيه، والأمرُ الآخر هو القيمُ والخلقُ والتشريعات، فهذانِ الخطَّانِ هما اللذان يرتبطانِ بالنبوَّة، وقد أكملهمُ اللهُ عزَّ وجل بخاتمِ الأنبياء، وأما الخطُّ الثالثُ فهو لا ربطَ له بخطِّ النبوات، وتطوُّرُ الإنسانِ من هذه الجهةِ لا يبرِّرُ تجدُّد النبوَّاتِ. 

 

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ / فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ / إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾(13)

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

20 من ربيع الأوّل 1437هـ - الموافق 1 يناير 2016م

جامع الإمام الصّادق (عليه السّلام) - الدّراز


1- سورة الأحزاب / 40.

2- سورة النجم / 5-10.

3- سورة النجم / 17-18.

4- سورة المائدة / 48.

5- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج16 ص210.

6- مجمع الزوائد -الهيثمي- ج8 ص188.

7- سورة المائدة / 3.

8- سورة الأعراف / 138.

9- سورة النساء / 153.

10- سورة الحجر / 9.

11- الخصال -الشيخ الصدوق- ص65.

12- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج2 ص100.

13- سورة الكوثر.