توهُّم التنافي بين المُساءلة يوم القيامة ونفيها

شبهة مسيحي:

في سورة الصافَّات يقول القرآن: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾(1) أي احبسوهم!

وفي سورة الأعراف: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾(2) مع انَّه ورد في سورة الرحمن: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ﴾(3) أليس ذلك من التناقض؟!!

الجواب:

قليلٌ من التأمُّل:

بقليلٍ من التأمُّل في سياقات الآيات الثلاث والقرائن المكتنفة بكلٍّ منها يتبيَّن بجلاء عدم التنافي بينها، ويتَّضح أنَّ ماتُثبِته الآيتان من سورتي الصافَّات والأعراف من وقوع المُساءلة مختلفٌ عما تنفيه الآية من سورة الرحمن.

(السؤال) و مدلولاته اللغويَّة:

فالسؤال -بمادَّته وأدواته- في إستعمالات العرب وكما هو مُثبَتٌ في علم المعاني والبيان وكُتبِ اللغة والأدب العربي يُستعمل في أكثر من مدلول تصل إلى أربعة أو تزيد نذكر منها ثلاثة:

الأول: السؤال لطلب المعرفة:

يُستعمل السؤال -بلفظه وأدواته مثل "هل، متى"- ويُراد منه الإستخبار والإستعلام وطلبِ المعرفة لأمرٍ مجهول عند السائل، ومثال إستعماله بمادَّته في هذا المعنى قول المريض للطبيب: أسألك عن أثر الحامض على صحتي؟ فمادَّةُ السؤال إستُعملت في المثال للإستعلام و الإسترشاد وطلب المعرفة.

ومثال إستعمال أدوات السؤال في هذا المعنى قول الجاهل بهوية الرجل القادم: مَن هذا؟ أو مَن أنت؟ وقول المشتري للبائع: بكم تبيع هذه البضاعة؟ وقول التلميذ لأُستاذه: متى وقعت معركة اليرموك؟ أو أين وقعت؟ أو ما هو سبب نشوبها؟ أو مَن هو المنتصرُ فيها؟ وكم هو عدد القتلى؟

فكلُّ واحدٍ من هذه الخطابات يُعبَّر عنه بالسؤال، والغرض من إيراده هو الإستعلام من المخاطَب وطلب المعرفة لأمرٍ مجهول عند مَن صدر عنه الخطاب بالسؤال.

شواهد قرآنيَّة على المدلول الأول:

وقد إستعمل القرآن الكريم مادَّة السؤال وأدواته في هذا المعنى كثيراً، فمثال إستعماله بمادَّته في هذا المعنى قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ﴾(4) وقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾(5) وقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾(6) وقوله تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا﴾(7) وقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾(8) وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴾(9) فمادَّة السؤال في مثل هذه الآيات إستُعمل وأُريد منه الإستعلام وطلب المعرفة لأمرٍ مجهول.

ومثال إستعماله بأدواته في هذا المعنى قوله تعالى على لسان فرعون يسأل موسى وهارون: ﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى﴾(10) وقوله تعالى على لسان الرسول (ص) وَاللَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ: ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾(11) وقوله تعالى على لسان الإنسان: ﴿أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾(12) فأدوات السؤال -مَن، متى، أيَّان- في الآيات الثلاث سِيقت لغرض الإستفهام وطلب المعرفة لأمرٍ مجهولٍ عند السائل.

الثاني: السؤال للتوبيخ:

يُستعمل السؤال بمادَّته وأدواته في التوبيخ والتبكيت والتقريع أو المعاتبة والتلويم، ومثاله أنْ يُخاطب السيِّدُ خادمه بقوله: لماذا أهملت في عملك؟ يقصد من ذلك توبيخه على إهماله، فهو لم يسأله مُستوضِحاً ولا طالباً لمعرفة شئٍ يجهلُه بل قصَدَ من سؤاله توبيخَه وتقريعَه، ولهذا فهو لا ينتظرُ جواباً على سؤاله.

وهكذا حينما يُخاطب المُحسِن مَن أحسن إليه فقابل ذلك بالإساءة: أَلمْ أُحسنْ إليك؟ أليس كلُّ مالديك كان من هِباتي؟ ألم أُخلِّصك من الغرماء اللذين كانوا يُطالبونك بأموالٍ لهم عليك؟ فإنَّ مثل هذه الأسئلة لم يقصِد منها السائل الإستفهام والإستعلام وإنَّما قصَد منها التوبيخ والتبكيت.

وكذلك حينما يُخاطب الناصحُ مَن كان قد نصحَه فخالف نصيحته فوقع في المحذور: ألمْ أنصحك بإجتناب هذا الأمر؟ ألم أُحذِّرك؟ فهو يقصد من ذلك معاتبته وتلويمه.

ومن ذلك ماورد في أمثال العرب: "أَحَشَفاً وسوء كيلة؟"(13) وقولهم: "أحشُّك وتروثني؟"(14) وقول الشاعر العربي: "أَطَرباً وأنتَ قِنَّسْرِيُّ؟" أي تتعاطى الطرب واللهو وأنت شيخٌ كبير السن؟!

شواهد قرآنيَّة على المدلول الثاني:

وقد إستعمل القرآن الكريم السؤال في هذا المعنى كثيراً، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾(15) فإنَّ الغرض من سَوْق هذا الإستفهام هو التبكيت والتوبيخ على إتَّباع الشيطان، وكذلك هو الغرض من سؤال الملائكة لأهل النار في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ / قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾(16) وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾(17) وقوله تعالى على لسان نبيِّه يعقوب (ع) موبِّخاً أبناءه: ﴿قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ﴾(18) وقوله تعالى على لسان يوسف (ع) موبِّخاً إخوته على ما اجترحوه في حقِّه: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ﴾(19) وقوله تعالى يحكي مادار بين إبراهيم (ع) وقومه: ﴿قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ / قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ﴾(20) وقوله تعالى مخاطباً المشركين وموبِّخاً لهم على لسان ملائكته: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ / مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ﴾(21) وقوله تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾(22) وقوله تعالى موبِّخاً ومُقرِّعاً للمشركين على ما يعتقدون: ﴿أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ / مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ / أَفَلَا تَذَكَّرُونَ / أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ﴾(23).

الثالث: السؤال للتقرير:

يُستعمل السؤال للتقرير أي طلب الإقرار والإعتراف أو الشهادة بأمرٍ معلوم لدى السائل، لأنَّ إرادته قد تعلَّقت بأنْ يُقرَّ المُخاطَب بمتعلَّق السؤال أو يشهد بإثباته أو نفيه أو تكون إرادته قد تعلَّقت بتذكير المُخاطَب بأمرٍ معلوم لدى كلِّ من السائل والمخاطَب.

ومثال الأول أنْ يسأل المناظِر خصمه: هل تستطيع الطيران؟ وهل تتمكَّن من كتم نفسك ساعةً من الزمن؟ وغرضه من كلا السؤالين هو الإحتجاج عليه بإقراره بالعجز عن ذلك، فليس مقصوده من السؤال هو الإستعلام لأنَّ كلاً من السائل والمخاطَب يعلمان بأنَّ المُخاطَب غيرُ قادرٍ على الطيران ولا على كتم أنفاسه ساعةً من الزمن.

ومثال الثاني أنْ يأتي الشاهد للقاضي فيشهد عنده على زيدٍ انَّه قتل خالداً فيُمهله القاضي حتى يحضر المتَّهم فيقول القاضي للشاهد: على ماذا تشهد؟ فإنَّ هذا السؤال من القاضي للشاهد لم يكن لغرض الإستعلام، لأنَّه قد علم بأنَّه يشهد بقتل زيدٍ لخالد ولكنَّه قصد من سؤاله الطلبَ من الشاهد بأنْ يُدلي بشهادته في محضر زيدٍ المتَّهم ليحتجَّ بذلك عليه.

وقد يصدر السؤال للتذكير بأمرٍ معلوم لكلِّ من السائل والمخاطَب ولا ينتظر السائل جواباً ولا إقراراً، كما لو قال: ألستَ مريضاً؟ أليس الدواء نافعاً؟ يريد بذلك حثَّ المخاطَب على تناول الدواء، وكذلك لو قال أحدهم لصاحبه: أليس لك أبناء؟ أليس عليك رعايتهم؟ يريد بذلك حثَّه على التكسُّب.

شواهد قرآنيَّة على المدلول الثالث:

وقد إستعمل القرآن الكريم السؤال في هذا المعنى كثيراً، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾(24) وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾(25) وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ﴾(26) وقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ / اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ / وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾(27).

