حديث حول الإمام العسكري (ع)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد (ص)، وعلى آله الأخيار الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

 

اللهمَّ أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.

 

نرفع إلى مقام بقية الله في أرضه أحرَّ العزاء بمناسبة ذكرى استشهاد والده أبي محمد الحسن بن عليٍّ العسكري عليه أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم، وليِّ الله في أرضه، وحجَّته على عباده، والمنتجبِ منه دون خلقه، وصفيِّه وخالصتِه. وبهذه المناسبة نودُّ أنْ نقفَ على شيءٍ من فصولِ حياةِ هذا الإمامِ المعظَّم (ع)، لنستلهمَ منها بعض العبرِ والدروس.

 

الولادة والاستشهاد:

وقبل ذلك نشير إلى شيءٍ ممَّا يتصل بترجمة الإمام عليه أفضل الصلاة والسلام، فالإمام الحسن بن عليٍّ العسكري هو الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت (ع) ولد في المدينة المنورة، وقيل إنَّه ولد في سامراء، وكان مولده في اليوم الثامن من ربيعٍ الثاني، سنة مئتين واثنين وثلاثين من الهجرة النبويَّة الشريفة، وقيل قبل ذلك بسنةٍ أو بسنتين، يعني ثمةَ قولٌ بأنَّ مولده كان في سنة مئتين وثلاثين، وقولٌ آخر أنَّه كان في سنة مائتين وواحد وثلاثين. وكانت والدة الإمام العسكري يقال لها سوسن، وذكر بعضهم أنَّ اسمها حديثة، وذكر السيد هاشم البحراني التوبلاني (قدس) أنَّ اسمَها سليل، وكانت كما أفاد من الزاهدات العارفات العابدات المعروفات بالورع والتقوى والصلاح، بقي عليه السلام في ظلِّ أبيه وفي كنفه مدَّة ثلاثٍ وعشرين سنة أو اثنين وعشرين سنة، ثم اطلع بدور الإمامة واستمرَّت إمامته مدة ست سنوات تقريباً، ثم رحل إلى ربِّه شهيداً.

 

عاصر ثلاثة من خلفاء بني العباس:

عاصر من خلفاء بني العباس ثلاثة: الأول هو الملقَّب بالمعتزِّ العباسي، وكان قد بقي من حكمه أشهراً ثم مات، وجاء بعده المهتدي، ولم يمكث طويلاً في الملك، بل عاجله اللهُ عزَّ وجلَّ فقتله الأتراك، فقد كانت السلطة الفعلية في المرحلة الثانية من عمر الدولة العباسية بيد الأتراك فكانت لهم الهيمنة على مفاصل ومقدرات الدولة العباسية، فكانوا هم الحكام الواقعيين، وإن كانت السلطة بحسب الظاهر في يد العابسيين، ولكن المتنفذين فيها والآمرين والناهين هم الأتراك، قتلوه ثم نصَّبوا بعده رجلاً من بني العباس يُلقَّب بالمعتمد، فبقي في الخلافة ما يقرب من العشرين سنة. وقد بقي الإمام العسكري (ع) مدة خمس سنوات من خلافة هذا الرجل العباسي، ثم استُشهِد مسموماً كما رُوي على يد هذا الطاغية، فكانت مدَّة إمامته ستَّ سنوات، وقيل خمساً وشهورا.

 

النصُّ على إمامة الحسن العسكري (ع):

بعد ذلك نودُّ أن نتحدَّث في عدَّة محاور تتَّصل بحياة وإمامة الإمام العسكري (ع)، طبعاً لا نريد التحدُّث عن الأدلة التي يستدلُّ بها الشيعة على إمامة الإمام العسكري (ع)، لأنَّ ذلك أمرٌ مفروغ عنه، وقد نصَّت الروايات المتواترة عن الرسول الكريم (ص) وعن أهل بيته (ع) على إمامته، وقد وردت رواياتٌ نصَّت على أسماء الأئمة واحداً تلو الآخر، عن الرسول الكريم (ص)، وعن السيدة فاطمة (ع)، وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، وعن الأئمة (ع)، هذا مضافاً إلى الروايات العامَّة التي تحدَّثت عن أنَّ الإمامة بعد النبيِّ (ص) تكون في اثني عشر رجلاً من أهل البيت يكون آخرهم قائمهم (عج)، هذا مضافاً إلى الروايات الخاصَّة والكثيرة والتي تفوق مرتبة التواتر الصادرة عن الإمام الهادي (ع) المؤكدة على أنَّ الإمامة بعده لإبنه الإمام الحسن العسكري (ع).

