مراجعة الفقهاء في صرف الخمس في مصارفه

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

ادَّعى بعضُهم أنَّ فتوى الفقهاء بلزوم ايصال الخمس من سهم الإمام (ع) إلى الفقيه الجامع للشرائط او استئذانه في صرفه في مصارفة لا دليل عليه، ولا تُوجد ولا رواية واحدة تُثبت ذلك، وهو يتحدَّى أنْ يأتيه أحدٌ بروايةٍ واحدة تُثبتُ ذلك، فما جوابكم على هذه الدعوى؟

الجواب:

التقريب الأول لتعيُّن مراجعة الفقيه في صرف الخمس:

الشأنُ في أموال الخمس هو الشأن في سائر أموال الناس لايجوز التصرُّف فيها دون إذن ملاَّكها كما أفاد ذلك الحديث النبويُّ الشريف الوارد بسندٍ معتبر عن زيد الشحام وعن سماعة عن أبي عبد الله (ع): "أَلَا مَنْ كَانَتْ عِنْدَه أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إلى مَنِ ائْتَمَنَه عَلَيْهَا فَإِنَّه لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ولَا مَالُه إِلَّا بِطِيبَةِ نَفْسِه"(1) وكما ورد الإمام الحجَّة (ع) في التوقيع الشريف: "لا يحلُّ لاحدٍ أنْ يتصرَّف في مال غيره بغير إذنه فكيف يحلُّ ذلك في مالنا"(2).

ولأنَّ مَن تعلَّق الخمسُ بماله لا يملكُ مقدار الخمس من ذلك المال بل هو مملوكٌ لأصحاب الخمس الذين نصَّت عليهم الآية المباركة: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾(3).

وأفادت الروايات المعتبرة أنَّ الأسهم الثلاثة الأولى من الأسهم الستة راجعةٌ بعد الرسول (ص) للإمام المعصوم من أهل البيت (ع).

ولذلك لا تبرأ ذمة المكلَّف الذي تعلَّق الخمس بماله إلا بإيصال مقدار الأسهم الثلاثة إلى الإمام المعصوم (ع) وايصال الأسهم الثلاثة الأخرى إلى قرابة الرسول (ص) أي إلى مساكينهم والأيتام وأبناء السبيل منهم.

وحيثُ يتعذَّر ايصال الأسهم الثلاثة الأولى المعبَّر عنها بسهم الإمام إلى الإمام المعصوم (ع) في عصر الغيبة فالمتعيَّن على المكلَّفين هو ايصال سهم الإمام لنوَّابه وهم الفقهاء في عصر الغيبة (4) فكما يجب على المكلَّف ايصال الخمس في عصر الحضور للإمام (ع) ومع تعذُّر الوصول إليه مباشرةً يجب ايصاله إلى وكلائه ونوَّابه المعيَّنين من قبله شخصيَّاً فكذلك يتعيَّن على المكلَّفين في عصر الغيبة ايصال الخمس لنوَّاب الإمام (ع) لتعذُّر الوصول إليه نظراً لغيبته، فالنائبُ يقوم مقام المنوب عنه في ظرف غيبة المنوب عنه أو تعذُّر الوصول إليه كما هو مقتضى القاعدة الفقهية والبناء العقلائي، فلا يُصحِّح الشرع ولا العقلاء الاعتذار عن ايصال الحقِّ لصاحبه بتعذُّر الوصول إليه إذا كان الوصول إلى نائبه المفوَّض من قِبَله مُتاحاً، فلو كان لأحدٍ على آخرَ ديناً وقد حلَّ أجلُه فإنَّه لا يصحُّ للمدين ولا يسوغُ له شرعاً الامتناع عن تسليم المال لنائب مَن له الدين إذا كان الوصول لمَن له الدين متعذِّراً بل يجب عليه تسليمه للنائب ويكون بذلك قد أدَّى ما اشتغلتْ به ذمتُه لصاحبه لأنَّ قبض النائب قبضٌ للمنوب عنه.

