اتِّهام يُوسُفَ بالسرقةَ هل هو خطأٌ تاريخي؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

اللَّهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وآل محمَّد

الشبهة 

يقولُ الله تعالى في سورة يوسُف: ﴿قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ﴾.

زعمت بعضُ المواقع التبشيريَّة أنَّ هذه الآية اشتملتْ على خطأ تأريخيٍّ وذلك لأنَّها نَسَبت السرقة إلى يوسف (ع) فقد أورد الطبريُّ في تفسيرِه جامع البيان عن سعيد بن جُبير: في قوله تعالى: ﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ قال: "سرَقَ يوسفُ صنمًا لجدِّه أبي أمِّه، كسرَه وألقاهُ في الطريق، فكان اخوتُه يَعيبونَه بذلك"(1).

والصحيح -بحسب زعمِهم- أنَّ القصَّةَ الحقيقيَّة هي أنَّ الذي سرَق هي أُمُّ يوسف "راحيل" سرَقت أصنام أبيها "لابان" كما جاء ذلك في الاصحاح 31 من سِفْرِ التكوين قال: "ولكنْ لماذا سرقت آلهتي .. ولم يكن يعقوبُ يعلمُ أنَّ راحيل سرقتها وكانت راحيل قد أخذت الأصنام وأخفتها في حداجة الجمل وجلستْ عليها وجسَّ لابان كلَّ الخباء ولم يجد"(2).

الجواب عن الشبهة:

والجوابُ عن هذه الشبهةِ الواهية هو أنَّهم استدلُّوا على خطأ الآيةِ بمنافاة مفادِها لما ورَد في التوراة، فلأنَّ مفادَ الآية منافٍ أو غيرُ مطابِقٍ لما جاء في التوراة لذلك زعموا أنَّ الآية خاطئة، فقد جعلوا معيارَ الخطأ والصواب هو المطابقة وعدم المطابقة لما جاء في التوراة وكأنَّ التوراة المتداولة مفروغًا عن صحَّتها لدى طرفي الخصومة وهم المسلمون وأهل الكتاب، والحال أنَّ المسلمين لا يُسلِّمون ولا يعتقدون بصحَّةِ كلِّ ما جاءَ في التوراة المتداولة، فلا يصحُّ الاحتجاجُ عليهم بما جاء في التوراة.

وبتعبيرٍ آخر: إنَّ ممَّا هو مقرَّر بديهةً لدى العقلاء وفي القواعد المنطقيَّة هو أنَّه لا يصحُّ الاحتجاجُ على الخصم إلا بما هو مُسلَّمٌ عنده، وحيثُ إنَّ التوراة المُتداولة التي استدلَّ بها هؤلاءِ التبشريُّون ليستْ موردًا لقبول المسلمين بل هي متَّهمةٌ عندهم بالتحريف لذلك يكونُ الاستدلالُ بها ساقطًا بمقتضى القواعد المنطقيَّة وغيرَ مُلزِمٍ، فلو صحَّ لليهود أو النصارى أنْ يحتجُّوا على خطأ الآية المذكورة بما جاء في التوراة لصحَّ للمسلمين أن يحتجُّوا على خطأ ما جاء في التوراة بما ورد الآية المذكورة من سورة يوسف.

فالمناسبُ -لو أراد التبشيريُّون إثباتَ دعوى خطأ ما ورد في الآية المذكورة من سورة يوسف- هو أن يستدلُّوا إمَّا بنصِّ يعترفُ المسلمون بصدقِه وصحَّتِه أو يستدلُّوا على الواقعة التي جاءت في التوراة بنصوصٍ تأريخيَّة مُحايدةٍ متواترةٍ أو قابلةٍ للإثبات، وأمَّا الاستدلال على ذلك بما جاء في التوراة المُتداولة فهو أشبهُ شيءٍ بأنْ يدَّعيَ أحدٌ على آخر دينًا والآخرُ ينكرُ ذلك ويطلبُ البيِّنة فيقولُ المدَّعي إنَّ البيِّنة هي أنَّ ذلك مكتوبٌ عندي!!، فهل يَقبلُ القاضي أو العقلاءُ منه هذه الدعوى؟! أليستْ هذه البيِّنة المزعومة هي نفسها الدعوى المزعومة؟! وهذا هو ما يُسمَّى عند المناطقة بالمصادرة والتي تكون معها البيِّنةُ تكرارًا لذات الدعوى.