 

من وسائل إثبات الإمامة عند الشيعة:

هناك أمر آخر يتمسك به الشيعة لإثبات إمامة الإمام العسكري وكذلك سائر الأئمة (ع)، وهي الكرامات الكثيرة التي تصدر على يد الإمام (ع) بمرأى وبمسمع من شيعته، هذه الكرامات التي تُعبر عن المقام السامي للإمام، وتعبِّر عن موقعه في تاريخ الرسالات، وتعبِّر عن إمامته وصوابيةِ ما يدَّعونه من الإمامة لأنفسهم، هذا النحو من الاستدلال كان هو الذي يفهمه الكثير من عوام الناس، فكانت تصدرُ وتظهرُ على يديه الكثير من الكرامات تثبِّت من عقائد الناس في إمامة الإمام، كإمامة الإمام الجواد أو الهادي أو الصادق أو العسكري عليهم السلام، كانوا -الشيعة- يرون الكرامات تظهرُ على أيديهم على نحوٍ من الكثر بحيث يمكن عدُّها يوميات كلِّ إمام، بل إنَّ أهل البيت (ع) كانوا يؤكدون لشيعتهم أنْ لا يقبلوا من أحدٍ ادَّعى الامامة لنفسه إلا أن تصدرعنه وعلى يديه كراماتٍ ظاهرة وبيِّنة توجب القطع واليقين الذي لا ريب فيه أنَّه الإمام المجعول من قبل الله تعالى، فإن لم يصدر منه ذلك فهو ليس بإمام، فلذلك أيُّها الأخوة الأعزاء نحن لا نريد أن نتحدث عن هذا المحور كثيراً ولكن لا بأس أن نشير إلى شيء من ذلك.

 

فقد اعتاد الشيعة وخصوصاً في أيام الإمام الجواد والإمام الهادي والإمام العسكري (عليهم السلام) ثم الإمام المهدي (عج) أنَّهم لا يقبلون بإمامة الإمام بعد موت الإمام الذي سبقه إلا بأمارات واضحة، رغم النصِّ عليه ولكنهم يطلبون علامات، هذا بإيحاء من الأئمة (ع)، وذلك لتحصين الإمامة من دعاوى المضلِّين، فقد يدَّعي -حتى من بعض أولاد الأئمة- الإمامة لنفسه، فكيف الطريق لإيقاف دعاوى المضلِّين حتى لا يدّعوا لأنفسهم ما ليس لهم، وحتى لا يضل الناس ويتوهمون لأحدٍ الإمامة، كانت وسيلتهم للتثبت من ذلك هو طلب العلامة البيِّنة والواضحة على إمامة من تُنسب إليه الإمامة، فكانت هذه سيرة أساطين الشيعة ووجهائهم وعلمائهم مع الأئمة (ع).

 

وفد القمِّيين بعد شهادة العسكري (ع):