كذلك هو الشأن فيمَن اشتغلت ذمته بالخمس فإنَّه لا يصحُّ له الاعتذار عن أدائه بتعذُّر الوصول للإمام (ع) بعد أنْ كان الإيصال لنائبه متاحاً لذلك يلزمه ايصال ما تعلَّقت به ذمتُه من خمسٍ لنوَّاب الإمام (ع)، فلا يسوغُ له الامتناع من أدائه أو صرفه دون مراجعتهم لأنَّه سيكون من التصرُّف في مال الغير دون إذنه.

وأمَّا أنَّ الفقهاء نوَّابٌ للإمام (ع) في عصر الغيبة فيدلُّ عليه مثل التوقيع الشريف الذي رواه الشيخ الطوسي بسندٍ معتبر عن اسحاق بن يعقوب الكليني قال: سألتُ محمد بن عثمان العمري -رحمه الله- أنْ يُوصل لي كتابا قد سألتُ فيه عن مسائل أشكلتْ عليَّ، فورد التوقيع بخطِّ مولانا صاحب الزمان (ع): ".. وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنَّهم حجَّتي عليكم وأنا حجةُ الله عليهم"(5).

فإنَّ مفاد التوقيع الشريف -كما هو ظاهر- هو أنَّ كلَّ ما يتعيَّن الرجوع فيه إلى الإمام (ع) في عصر الحضور فإنَّه يتعيَّن الرجوع فيه إلى حملة حديث وفقه أهل البيت (ع) في عصر الغيبة، وحيثُ إنَّ الخمس من سهم الإمام (ع) مما يتعيَّن الرجوع فيه إلى الإمام في ظرف حضوره لذلك فالمتعيَّن هو الرجوع فيه للفقهاء في ظرف الغيبة.

تقريبٌ آخر لتعيُّن الرجوع في صرف الخمس للفقيه الجامع:

وإنْ أبيتَ فإنَّ مما لا ريب فيه أنَّ أموال الخمس من أموال الغير التي لا يجوز التصرُّف فيها دون إذن، وحيثُ إنَّ الاستئذان من صاحب الخمس وهو الإمام (ع) متعذِّرٌ نظراً لغيبته، واحتمال جواز تعطيل هذه الأموال -بدفنها أو إلقائها في البحر أو ادِّخارها والمنع من الانتفاع منها بصرفها في مواردها التي شُرِّع الخمس من أجل الصرف عليها- باطلٌ جزماً فيدور الأمر في أموال الخمس بين احتمالين:

الأول: هو جواز تصدِّي المكلِّف لصرف أموال الخمس في مصارفها دون استئذانٍ من الفقيه.

الثاني: هو صرف أموال الخمس في مصارفها بعد الاستئذان من الفقيه.

وحيث إنَّ موردَ التصرُّف هي أموالُ الغير لذلك يتعيَّن الاحتمال الثاني، لأنَّه القدر المتيقَّن من جواز للتصرف بأموال الغير.

وبتعبيرٍ آخر: إنَّ الأصل والقاعدة العامَّة الثابتة بالضرورة هي عدم جواز التصرُّف في أموال الغير دون إذنه، فإذا تعذَّر الاستئذان من صاحب المال وكان لابدَّ من التصرف نظراً للقطع بحرمة تضييعه وتعطيله أو الاستحواذ عليه فإنَّ مجرَّد احتمال اشتراط التصرُّف بشرطٍ يقتضي احراز ذلك الشرط، وحيث إنَّ احتمال إناطة جواز التصرف بإذن الفقيه قائمٌ لذلك يبقى التصرُّف دون إذن الفقيه تحت عموم حرمة التصرف في أموال الغير، فلا مخرج للتصرف من هذا العموم سوى الاستئذان من الفقيه.

فهذا الحكم لا يختصُّ بأموال الخمس بل هو شاملٌ لمطلق أموال الغير، فإنَّه إذا تعيَّن التصرفُ فيها دون إذن ملاكها لتعذُّره وكان من المحتمل إناطة ذلك بشرطٍ من الشروط فإنَّ اللازم هو احراز ذلك الشرط وإلا كان التصرُّف محرَّماً تكليفاً وغير نافذِ وضعاً.