كيف يتمُّ تحديد المراد من السؤال؟

فهذه معانٍ ثلاثة ضمن معانٍ أُخرى يُستعمل السؤال بمادَّته وأدواته في إفادتها، ويتمُّ تحديد المعنى المُراد من السؤال بواسطة القرائن المكتنفة للكلام المشتمل على لفظ السؤال أو أحد أدواته، فلا يصحُّ البناء على إرادة المتكلم لمعنىً من هذه المعاني أو غيرها دون ملاحظة سياق الكلام والقرائن اللفظيَّة أو المقاميَّة أو العقلائيَّة المحتفَّة بالسؤال، لأنَّ السؤال بمادَّته وأدواته لمَّا كان متَّحداً في جميع الإستعمالات فإنَّه لا سبيل إلى تمييز ما هو مراد المتكلِّم منه إلا بواسطة ما ينصبُه أو يعتمدُه من قرائن تكشف بحسب الظهور العرفي عن مراده.

معالجة الشبهة:

وعلى هذا الأساس يتمُّ العلاج لما توهَّمه صاحبُ الشبهة، فهو قد توهَّم أنَّ ما أثبتته الآيتان من سورتي الصافَّات والأعراف من وقوع المُساءلة هو عينُه مانفته الآية من سورة الرحمن، لذلك بنى على أنَّ بين الآيتين وبين الآية من سورة الرحمن تناقضاً، لأنَّ الآيتين تُثبتان وقوع المُساءلة يوم القيامة والآية من سورة الرحمن تنفي وقوع المُساءلة يوم القيامة.

إلا أنَّه عند ملاحظة سياق الآيات الثلاث والقرائن المحتفَّة بها يتَّضح جليَّاً أن ما نفته الآية من سورة الرحمن هو المُساءلة التي تكون لغرض الإستعلام وطلب المعرفة لأمرٍ مجهول، وأما إثبات وقوع المساءلة في الآيتين فهي التي تكون لغرض التوبيخ المستبطن للإدانة وإثبات المسئولية أو الإحتجاج والتقرير، فما هو منفيٌّ في الآية من سورة الرحمن مختلفٌ عمَّا هو مُثبَت في الآيتين من سورتي الصافات والأعراف.

الآية الأولى: وقرائنُ المعنى المراد:

فمعنى قوله تعالى: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ﴾ هو أنَّه لا يُسأل أحدٌ من الإنس والجن يوم القيامة سؤال إستفهامٍ وإستعلام، فإنَّ ذنوب العباد التي كانوا قد إرتكبوها معلومةٌ تفصيلاً لله جلَّ وعلا، وكذلك هي معلومةٌ للملائكة الموكَّلين، فالمُساءلة المنفيَّة في الآية المباركة هي المُساءلة التي تكون لغرض طلب المعرفة لأمرٍ مجهول لدى السائل، فإنَّ ذلك لن يقع يوم القيامة من الله تعالى ولا من ملائكته.

القرائن الدالَّة على المعنى المُراد:

1- التعليل في الآية التالية:

والقرينة الواضحة على أنَّ المنفيَّ في الآية المباركة هو السؤال الإستعلامي هي الآية التي تلت هذه الآية المباركة وسيقت مساق التعليل لعدم الحاجة إلى المساءلة الإستعلامية عن الذنوب، وهي قوله تعالى: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ﴾(28) فإنَّ مفاد الآيتين-صريحاً- عند ملاحظة مجموعهما هو أنَّ أحداً لا يُسأل عن ذنبه يوم القيامة سؤال إستعلام، لأنَّ الله تعالى قد ميَّز المجرمين فجعل سيماءهم تدلُّ على إجتراحهم للذنوب، لذلك فإنَّ ملائكة الحساب وزبانية العذاب يأخذونهم سحباَ من نواصيهم وأقدامهم دون أنْ يسألوهم عن أنَّهم هل كانوا قد إجترحوا ذنوباً أو لا.

2- آيات التمايز يوم القيامة:

وقد نصَّ القرآن الكريم في موارد عديدة على أنَّ المجرمين والصالحين يتمايزون يوم القيامة بسيماهم وكيفية بعثهم وحشرهم إلى صعيد المحشر يوم القيامة، لذلك فكلٌّ من الفريقين تكشف أحوالهم عمَّا كانوا قد فعلوه في الدنيا وعمَّا ستئول إليه مصائرُهم في الآخرة، لذلك فإنَّ أحداً لا يُسأل يوم القيامة سؤالَ إستعلام.

فمن الآيات التي تصدَّت للتعبير عن ذلك قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ / وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(29).

وقوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ / وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(30).

وقوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ / إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ / وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ / تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾(31).

وقوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ / ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ / وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ / تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾(32).

وقوله تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا﴾(33).

وقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾(34).

وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ﴾(35).

وقوله تعالى في وصف حال الأبرار: ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾(36).

الآية الثانية: وقرائنُ المعنى المُراد:

وأما القرينة البيِّنة على أنَّ المراد من المُساءلة في قوله تعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾ ليست هي المُساءلة الإستعلامية وإنَّما هي المساءلة التي تكون لغرض التوبيخ وإثبات الإدانة فهو أنَّ الإيقاف للسؤال بمقتضى سياق الآية يكون بعد قرار المصير بهم إلى الجحيم، قال تعالى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ / مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إلى صِرَاطِ الْجَحِيمِ / وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾(37) فظاهر الآيتين السابقتين لآية الإيقاف للمُساءلة أنَّ إستحقاقهم للعذاب كان مفروغاً عنه قبل حشرهم كما هو مقتضى توصيفهم بالظالمين حين الأمر بحشرهم وحشر ما كانوا يعبدون من دون الله، كما أنَّهما ظاهرتان في أنَّ الحكم عليهم بالتصيير إلى صراط الجحيم قد أُبرم لحظةَ حشرهم، فإنَّ الله تعالى قد أمر ملائكته بأنْ يهدوهم إلى صراط الجحيم ثم أمرهم بإيقافهم للمساءلة، وذلك صريحٌ في أنَّ المساءلة لم تكن لغرض التعرُّف على إستحقاقهم للعذاب أو عدم إستحقاقهم وإلا لتأخَّر الحكم عليهم بالتصيير إلى الجحيم عن المساءلة.

فتوصيفُهم بالظالمين والحكم عليهم بتصييرهم إلى الجحيم قبل إيقافهم للمُساءلة يكشفُ كشفاً قطعياً عن أنَّ المساءلة لم تكن للإستعلام وإنَّما هي لغرض الإدانة وتأكيد الحجَّة عليهم، وذلك يُساوق التوبيخ والتقريع، لأنَّ المسئول حين يعلم بأنَّ مَن يسأله يعلم بتفاصيل جريمته وحين يعلم المسئول بأنَّ قرار العقوبة على جريمته قد تمَّ إتخاذه فإنَّه لا يفهم من المُساءلة إلا التوبيخ والتقريع، إذ لا معنى للسؤال إلا ذلك.

لذلك أفادت الآيتان التي تلت آية الإيقاف أنَّ الكافرين يقفون مبهوتين عاجزين عن الإنتصار لبعضهم البعض مستسلمين للمصير الحتميِّ الذي علموا أنَّ إليه مآلهم، قال تعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ / مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ / بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ﴾(38) وتلك قرينة أُخرى على طبيعة المساءلة التي يُقرعون بها، فلو كانوا يُسألون عن شيءٍ يجهله السائل لكان لهم القدرة على الكذب والمناورة، ولكان ذلك موجباً لظنِّهم القدرة على الخلاص من ذلك الموقف لا أنَّهم يقفون مستسلمين عاجزين عن الإنتصار لأنفسهم ولشركائهم.

الآية الثالثة: وقرائنُ المعنى المراد:

وأمَّا القرينة البيِّنة على أنَّ السؤال في قوله تعالى: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ ليس للإستعلام وطلب المعرفة لأمرٍ مجهول فهو ماورد في الآية المتصلة بهذه الآية، وهي قوله تعالى: ﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ﴾(39) إذ لا معنى للسؤال إستعلامياً مع الإخبار بأنَّ الله تعالى سوف يتصدَّى حين سؤالهم لإنبائهم بدقائق ما كانوا يعملون كما هو مقتضى مفاد قوله تعالى: ﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ﴾ وأنَّ ما سوف يقصُّه عليهم ليس حدساً أو خبراً ظنِّياً قد تلقَّاه عن أحوالهم بل هو إنباء لهم عن علمٍ شهودي، فهو تعالى حاضرٌ غير غائبٍ مطَّلعُ بذاته المقدسة على تفاصيل ماكانوا يعملون كما هو مقتضى مفاد قوله تعالى: ﴿بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ﴾.

فهو إذن سوف يسألهم عن أمرٍ يعلمه تفصيلاً، ولا يصدر السؤال من عالمٍ للإستفهام والإستعلام وإنَّما يصدر في مثل المقام إما للتوبيخ أو التقرير، فهو توبيخٌ وتقريعٌ وإدانةٌ للظالمين اللذين أُرسل إليهم كما هو مقتضى ظهور الآية في التحذير والتهديد: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ﴾، وهو سؤال تقريرٍ للمرسَلين، إذ لا ريب أنَّ المرسَلين قد إلتزموا بوظائفهم على أكمل وجه، فمساءلتُهم تكون لغرض إثبات الحجَّة والإدانة على مَن أُرسل إليهم، فيكون التهديد بمساءلتهم متَّجهٌ لمن أُرسل إليهم، فمفاد قوله تعالى: ﴿وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ فلنُشهدِنَّ المرسَلين على أُممهم، فسؤال الرسل سؤال تقرير وإشهاد، وهو موجبٌ في محضر الظالمين للمزيد من التقريع والتأكيد للحجَّة عليهم.