نذكر مثالاً سريعا، فقد اتَّفق أنَّ وفداً من شيعة قم وصلوا إلى سامراء يوم استشهاد الإمام العسكري (ع) وكان هذا الوفد المعروف بوفد القميين جاء قاصداً الإمام العسكري(ع) وكان يضمُّ جمعاً من علماء وشيعة قم جاؤوا حاملين كتباً متضمنة لأسئلة ومكاتبات موجَّهة للإمام من قبل الشيعة في قم، وكانوا يحملون معهم حقوقاً وأخماساً لإيصالها إلى الإمام العسكري (ع)، وصل وفد القميين إلى سامراء، فبلغهم أنَّ الإمام (ع) قد رحل إلى ربِّه، فقالوا: ولمن الإمامة بعده؟ فقيل لهم -من قبل بعض عوام الناس- إنَّ الإمام (ع) لم يُخلِّف ولداً لذلك فالأمرُ يكون بعد الإمام لجعفرٍ أخيه ابن عليٍّ الهادي (ع)، ذهبوا إلى جعفر بمحضرٍ من الشيعة الموجودين في سامراء فقالوا له أنت الإمام؟ قال: نعم أنا الإمام، قالوا له نحن جئنا من قم وعندنا مكاتيب فيها أسئلة، وعندنا حقوق موزَّعة في أكياس وصُرر، وعندنا بعض الهدايا، أخبرْنا عن كلِّ كتابٍ بما فيه من أسئلة؟ وعمََن جاءت هذه الأسئلة؟ يعني كل سؤال من هو سائله؟ وما هو اسمه واسم أبيه؟ وما هو سؤاله؟ وأجبنا عن سؤاله أيضاً، وأخبرنا عن عدد الكتب التي نحملها وعدد الأسئلة، وأسماء الذين صدرت منهم الأسئلة وإجاباتها، والحقوق موزَّعة في أكياس، اذكر لنا عدد الأكياس وألوانها، وأخبرنا عمَّا يحتوي عليه كلُّ كيسمن دراهم ودنانير، ولدينا هدايا كُلِّفنا بإيصالها إلى الإمام فأخبرنا عن كلِّ هدية ممَن هي وما هي هذه الهدية فأخبرنا بأنواع الهدايا وأجناسها، عندئذٍ نسلم لك بالإمامة، لأننا جئنا نسلمها للإمام العسكري (ع) أو لمن تثبت له الإمامة بعده يليه، فقال لهم تطلبون منا علم الغيب، فقالوا هكذا علمنا آباؤك، وكنا نسألهم عن ذلك فيُجيبون، وبينما هم كذلك أتى غلام فأشار إليهم أنَّ عندكم كذا كيس، وكذا سؤال، السؤال الأول كذا، والسؤال الثاني كذا، السؤال الثالث كذا، والسؤال الأول صدر من عند فلان في قم، والسؤال الثاني صدر من عند فلان في قم، والسؤال الثالث كذلك، وأخذ يُفصِّل تفصيلاً دقيقاً، فقالوا له من أين لك بالإجابة؟ قال من عند الإمام، قالوا له خذنا إليه، فأخذهم إلى الإمام الحجَّة (عج) وكان صبياً، فجلسوا معه وأخبرهم وسلموه الحقوق والمكاتيب، وأجاب على المكاتيب، ثم أحالهم بعد ذلك إلى عثمان بن سعيد العمري وقال هو وكيلي وهو النائب، هذه كانت طريقة أهل البيت (ع) لإثبات الإمامة، فكان الإمام يخبر بالمغيبات فتكون كفلقِ الصبح.

 

نماذج من كرامات الإمام العسكري (ع): 

إخباره عن بعض المغيَّبات:

وهنا نذكر بعض النماذج من كرامات الإمام العسكري (ع) تؤكِّد هذا المعنى، كان رجلٌ من شيعة الإمام (ع) يسمَّى علي بن زيد، يقول صحبت الإمام (ع) من موضعٍ إلى بيته، فلما وصلنا أردت أن أنصرف فقال لي: يا علي بن زيد تمهل، ثم دخل الإمام البيت وخرج وعنده مائتا درهم، قال له خذ هذه المئتين واشترِ لك بها جارية، فقلت له عندي، قال له الآن قد ماتت، فقلتُ فارقتُها وهي أنشط ما يكون، قال أقول لك ماتت، اذهب واشترِ جارية، يقول ذهبت لبيتنا ودخلت فقيل لي قد توفت فلانة، قلتُ لم تكن مريضة، ولم تكن تشكو من شيء، فقالوا شربت ماء فشرقت وماتت، هذا الإخبار بالمغيبات الذي يكون كفلق الصبح يبعث على الاطمئنان الشديد في قلوب شيعة أهل البيت (ع) الذين يتعاملون مع أهل البيت (ع).