ولمزيدٍ من التوضيح نقول: إنَّه إذا كان الفرض هو تعذُّر إيصال المال لصاحبه أو الاستئذان منه في صرفه، وكان الفرض هو ضرورة التصرُّف في ذلك المال للقطع بضياعه أو تلفه عند عدم صرفه فهنا يتعيَّن صرف ذلك المال في الموارد وبالكيفية التي يقطع معها المكلَّف برضا صاحب المال، لأنَّه "لا يحلُّ مال امرئٍ مسلم إلا بطيبةٍ من نفسه" كما في الحديث الشريف، فحين يتعذَّر استكشاف طيب نفس المالك ورضاه بواسطة الإذن اللفظي وكان من الممكن الإحراز القطعي بطيب النفس والرضا بواسطة الالتزام بتصرُّفٍ معين وبكيفيةٍ معينة فإنَّ اللازم شرعاً هو الاقتصار على ذلك المقدار من التصرُّف وبذلك النحو منه، ولا يسوغ التجاوز لذلك المقدار وتلك الكيفية، لأنَّ كلَّ تجاوزٍ لذلك المقدار المقطوع يدخل في دائرة الشك، المانع من جواز التصرُّف.

فهذا هو الشأن تماماً في أموال الخمس فإنَّ الإيصال أو الاستئذان من صاحب الخمس وهو الإمام (ع) متعذِّرٌ نظراً لغيبته، وتضييعُ أموال الخمس أو الاستحواذ عليها مقطوع الحرمة فالمتعيَّن هو التصرُّف فيها، وهناك موردان للصرف، الأول هو صرفها في أيِّ شيءٍ نافع، والثاني هو صرفها في المصارف التي شُرِّع الخمس من أجل الصرف عليها، ولا ريب أنَّ المورد الثاني هو المتعيِّن إلا أنَّ الصرف في هذا المورد له كيفيَّتان أو طريقان، الأول هو أنْ يستقلَّ المكلَّف بصرفه على هذا المورد، والثاني هو أنْ يستأذن في صرفه على هذا المورد الفقيهَ الجامع للشرائط.

ولا ريب أنَّ القدر المتيقَّن من جواز التصرُّف هو الطريق الثاني، فإنَّ صرف الخمس في مصارفه وحده لا يُوجب القطع برضا صاحب الخمس بعد قيام احتمال أنْ يكون رضاه منوطاً بصرف الخمس في مصارفه بالطريق الثاني، فقيامُ هذا الاحتمال كافٍ لامتناع حصول القطع برضا صاحب الخمس باستقلال المكلَّف في صرف الخمس في مصارفه، ومع عدم القطع بالرضا لا يجوز التصرُّف، ولهذا يتعيَّن جواز التصرف في أموال الخمس في الطريق الثاني، أي صرفه في مصارفه ولكن بعد استئذان الفقيه الجامع للشرائط.

وهذا هو معنى أنَّ أيَّ شرطٍ نحتمل دخله في تحقُّق رضا صاحب الخمس فإنَّه يتعيَّن احراز ذلك الشرط وإلا لم يحصل القطع بالرضا، لأنَّ القطع ينتقض بمجرَّد الاحتمال، ومع انتقاض القطع برضا المالك يكون التصرُّف محرَّماً تكليفاً وغير نافذٍ وضعاً، فلا سبيل إلى احراز الجواز والإجزاء إلا بصرف الخمس في مصارفه بعد الرجوع للفقيه الجامع للشرائط لأنَّ ذلك هو القدر المتيقن لإحراز رضا الإمام (ع) المقتضي للجواز والاجزاء.

فحكم المسألة لا يحتاج إلى روايةٍ خاصة بعد انضباطها تحت القواعد العامة الثابتة بمقتضى النصوص الشرعيَّة المعتبرة.