الخلاصة:

وبما ذكرناه يتضح جليَّاً انَّه لا تناقض بين نفي المساءلة يوم القيامة في سورة الرحمن وبين إثباتها في سورتي الصافات والأعراف، فإنَّ المساءلة في لغة العرب وإستعمالاتهم تقع على معانٍ متباينة، ويتمُّ تحديد المعنى المراد منها من ملاحظة السياق والقرائن المحتفَّة بالسؤال، وحيثُ إنَّ المساءلة المنفيَّة في سورة الرحمن قد قامت القرينة البيِّنة على أنَّ المراد منها هي المساءلة الإستعلامية وأنَّ المساءلة المُثبتة في سورتي الصافات والأعراف قد قامت القرينة البيِّنة على أنَّ المراد منها المُساءلة لغرض التوبيخ والإدانة أو التقرير لذلك لا يكون ثمة تنافٍ بين الآية من سورة الرحمن والآيتين من سورتي الصافات والأعراف.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور

من كتاب شبهات مسيحية


1- سورة الصافات / 24.

2- سورة الأعراف / 6.

3- سورة الرحمن / 39.

4- سورة البقرة / 189.

5- سورة البقرة / 219.

6- سورة المائدة / 4.

7- سورة يوسف / 82.

8- سورة النحل / 43، سورة الأنبياء / 7.

9- سورة يوسف / 7.

10- سورة طه / 49.

11- سورة البقرة / 214.

12- سورة القيامة / 6.

13- معنى الحشَف هو التمر الرديئ اليابس، ومعنى سوء الكيلة هو البخس في المكيال وعدم الإستيفاء له أي بيع الناقص من الكيل بثمن الكامل منه، ومعنى المثل هو توبيخ البائع على سوء فعله حيث جمع بين مساءتين فخلط المبيع بتمر رديئ وأضاف إلى سوء ذلك انه أنقص من مقدار المكيل فأعطى المشتري أقل من مقدار الكيل الذي تم التعاقد عليه.

فمجمل المراد من المثل هو مخاطبة البائع خطاب توبيخ وإستنكار بأنه جمع بين مساءتين: فبعتني تمراً رديئاً ولم توفِ الكيل الذي أعطيتك ثمنه كاملاً، فالسؤال هنا سيق لغرض التوبيخ للبائع حيث جمع على المشتري مساءتين فلم يكتفِ بغشه بل أضاف إلى هذه المساءة انه أنقصه المشتر في المكيال.

ويضرب هذا المثل في كل مورد أمعن المخاطب في الإساءة للمتكلم فلم يكتف بإساءة واحدة بل أضاف إليها إساءة أو إساءات أخرى.

14- يضرب هذا المثل العربي إذا أحسن أحدهم لآخر فقابل إحسانه بالإساءة، وأصله ان رجلاً كان يجزُّ الحشيش لفرسه ويطعمه وفي الأثناء سلح الفرس على صاحبه وراث عليه فخاطبه خطاب توبيخ وتعنيف: أحشك أي أجزُّ لك الحشيش وأُطعمك إيَّاه وأنت تروثني أي تقابل ذلك بأن تروث عليَّ، والروث هو فضلات الفرس.

15- سورة يس / 60.

16- سورة غافر / 49-50.

17- سورة التوبة / 70.

18- سورة يوسف / 64.

19- سورة يوسف / 89.

20- سورة الشعراء / 71-72.

21- سورة الشعراء / 92-93.

22- سورة الرحمن / 60.

23- سورة الصافات / 153-156.

24- سورة البقرة / 140.

25- سورة المائدة / 116.

26- سورة فاطر / 40.

27- سورة العنكبوت / 61-63.

28- سورة الرحمن / 41.

29- سورة آل عمران / 106-107.

30- سورة يونس / 26-27.

31- سورة القيامة / 22-25.

32- سورة عبس / 38-41.

33- سورة الإسراء / 97.

34- سورة الزمر / 60.

35- سورة الفرقان / 34.

36- سورة المطففين / 24.

37- سورة الصافات / 22-24.

38- سورة الصافات / 24-26.

39- سورة الأعراف / 7.