 

مسح على عين ضريرٍ فعاد بصيراً:

ومثال آخر، هناك رجل يسمى علي بن عاصم، هذا الرجل كان ضريرا، دخل على الإمام (ع) يزوره في مجلسه، فلمَّا أراد أن يجلس قال له الإمام (ع): يا ابن عاصم لقد وطئت بقدميك هاتين بساطاً هو مِن تراث النبوَّة، جلس عليه النبيُّ (ص) وجلس عليه عليٌّ (ع) يقول: فقلتُ في نفسي ليتني كنتُ بصيراً حتى أنظر إلى هذا البساط الذي جلس عليه بعض الأنبياء وبعض الأوصياء، فقال الإمام (ع) اقترب يا ابن عاصم، حدثتَ نفسك أن تُبصر، قلتُ: بلى يا سيدي، فمسح على عينيه بيديه المباركتين فعاد بصيراً، وقع هذا بمرأى من شيعة آل محمد (ص)، لذلك تتأكد إمامة الأئمة (ع) عندهم، فهؤلاء لا يحتاجون لنص، هؤلاء يرون بالعيان كرامات أهل البيت (ع).

 

إخباره عن اليوم والساعة التي يخرج فيها السجين:

نذكر نموذجاً ثالثاً يعبِّر عن مقام الإمام الحسن العسكري السامي عند الله عزَّ اسمه وتقدَّس، يقول أحدُهم كنتُ مسجوناً فبعثتُ إلى الإمام (ع) من السجن في سامراء بقصاصة كتاب بيد أحد الحجَّاب، شكوتُ إليه ضيق السجن، وأنَّه ضاق صدري، ويكاد أنْ ينفد صبري، فكتب الإمام (ع) قصاصةً وأعطاها الحاجب ليُوصلها إليه وأعطاه دراهم، وقال له: أوصلها له، وكان مكتوباً في القصاصة تُصلِّي فريضة الظهر في منزلك اليوم، يقول لم تكن هناك أمارات على أنْ أخرج من السجن، وفي نفس اليوم فعلاً بتحديد الوقت والزمان خرج الرجل من السجن، هذه أمور لا تصدر من رجل إلا إذا كان لديه اتصال مباشر بالسماء، اتصال مباشر بالغيب، هؤلاء انفتحوا على الغيب.

 

سرعة الاستجابة لدعائه:

وخبر آخر أنَّ عدداً من أعيان الشيعة قالوا دخلنا على الإمام (ع) في مجلسه فرأيناه مغضباً، فقال: قد نازلتُ الله في هذا الطاغية يشير إلى أحد القوّاد وكان يؤذي شيعة آل محمد في سامراء، قد نازلت الله في هذا الطاغي وقد أخذه الله يعني استجاب دعائي بعد ثلاث، فهو (ع) يخبر وبكلِّ ثقة أنَّ الله قد استجاب دعاءه وأنَّ هذا الطاغي سوف يهلك بعد ثلاثة أيام وذلك هو ما وقع، فقد مات بعد ثلاثة أيام، هذه عجائب!! أن تُدلي بكلامٍ عام فتقول مثلاً إن هذا يموت عن قريب، فإنَّه يمكن أن يُصادف الواقع فيموت عن قريب، أمَّا أنْ تحدد اليوم والوقت والساعة فهذا لا يكون إلا عن اتصالٍ مباشر بالغيب.

 

سيردُ إليك دينك ويموت بعد جمعةٍ من وصول الكتاب:

وتُشبه هذه الحادثة حادثةٌ أخرى لرجلٍ من شيعة آل محمد كان في الحجاز، يقول كان لي دين على رجلٍ من بني عمومتي وكان قدره عشرة آلاف درهم، وكلما طلبتُ منه أداءها أن يماطل، فكتبتُ إلى الإمام (ع) رقعة أخبرته أن لي ابن عمٍّ قد استدان مني عشرة آلاف درهم وكلما طالبته بردِّها ماطلني، وأنا في أمس الحاجة إليها، فأسألك أيها الإمام أن تدعو لي في أن يردها عليَّ، فكتب إليه الإمام (ع): أنَّه بوصول كتابي إليك سيرد عليك العشرة آلاف، ثم سيموت بعد جمعةٍ من وصول الكتاب وذلك هو ما وقع، هذه الكرامات التي كانت تظهر على أيدي الأئمة (ع) كان من آثارها تثبيت عقيدة الإمامية وكان من آثارها تحصين الإمامة من دعوات المضلِّين.