فالمطالبة بروايةٍ خاصة في ذلك ليس لها منشأٌ سوى التعنُّت والتشغيب والاستطالة على مَن لا خبرة له بالفقه، فهي أشبه شيءٍ بالمطالبة بروايةٍ خاصة في الحكم بعدم صحة الصلاة في جلد الفيل مثلاً، فإنَّه وإنْ لم تكن ثمة روايةٌ خاصَّة تنصُّ على ذلك إلا أنَّ الحكم بعدم صحَّة الصلاة في جلد الفيل ليس جزافيَّاً، فإنَّ منشأ الحكم بذلك هو النصوص التي دلَّت على عدم صحَّة الصلاة في جلد ما لا يُؤكل لحمه، وحيثُ إنَّ الفيل من الحيوانات التي يحرم أكلُ لحمها كما دلَّت على ذلك الروايات المعتبرة، لذلك تكون الصلاة في جلده مشمولةً لعموم ما ورد عن أبي عبدالله (ع) في معتبرة ابن بكير: "إنَّ الصلاة في وبر كلِّ شيء حرامٌ أكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وألبانه وكلِّ شيء منه فاسدة لا تُقبل تلك الصلاة حتى تصلِّي في غيره مما أحلَّ الله أكله"(6).

فالحكم بعدم صحَّة الصلاة في جلد الفيل وإنْ لم ترد فيه روايةٌ خاصة إلا أنَّه لا ضير في ذلك بعد انضباط حكم هذه المسألة تحت القواعد العامة الثابتة بالنصوص الشرعية المعتبرة، وكذلك هو الحكم بطهارة النفط مثلاً، فإنَّه لو قال أحدٌ هل لديكم روايةٌ خاصَّة تُثبتُ فتواكم بطهارة النفط؟ لأجبنا انَّه لا تُوجد في ذلك رواية خاصَّة فما المشكلة؟! وهل عدم وجود روايةٍ خاصَّة في حكم مسألةٍ يُساوق جزافيَّة الفتوى؟!

أليس من البديهي عند كلِّ مَن له حظٌ من فقهٍ أنَّ الأحكام الشرعيَّة تَثبتُ بعمومات الكتاب والسنَّة والقواعد العامَّة والأصول العمليَّة التي قام الدليل من الكتاب والسنَّة على اعتبارها وحجيَّتها؟!

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- الكافي -الشيخ الكليني- ج7 / ص273.

2- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج9 / ص541.

3- سورة الأنفال / 41.

4- الذين عبَّرت عنهم بعض الروايات بأُمناء الرسل كما في معتبرة السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه (ص): "الْفُقَهَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ مَا لَمْ يَدْخُلُوا فِي الدُّنْيَا قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّه ومَا دُخُولُهُمْ فِي الدُّنْيَا قَالَ اتِّبَاعُ السُّلْطَانِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَاحْذَرُوهُمْ عَلَى دِينِكُمْ"، الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص46.

وعبَّرت عنهم بعض الروايات: بخلفاء الرسول (ص) كما هي رواية الصدوق التي رواها بأكثر من طريق في معاني الأخبار والأمالي والعيون ورواها مرسلة في الفقيه عن علي بن أبي طالب (ع) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "اللهم ارحم خلفائي، اللهم ارحم خلفائي، اللهم ارحم خلفائي. قيل له: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي يروون حديثي و سنتي" (من لا يحضره الفقيه -الشيخ الصدوق- ج4 / ص420).

وعبَّرت عنهم بعض الروايات بأنَّهم أولى الناس بالأنبياء كما في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (ع) قال: "إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به" (نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج4 / ص21).

وأناطت بعض الروايات مجاري الأمور بأيديهم كما في رواية تحف العقول عن الإمام الحسين (ع) قال: "ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الامناء على حلاله" (تحف العقول عن آل الرسول (ص) -ابن شعبة الحراني- ص238).

هذا وقد تمَّ نصبهم من قبل الأئمة (ع) حكاماً وقضاة كما في مقبولة عمر بن حنظلة ومشهورة أبي خديجة قال (ع): "قد جعلته عليكم حاكما" وقال في المشهورة: "جعلته عليكم قاضيا" (الكافي -الشيخ الكليني- ج7 / ص412).

وورد في المرسلة المرويَّة عن الإمام الكاظم (ع) في الفقه الرضوي: "إنَّ منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء في بني إسرائيل" (فقه الرضا -علي ابن بابويه القمي- ص338).

5- الغيبة -الشيخ الطوسي- ص291.

6- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 / ص397.