﴿اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ﴾

شبهة مسيحي:

ورد في سورة غافر: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ / إلى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ / فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ﴾(1) فالواضح من هذا الكلام أنَّ فرعون لم يأمر بقتل أبناء اليهود إلا بعد ما جاءه موسى بالحق؟!! ولكنَّ القرآن يقول في سورة طه: ﴿إِذْ أَوْحَيْنَا إلى أُمِّكَ مَا يُوحَى / أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ﴾(2) ومعنى هذا أنَّ فرعون أمر بقتل أبناء اليهود وموسى لما يزل طفلاً ولم يأتِ الوحي بعد، بينما في النص السابق أمر بقتلهم حين جاءه موسى وهو شابٌ قوي البنيان مكتمل الرجولة وداعياً لربِّه بلسانٍ فصيح، لا لسان طفل؟!

طيب أيُّ النصّين أُصدِّق أم إن هناك أكثر من موسى واحد وأكثر من مجزرةٍ واحدة بحقِّ اليهود؟؟

الجواب:

ما المانع من حدوث مجزرتين؟!

ليس في الآيات من سورة غافر ما يدلُّ ولو بنحو الإشعار أنَّ فرعون لم يكن قد أصدر أمراً حين كان موسى (ع) صبيَّاً أو قبل ولادته بقتل الإسرائليين المنحدرين من سلالة يعقوب (ع) واللذين كانوا يقطنون أو أكثرهم أرضَ مصر، فمن أين جاءت دعوى الوضوح في ذلك؟! فإنَّ أقصى ماهو ظاهر الآيات من سورة غافر هو أنَّ فرعون بعد أنْ بُعث موسى (ع) وآمن معه جمعٌ من قومه أمر فرعون بقتل أبناء اللذين آمنوا بموسى (ع)، فهي متصدِّية للإخبار عن أنَّ أمراً قد صدر عن فرعون بقتل أبناء المؤمنين بموسى (ع) وذلك لايمنع من أنَّه كان قد أصدر أمراً -قبل ذلك حين كان موسى صبيَّاً- بقتل أبناء الإسرائليين.

وعليه فلا تكون الآيات من سورة غافر منافية لما ورد في سورة طه، وهي قوله تعالى: ﴿إِذْ أَوْحَيْنَا إلى أُمِّكَ مَا يُوحَى / أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾(3).

فإنَّ غاية ما يقتضيه الجمع بين الآيات من سورتي طه وغافر هو أنَّ ثمة قرارين قد صدرا عن فرعون بقتل أبناء الإسرائليين كان أحدهما قبل ولادة موسى (ع) وهو الذي كان منشأً لخشيةُ أُم موسى عليه من القتل بعد وضعه، والقرار الآخر صدر عن فرعون بعد مبعث موسى (ع) وإيمان جمعٍ من قومه بدعوته كما هو مفاد الآيات من سورة غافر.

فما هو المحذور من الإلتزام بأنَّ ثمة قرارين قد صدرا عن فرعون أحدهما قبل ولادة موسى (ع) والآخر بعد مبعث موسى (ع)؟! وأيُّ محذورٍ في أنَّ يكون فرعون قد أوقعَ مجزرتين بالإسرائليين؟ وهل يملك صاحب الشبهة ما يتمكَّن به من نفي وقوع ذلك؟

وما دخْلُ القرآن بتأريخكم؟!

ولو كان في تاريخه ما ينفي وقوع مجزرتين لبني إسرائيل على يد فرعون فإنَّ أقصى ما يلزم عن ذلك هو أنَّ ما في تاريخه منافٍ لما أفاده القرآن، وأيُّ غضاضةٍ في أنْ يتنافى القران مع ما كتبوه في تاريخهم؟ فالكثيرُ ممَّا يُؤمن به اليهود والنصارى قد نفاه القرآن، وليس ذلك عندنا بضائر، إذ أنَّ مدار التصديق بمفادات القرآن عندنا ليس هو تطابق ما جاء به مع ما يُؤمن به اليهود والنصارى بل انَّ ما جاء به القرآن هو الحق الذي لا ريب فيه وإنْ خالفه اليهود والنصارى مجتمعين.

ولذلك لو كان مقتضى الجمع بين الآيات من سورتي طه وغافر هو وقوع مجزرتين لبني إسرائيل على يد فرعون فإنَّنا نلتزم بذلك حتى لو فُرض أنَّ اليهود والنصارى ينفون وقوع ذلك إعتماداً على تاريخهم، على أنَّهم لا يملكون نفي ذلك بنحو الجزم.