 

الإمام (ع) في بركة السباع:

لقد لاقى الإمام (ع) أذىً كثيراً من العباسيين، وكان قد سُجن لأكثر من مرة، وفي إحدى المرَّات التي سجن فيها، كان قد سُجن عند قائدٍ من القواد العسكريين في سامراء، هذا الرجل كان قد سَجنه في حجرةٍ من حجرات بيته، فقالت له زوجته يا رجل مثل هذا لا يُسجن، فهو من أهل الله تعالى، فما دخلتُ عليه إلا وجدته يُصلي، وما قدمت له طعاما في النهار إلا امتنع عن تناوله فهو دائم الصوم والصلاة، ألا تخشى الله من حبس هذا العبد الصالح؟ فقال متبجِّحا سأريكِ ماذا سأفعل به قريباً سوف أرميه في بركة السباع وكانت تلك من الوسائل لتصفية المعارضين في العصر العباسي، خصوصاً المرحلة الثانية من العصر العباسي فكانوا يرمون خصومهم في بركة السباع وهي أشبه شيءٍ بمحمية كبيرة مسورة مفتوحة من الأعلى فيها أسود ضارية، فكانوا كلما غضبوا على رجل زجُّوه في تلك البركة،- قال سوف أزجُّه غداً في بركة السباع، وكان ذلك بإيعازٍ من المعتمد العباسي، وكانت طريقتهم في ذلك أنهم يجيعون السباع حتى إذا ما رموا إليها أحداً من المعارضين مزقته إلى أشلاء، وبالفعل أدخلوا الإمام (ع) إلى بركة السباع ثم ذهبوا، ولم يكونوا يشكُّون أنَّ السباع ستمزق لحمه فهم معتادون على ذلك، مضوا وبعد ساعات وقيل بعد يومٍ عادوا، فرأوا الإمام يُصلي والسباع تحيط به!! فكان يصلي وهي رابضة حوله، لا تحرك ساكناً، فأصابهم من ذلك الذهول، وعلى الفور ذهب أحد الجنود إلى المعتمد وأخبره، ففزع وجاء بنفسه إلى بركة السباع ليُشاهد الحدث بنفسه، ثم أمر السائس للسباع بإخراج الإمام (ع) من بركة السباع، فما أن دخل السائس حتى أحاطت به السباع فمزَّقت لحمه، وحطمت عظامه، وخرج الإمام (ع) من البركة وكاد المعتمد أن يسجد إليه معتذراً وقال لم يكن ذلك عن أمري وسوف أحاسب من أمر بذلك وأنا أعتذر لكم يا سيدي!!

 

فهذه مجموعة من النماذج التي تُؤكِّد على المقام السامي للإمام الحسن العسكري (ع)، وكان بودِّنا أنْ نتحدث عن الأدوار التبليغية التي مارسها الإمام العسكري (ع).

 

وعلى كلِّ حال فالإمام(ع) كان قد نهض بدورٍ زائد على الأدوار التي كان نهض بها أئمة أهل البيت (ع) من قبيل التعليم، والتبليغ، والوعظ، والإرشاد، والرعاية لشؤون الشيعة، والتصدِّي للتعريف بأحكام الله تعالى، وتفسير كتاب الله جلَّ وعلا، وتفسير سنَّة رسول الله (ص)، هذا الدور الذي كان قد تصدَّى له أئمةُ أهل البيت (ع) كان قد تصدَّى له الإمامُ الحسن العسكري (ع)، وكان يمارس هذا الدور بوسائل عديدة امتاز الإمام (ع) فيها عن سائر الأئمة(ع) في أنَّه استكر من وسيلة المكاتبات، فكانت له رسائل كثيرة للشيعة الذين كانوا منتشرين في أكثر أقطار الحاضرة الإسلامية، خراسان، والأهواز، وقم، إلى الحجاز، إلى جرجان، إلى اليمن، إلى مدن العراق، كان يبعث برسائله إلى كلِّ هذه المدن وهذه الحواضر.