فعلى التبشيريين أنْ يلتمسوا دليلًا آخر على دعوى خطأ الواقعة المذكورة في الآية من سورة يوسف، وأنَّى لهم ذلك؟! والقضية جزئيةٌ لم يتصدَّ لذكرها سوى القرآن والتوراة المتداولة، وكلٌّ منهما يذكرها بنحوٍ مختلفٍ عن الآخر فدعوى صحَّة ما ورد في التوراة المتداولة ليس بأولى من صحَّةِ ما ورد في القرآن وخطأ ما أوردته التوراة المتداولة. بل إنَّ البراهين المذكورة في محلِّها على نبوَّة النبيِّ محمَّد (ص) وأنَّه قد تلقَّى القرآنَ من عند الله تعالى تصلحُ دليلًا دامغًا على كذب كلِّ خبرٍ مخالفٍ لما ورد في القرآن الكريم سواءً ورد في التوراة المتداولة أو غيرها. هذا أولًا.

وثانيًا: إنَّ الآيةَ المذكورة لم تُثبت وقوع السرقة من يوسُف (ع) حتى يُقالَ إنَّ ذلك منافٍ لما ورد في التوراة من أنَّ "راحيل" أمَّ يوسُف هي التي سرقت الأصنام من أبيها "لابان" وليس يوسف، إنَّ الآية التي يُدَّعى مناقضتها لما في التوراة المتداولة تحدَّثت عن أنَّ أخوة يوسف اتَّهموا يوسف بالسرقة ﴿قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ واتِّهامهم له بالسرقة لا يعني أنَّه سرق واقعًا، فلعلَّ السارقَ هي راحيل كما في التوراة ولكنَّ أخوةَ يوسُف اتَّهموا يوسُف بالسرقة، والتوراةُ المتداولة لا تذكرُ أنَّ "لابان" أو غيره اكتشفوا أنَّ راحيل هي مَن سرقت الأصنام بل ظاهرها أنَّ أحدًا لم يكتشف أنَّها سرقت، فلعلَّ ذلك هو ما نشأ عنه اتِّهامُ أخوة يوسُف ليوسفَ أو نشأ ذلك مكايدةً وحسدًا منهم ليوسُف (ع) .

ثم إنَّ الآية لم تذكر أنَّ يوسف (ع) أقرَّ بتهمة السرقة بل الآية مشعرةٌ بأنَّه يُنكرُ تُهمتَهم له بالسرقة لكنَّه لم يشأ التصريح بذلك حتى لا يتعرَّفوا على أنَّه يوسف: ﴿قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ﴾ فقولُه: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ﴾ صريحٌ في عدم الإقرار لهم بالسرقة المزعومة، وقولُه تعالى: ﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا﴾ واضحٌ في أنَّه لم يشأ الدفاع عن نفسه حتى لا يتعرَّفوا على أنَّ العزيز الذي يُحدِّثهم هو نفسه يوسف لكنَّه وبَّخهم ووصفهم بأنَّهم أشرار.

وخلاصة القول: إنَّ الآية لا تُثبتُ وقوع السرقة من يوسُف حتى يكونَ ذلك مناقضًا لما ورد في التوراة المتداولة من أنَّ راحيل هي التي سرقتْ وليس يوسُف.

وأمَّا ما ورد في تفسير الطبري فهو قولٌ مأثور عن سعيد بن جُبير، فإذا كانت هناك مناقضةٌ فهو بين هذا القول وبين ما في التوراة المتداولة وليس بين القرآن وبين التوراة المتداولة، فدعوى التناقض في هذه القضية بين القرآن الكريم وبين ما جاء في التوراة المتداولة فيه تدليسٌ على القارئ.

على أنَّ هذا القول المأثور ليس ثابتًا ولا هو مسندٌ عن الرسول الكريم (ص) وإنَّما هو قول -غير نقيِّ السند- مأثورٌ عن تابعيٍّ، فلو ثبتَ صدورُه عن هذا التابعيِّ فإنَّ ذلك لا يُثبت صدوره عن الرسول (ص) فهو لم يُدرك الرسول (ص) ولا رواهُ عمَّن أدرَكَ الرسول (ص) فلعلَّه سمِع هذا الخبر ممَّن أسلم من اليهود أو النصارى فاستحسنه فنقله، ولعلَّه سمِعه ممَّن ينقلُ عنهم، فإنَّ النقل عن مثل هؤلاء كان مُتعارَفًا من بعض التابعين بل ومن بعض الصحابة، ولذلك تسرَّبت الكثيرُ من الإسرائليات إلى كتب التفسير.

ثالثًا: لو سلَّمنا جدلًا أنَّ الآية المباركة تُثبت وقوعَ السرَقةِ من يوسُف (ع) لكنَّها لم تتحدَّث عن تفاصيلِ هذه الواقعة وما هو ذلك الشيءُ الذي كان قد سرَقه يوسُفُ ؟ ومَن هو المسروق منه ؟ ولذلك لا تكونُ الآيةُ مناقِضةً لِمَا ورد في التوراة المُتداولة، فلعلَّ واقعةَ السرقة التي تُشير إليها الآيةُ مختلفةٌ عن واقعة السرقة التي تحدَّثتْ عنها التوراةُ المتداولة، فما هو المانعُ من أنْ تكونَ راحيلُ قد سرقتْ أصنامًا من أبيها "لابان" وأخفتْها وأنْ يكونَ يوسف قد سرق أيضًا صنمًا أو شيئًا آخر؟!! فمجرَّد أنَّ السرقةَ التي وقعتْ من يوسف (ع) لم تُذكر في التوراة المتداولة لا يعني أنَّها لم تقع، إذ إنَّ التوراة لم تلتزم بنقلِ كلِّ الوقائع التي حدثتْ ليعقوب وأبنائه وعائلته. ومجرَّد أنَّ التوراة المتداولة قد ذكرتْ أنَّ راحيل قد سرقت أصنامًا من أبيها لا ينفي أنَّ سرقةً أخرى من "لابان" أو غيره قد وقعت من يوسف (ع) أو غيره. فدعوى اتِّحاد الواقعة التي أشار إليها القرآن مع الواقعة التي تحدثتْ عنها التوراة المتداولة تعسُّفٌ واضحٌ لا يفعلُه العقلاء.

على أنَّه قد ذكرنا أنَّه لا تناقض بين الآية وبين ما جاء في التوراة حتى لو قبلنا باتِّحاد الواقعة، وذلك لأنَّ الآيةَ تتحدَّث عن اتِّهام اخوة يوسف ليوسف بالسرقة وما جاء في التوراة المتداولة هو أنَّ راحيل هي السارقة، ومن الواضح جليًّا أنَّ من الممكن جدًا أنْ تكونَ راحيل هي السارقة ويكونَ يوسفُ (ع) هو المتَّهم.

هذا وقد ورد في بعض الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) أنَّ يوسف (ع) لم يسرقْ وأنَّ منشأ اتِّهام اخوة يوسف ليوسف وتعييرهم له بالسرقة في صباه هو أنَّ بنت إسحاق (ع) أخت يعقوب وعمَّةَ يوسف كانت ترعى يوسف في صباه وكانت شديدة التعلُّق به فلمَّا كبر أراد يعقوب أخذه منها فأمهلتْه إلى غد ذلك اليوم، فاحتالت لإبقائه عندها فأخذت منطقةَ أبيها إسحاق كانت قد ورثتها منه ولفَّتها حول وسط يوسف ثم ألبسته قميصه، ثم تظاهرت بفقد منطقة أبيها ففتَّشت يوسف في محضر أبيه فإذا بالمنطقة ملفوفة حول وسطه ، وكانت السُنَّة الجارية عندهم أنَّ مَن سرق كان جزاؤه أنْ يُدفعَ إلى المسروق منه، ولهذا اتَّهمه أخوتُه بالسرقة وهو لم يسرق بل هي حيلة اصطنعتها عمَّةُ يوسف ليبقى عندها، رُوي ذلك عن الإمام الرضا (ع) كما في تفسير العياشي(3) فهذه الرواية لو صحَّت عن الإمام (ع) فإنَّها تُؤيِّد أنَّ القضيَّة التي تُشير إليها الآية لا تمتُّ بصلةٍ إلى القضيَّة المذكورة في التوراة المتداولة.

وسواءً صحَّت هذه الرواية أو لم تصحُّ فإنَّ الآية لا تُناقضُ ما ورد في التوراة المُتداولة ،فإنَّ الآية تتحدَّث عن اتَّهام أخوة يوسف ليوسف بالسرقة في صباه وما تحدثت عنه التوراة المُتداولة هو أنَّ راحيل قد وقعت منها السرقة فأين التناقض؟!!، ولو فُرض -جدلاً- أنَّ الآية مناقضةٌ لما في التوراة المتداولة فإنَّ ما ورد في الآية هو الصحيح عندنا جزمًا، ودعوى اليهود والنصارى أنَّ ما في التوارة المُتداولة هو الصحيح لا يعنينا بشيء، فلم يثبت أساسًا أنَّ التوراة المتداولة هي التوراة التي نزلت على موسى (ع) وثبوت ذلك عندهم لا يُصحِّح لدى العقلاء الاحتجاج بها علينا.

والحمد لله ربِّ العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- جامع البيان -hلطبري-  ج13 / ص37.

2- الكتاب المقدس العهد القديم ص51.

3- تفسير العياشي ج2 / ص 185.