هل نُفِّذ القرار الثاني؟

ثم إنَّ الآيات من سورة غافر لا تدلُّ على أنَّ فرعون قد أُنجز له ما كان قد قرَّره من قتل أبناء اللذين أمنوا بموسى (ع)، فإنَّ مفاد الآيات هو أنَّ قراراً بقتل أبناء اللذين آمنوا بموسى (ع) قد صدر عن فرعون إلا أنَّ فرعون وجنوده هل تمكنوا من إنفاذه أو أنَّ هلاك فرعون وملئه بالغرق حال دون إنجاز هذا القرار؟إنَّ هذا المقدار لم تتصدَّ الآيات من سورة غافر لإثباته أو نفيه.

خلاصة:

والمتحصَّل مما ذكرناه أنَّ مفاد الآيات من سورة غافر هو أنَّ فرعون لمَّا بُعث موسى (ع) وصار له أتباع يُؤمنون بدعوته أصدر أمره بقتل أبناء اللذين آمنوا بموسى نكايةً بهم، وليس في الآيات دلالة ولو بنحو الإشعار على أن فرعون لم يصدر عنه أمرٌ بقتل أبناء الإسرائليين في الفترة التي وُلد فيها موسى (ع) ولذلك فإنَّ مقتضى الجمع بين ماورد في سورة غافر وما ورد في سورة طه أنَّ ثمة أمرين كانا قد صدرا عن فرعون أحدهما صدر في الفترة التي وُلد فيها موسى (ع)، وهذا هو ما أفادته الآيات من سورة طه، والأمر الآخر صدر بعد مبعث موسى (ع) وهذا هو ما أخبرت عنه الآيات من سورة غافر.

مطالعة تاريخيَّة وقرآنيَّة لمجريات الموضوع:

هذا وقد ذكر المؤرخون والمفسِّرون أنَّ منشأ الأمر الأول الذي صدر في الظرف الذي وُلد فيها موسى(ع) هو أنَّ المنجِّمين تنبؤوا بأنَّ مولوداً من بني إسرائيل سوف يكونُ هلاكُ فرعون وزوال مملكته على يديه، لذلك إقتضى الرأي عند فرعون أنْ يُصدر أمراً بقتل كلِّ ذكرٍ يُولد من بني إسرائيل وإستبقاء الإناث منهم للخدمة، وهذا ما كان قد وقع، فكلَّما وُلد ذكرٌ في بني إسرائيل كان مصيره القتل، ولم يُستثنى من ذلك أحدٌ منهم، وظلَّ هذا القرارُ سارياً إلى أنْ تنبأ المنجِّمون بوقوع القتل على ذلك الولد الموعود في ضمن من قُتل من أبناء الإسرائليين، فحينذاك رُفع القتل عن ذكور بني إسرائيل بعد أن اطمأن فرعونُ أنَّ عدوَّه الموعود الذى تنبأ المنجِّمون بولادته أو قرب ولادته قد هلك، وانَّ الخطر الذي كان يخشاه قد ارتفع سببُه.

ثم إنَّ فرعون وبعد أنْ بُعث موسى (ع) وآمن به جمعٌ من قومه أصدر أمراً آخر ولكنَّه كان خاصَّاً بأبناء اللذين آمنوا بدعوة موسى (ع) فلم يكن القرار الثاني بالقتل شاملاً لعموم الذكور أو مَن يُولد من ذكور بني إسرائيل كما هو القرار الأول.

وبقطع النظر عن صحة ما ذكره المؤرخون من منشأ الأمر الأول بقتل مَن يُولد من ذكور بني إسرائل فإنَّ الذي لا ريب فيه انَّ الأمر الأول كان قد أُنجز، وقد وقع القتل الذريع في ذكور بني إسرائيل كما يُستفاد ذلك من مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ / وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ / وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ / وَأَوْحَيْنَا إلى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ / فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ / وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾(4).

فإنَّ سياق هذه الآيات ظاهرٌ في أنَّ القتل كان قد وقع على بني إسرائيل في الفترة التي وُلد فيها موسى (ع) وكانت نجاته من القتل قدِّرت بعناية إلهيَّةٍ خاصة.

وأمَّا الأمر الثاني الذي صدر عن فرعون بعد مبعث موسى (ع) فالآيات من سورة غافر لا تُثبت ولا تنفي أنُّه كان قد أُنجز، نعم يُستشعر ذلك من قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ / قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ / قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُون﴾(5) فإنَّ هذه الآيات مُشعِرةٌ بوقوع القتل في أبناء مَن آمن بموسى (ع) ولكنَّها ليست صريحةً في ذلك لإحتمال أنَّ فرعون وإنْ كان قد توعَّدهم بالقتل إلا أنَّه لم يتهيأ له ذلك.

وعلى كلِّ تقدير فلا محذور بل ولا إستبعاد في أنَّ القتل لذكور بني إسرائيل قد وقع لهم في الحقبتين كما هو مُستشعَرٌ من قوله تعالى: ﴿قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور

من كتاب شبهات مسيحيَّة


1- سورة غافر / 23-25.

2- سورة طه / 38-39.

3- سورة طه / 38-39.

4- سورة القصص / 4-9.

5- سورة الأعراف / 127-129.