 

قيام الإمام بدور الإثبات لولادة المهدي:

وهنا دورٌ آخر نهض به الإمامُ (ع) مضافاً إلى الدور الذي كان قد تصدَّى له أئمة أهل البيت (ع)، وهو أنَّه كان قد نهض بدور الإثبات لولادة الإمام الحجَّة (عج) والمحذور الذي كان يجعل من هذه المهمَّة في غاية الصعوبة، هو أنَّه في الوقت الذي يُريد أنْ يُخفي عن العباسيين ولادة الإمام الحجَّة (ع) حيث كان يستوطن قسراً عاصمتهم وكان تحت نظرهم إلى درجة أنه حين مرض بعث المعتمد بتسعةٍ من أخصِّ رجاله فكانوا مع الإمام (ع) في داره ليل نهار يرصدون كلَّ من يدخل عليه وكان من مهمتهم التثبُّت من أنَّ له ولداً؟ أو ليس له ولد؟، فهو في الوقت الذي يخشى على ابنه من أن يتعرَّف النظام العباسي على وجوده، كان لابدَّ من أن يُثبت ولادته للشيعة، فهو أمام محذورين، ولذلك قام بهذا الدور قياماً يحوطه الكثير من المخاطر إلا أنَّه استطاع أن يُثبت للشيعة أنَّ الإمام قد وُلد، وفي ذات الوقت تمكن من إخفاء وجوده عن السلطة العباسيَّة.

 

الإمام المهدي (ع) ينطق وهو في المهد:

وفي ختام الحديث نذكر أنَّ من ضمن الوسائل الذي اعتمدها الإمام (ع) لإثبات ولادة الحجَّة (ع) هو أنَّه كان يختار في كلِّ مرَّة عدداً من أخصِّ شيعته ليُعرِّفهم على أنَّ الإمام (عج) قد وُلد، فمِن ذلك ما ورد أنَّه دخل عليه جمعٌ من أعيان الشيعة وهم عليُّ بن بلال، ومحمد بن معاوية بن حكيم، والحسن ابن أيوب، وأحمد ابن إسحاق، هؤلاء كانوا من أعيان الشيعة، دخلوا على الإمام (ع) وكانت جلسة خاصة، وعندما تأكدوا أنَّه ليس بينهم من يحذرون منه، قام وجاء لهم بالإمام المهدي (ع) وهو رضيعٌ في المهد، فعرضه عليهم، فقال هذا هو الإمام بعدي، وهو الخلفُ القائم، وهو الذي يغيبُ ثم يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلا كما مُلئت ظلماً وجوراً، فاستبشروا بذلك ومنعتهم هيبة الإمام (ع) من سؤاله عن العلامة عن ذلك كما هي العادة، إلا أنَّ أحمد ابن إسحاق -وكان أكبرهم سناً- تجرأ وقال للإمام العسكري: سيدي نريد علامة على أنَّه الإمام القائم، فأشار إليه كما أشارت مريم إلى السيد المسيح، وحينها توجهت أنظار أصحاب الإمام (ع) إلى هذا الرضيع الذي كان يحمله الإمام فنطق بلسانٍ عربيٍّ فصيح وقال: أنا بقيَّة الله في أرضه، والمنتقِمُ من أعدائه، فلا تطلب أثراً بعد عين يا أحمد بن إسحاق، رضيع ينطق وهو في المهد ويسمي السائل باسمه ويقولُ له لا تطلب أثراً بعد عين يا أحمد بن اسحاق.

 

قام الإمام (ع) بهذا الدور الخطير والدقيق جداً وهو إثبات ولادة الإمام الحجة (عج)، ففضلُ ثبوت ولادة قائم آل محمد (عج) يعود إلى مولانا الإمام العسكري (ع)، فببركة جهوده وتحمله للعديد والكثير من العناء استطاع أن يثبت بالتواتر ولادة الإمام الحجة (ع) وفي ذات الوقت أخفى وجوده عن السلطة العباسية التي كانت حريصةً على تصفيته.

 

وكان لوالدة الإمام المهدي (ع) السيِّدة نرجس دورٌ لافت في حماية الإمام (ع) فرغم أنَّها قد سُجنت مرَّاتٍ عديدة بعد استشهاد الإمام العسكري (ع) فحُبست في بيت المعتمد نفسه، في دارٍ من دوره وكانت حولها النساء تنام معها ولا يفارقنها ليل نهار يراقبنها ويرصدن جميع أحوالها إلا أنَّها كتمت وصبرت على الأذى، ولم تخرج من الحبس حتى ابتُليت الدولة العباسية باضطراباتٍ تشاغلوا بها عن هذه المرأة الصالحة فتخلَّصت من حبس وإيذاء هؤلاء الظالمين.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور