العموم في: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾

شبهة لمسيحي:

ورد في القرآن: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾(1) ولكنَّ الجان كائناتٌ حيَّة فهل هي من الماء أم هي من النار كما ورد في سورة الرحمن: ﴿وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نَارٍ﴾(2) وفي سورة الأعراف: ﴿قَالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾(3)، وكما نعلم فالنار والماء لا يمتزجان ولا يجتمعان، وهذا تناقضٌ واضح.

الجواب:

المراد من الآية يُفهم بالسياق وليس بالاِقتطاع:

المراد مِن "كلِّ شيء" في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾(4) هو الوجودات الحيَّة المحسوسة مثل الإنسان والحيوان والحشرات والنبات، فهذه هي التي أفادت الآية المباركة أنَّ الله تعالى جعل حياتها بالماء أو أنَّه خلقها من الماء بأنْ كان الماء مكوِّناً أساسيَّاً في وجودها وحياتها.

وأمَّا الوجودات الحيَّة غير المشهودة كالملائكة والجنِّ والوجودات المجرَّدة فهي غير مشمولة لمفاد الآية المباركة، وذلك لأنَّ الآية كانت في سياق البرهنة بالمحسوسات على عظمة الخالق جلَّ وعلا فالمناسب لذلك هو الاستدلال بالوجودات الحسيَّة التي يشهدها الكافرون ليترتَّب عن ذلك إذعانهم أو خصْمهم وإفحامهم، فلو أنَّ القرآن في مثل المقام احتجَّ على الكافرين لإثبات عظمة الخالق جلَّ وعلا بغير المشهودات لكان جوابهم إنَّنا لا نؤمنُ بهذه الوجودات.

والذي يوكِّد وقوع الآية في هذا السياق هو صدرها، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾(5) ثم قال: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾.

فصدرُ الآية صريحٌ في أنَّها كانت بصدد البرهنة للكافرين على عظمة الخالق جلَّ وعلا، ثم إنَّ ذيل الآية اشتمل على استفهامٍ استنكاري للتعبير عن الاستغراب، وهذا إنَّما يُناسب كون الشيء الذي هو مورد الحديث من الأُمور المحسوسة التي لا يسع العاقل المنصف التنكُّر لها، والجنُّ ليسوا كذلك.

ثم إنَّ الآية التي تلَتْ هذه الآية تحدَّثتْ عن مظهرٍ حسيٍّ آخر من مظاهر عظمة الخالق جلَّ وعلا وهو خلق الجبال الراسيات في الأرض وشقُّ الطرق التي يتيسَّر بها التنقُّل في أرجاء الأرض، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾(6).

ثم تصدَّت الآيات التي تلَتْ هذه الآية للإشارة إلى مظاهرَ أُخرى من مظاهر العظمة الإلهيَّة، فأفادت أنَّ الله تعالى جعل السماء سقفاً محفوظاً وخلق الليل والنهار والشمس والقمر في نظامٍ كونيٍّ مُتقَن، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ / وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾(7).

وكلُّ هذه الظواهر الكونيَّة محسوسةٌ لدى الإنسان لا يسعُه التنكُّر لوجودها أو الارتياب في دلالتها على عظمة مَن خلقها ودبَّر نظامها.

وعليه فإنَّ وقوع آية: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ في هذا السياق يُنتج استظهار إرادة الوجودات المحسوسة من قوله: ﴿كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ فلا تكون الآية مناقِضة لمثل قوله تعالى: ﴿وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَار﴾(8) فإنَّ الجنَّ وإنْ كانوا من الكائنات الحيَّة ولكنَّهم ليسوا من الوجودات المحسوسة.

المنشأ في توهُّم التناقض:

فتوهُّم التناقض إنَّما نشأ عن توهُّم شمول الآية لمطلق الكائنات الحيَّة حتى غير المحسوسة، وهذا الوهم يتلاشى بمجرَّد الاِلتفات إلى عدم ظهور الآية في الاستيعاب للكائنات الحيَّة غير المحسوسة.

والتعبير في الآية بكلِّ شيء لا يقتضى استظهار الشمول للكائنات غير المشهودة بعد اكتناف الآية بما يقتضى انصراف المراد عن ذلك، إذ أنَّ التعبير بكلِّ شيء لا يعني العموم دائماً لكلِّ ما يصدق عليه عنوان الشيء بل إنَّ المراد من عنوان الشيء تتحدَّد السعة لدائرته بحدود ما تقتضيه القرينة المكتنفة للكلام.

بحثٌ قرآني في قوله تعالى: ﴿ كُلّ شَيْءٍ﴾:

وقد استعمل القرآن كثيراً عبارة "كل شيء" وأراد منها العموم والاستيعاب في إطار دائرةٍ محدَّدة، فمِن ذلك قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾(9) فإنَّ المراد من أنَّ الكتاب تبيانٌ لكلِّ شيء هو أنَّه تبيانٌ لكلِّ مايتَّصل بهداية الإنسان لدين الله القويم، وليس المقصود من ذلك أنَّه تبيانٌ لكلِّ العلوم والمعارف ولكلِّ ماوقع في التاريخ، فإنَّ هذا المعنى بهذه السعة غير مرادٍ قطعاً، لوضوح أنَّ القرآن كتاب هداية، فهو لم يتصدَّ للتعريف بتفاصيل العلوم ولتفاصيل كلِّ ما وقع في تاريخ الإنسان فذلك خارجٌ عن مورد غرضه، ولهذا لا يصحُّ التمسُّك بالآية للنقض على القرآن بأنَّه أغفل أكثر العلوم، وذلك للقطع بأنَّ مراد الآية مِن أنَّ القرآن تبيانٌ لكلِّ شيء هو أنَّه تبيانٌ لكلِّ ما يتَّصل بهداية الإنسان إلى صراط الله القويم.

وهكذا هو المراد من قوله تعالى في وصف التوراة: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾(10) فإنَّ من الواضح أنَّ التوراة ليست مشتملة على تفاصيل كلِّ العلوم والمعارف.

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى في وصف الحرم المكي: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا﴾(11) فإنَّ من المقطوع به عدم إرادة الجباية والجلب لكلِّ ثمرات الأرض للحرم المكي بل وعدم الجباية والجلب لكلِّ أنواع الثمرات، فالمقصود من كلِّ الثمرات هي أنواع الثمرات التي كانت معروفة ومتداولة في المحيط العربي، فالحرم المكي رغم عدم صلاحية أرضه لزراعة الكثير من الزروع إلا أنَّ أهله يأكلون من كلِّ ثمرات الأشجار المتداولة في المحيط العربي، وذلك لأنَّ العرب من كلِّ أرجاء الوطن العربي كانوا يُقدِّسون الحرم ويشدُّون الرحال إليه ويحملون معهم ممَّا يجنونه من ثمرات الأشجار التي كانت تنبت عندهم، ولذلك فأهلُ الحرم كانوا يأكلون من كلِّ ثمرات الأشجار التي كانت معروفة في بلاد العرب، وتلك خصوصيَّة لم تتفق لغير الحرم المكي آنذاك، فهي ممَّا تفضَّل به الله تعالى على أهل الحرم، ولذلك استحقَّت التنويه.

ومن ذلك أيضاً ما وصف به القرآن ريح العذاب التي هبَّت على قوم عاد، قال تعالى: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾(12) فالآية استعملت فقرة "كلِّ شيء" رغم أنَّ المراد منها هو أنَّها دمَّرت قوم عاد دون غيرهم من البشر ودون الصالحين من قوم عاد، وكانت قد دمَّرت أموالهم ومواشيهم وزروعهم ولكنَّها لم تُدمِّر مساكنهم والجبالَ التي كانت في أرضهم، فالتعبير بكلِّ شيء لا يعني دائماً الشمول لكلِّ ما يصدق عليه عنوان الشيء.

وهكذا هو الحال في مثل قوله تعالى على لسان سليمان: ﴿وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾(13) وقوله تعالى في وصف مملكة بلقيس ملكة سبأ: ﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾(14) وقوله تعالى في وصف ما منحَه لذي القرنين من قوة: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾(15).

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّ التعبير بفقرة "كلِّ شيء" تتحدَّد السعة لدائرة المراد منها بحدود ماتقتضيه القرينة المكتنفة للكلام الذي وقعت الفقرة المذكورة في سياقه، وأنَّ إغفال ذلك إمَّا أنْ يكون منشأه الجهل بأساليب الكلام عند أهل المحاورة، وإما أنْ يكون منشأه إرادة التشويش والمكايدة.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور

من كتاب شبهات مسيحيَّة


1- سورة الأنبياء / 30.

2- سورة الرحمن / 15.

3- سورة الأعراف / 12.

4- سورة الأنبياء / 30.

5- سورة الأنبياء / 30.

6- سورة الأنبياء / 31.

7- سورة الأنبياء / 32-33.

8- سورة الرحمن /15.

9- سورة النحل / 89.

10- سورة الأعراف / 145.

11- سورة القصص / 57.

12- سورة الأحقاف / 25.

13- سورة النمل / 16.

14- سورة النمل / 23.

15- سورة الكهف / 84.