تحملُ فاطمةُ يوم المحشر قميصاً للحسين مصبوغاُ بالدم

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

هل ورد في رواياتنا أنَّ السيدة فاطمة (ع) تحمل منديلاً فيه كفا أبي الفضل العباس (ع) وأنَّها ترى الحسين (ع) بلا رأس؟ وإذا كان في الروايات ما يتضمَّن ذلك فهل هي منافية لما هو معلومٌ من نعيم الجنة الذي لا يخالطه حزن؟

الجواب:

لم أقف في الروايات على المضمون الأول ولكنَّ المضمون الثاني وقريباً منه ورد في رواياتٍ عديدة عن أهل البيت (ع) لا يبعد انَّها تبلغ بمجموعها حدَّ الإستفاضة، فمن ذلك:

الأول: ما رواه الشيخ المفيد في الأمالي قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن علي بن موسى الصدوق قال: حدَّثنا أبي قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبان بن عثمان، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد (ع) قال: "إذا كان يوم القيامة جمع اللهُ الأولين والآخرين في صعيدٍ واحد ثم أمر منادياً فنادى: غضُّوا أبصاركم ونكِّسوا رؤوسكم حتى تجوز فاطمة ابنة محمد (ص) الصراط. قال: فتغض الخلائق أبصارهم فتأتي فاطمة (ع) على نجيبٍ من نُجبِ الجنة يُشيُّعها سبعون ألف ملك، فتقفُ موقفاً شريفاً من مواقف القيامة، ثم تنزلُ عن نجيبها فتأخذُ قميص الحسين بن علي (ع) بيدها مُضمَّخاً بدمه، وتقول: يا ربِّ هذا قميصُ ولدي وقد علمتَ ما صُنع به. فيأتيها النداء من قِبل الله عز وجل: يا فاطمة لك عندي الرضا، فتقول: يا ربِّ انتصر لي من قاتله، فيأمر الله تعالى عَنَقاً من النار فتخرج من جهنَّم فتلتقطُ قتلة الحسين بن علي (ع) كما يلتقطُ الطير الحبَّ، ثم يعود العنَق بهم إلى النار فيُعذَّبون فيها بأنواع العذاب، ثم تركبُ فاطمة (ع) نجيبها حتى تدخل الجنَّة، ومعها الملائكة المشيِّعون لها، وذريَّتُها بين يديها، وأولياءهم من الناس عن يمينها وشمالها"(1).

هذه الرواية صحيحةُ السند، فجميع رواتها من الثقاة الأجلاء، والمراد من النجيب والنجيبة هو الناقة القوية والخفيفة، والجمع نُجب ونجائب، والمراد من العنَق في قوله: "فيأمر الله تعالى عَنقاً من النار فتخرج من جهنم" هم الجماعة، والظاهر انَّهم جماعةٌ من زبانية جهنَّم تُؤمر فتخرج من جهنَّم فتلتقط قتلة الحسين(ع) من صعيد المحشر.

الثاني: ما رواه الشيخ الصدوق (رحمه الله) في عيون أخبار الرضا (ع): بأسانيد ثلاثة، عن الرضا (ع) عن آبائه (ع) قال: قال رسول الله (ص): "تُحشر ابنتي فاطمة يوم القيامة ومعها ثيابٌ مصبوغة بالدم فتتعلَّق بقائمةٍ من قوائم العرش فتقول: يا عدلُ أحكم بيني وبين قاتل ولدي، قال رسول الله (ص): فيحكم لابنتي وربِّ الكعبة، وإنَّ الله عزَّ وجل يغضبُ لغضب فاطمة ويرضى لرضاها"(2).

الثالث: ما رواه فرات بن ابراهيم الكوفي في تفسيره عن سليمان بن محمد بإسناده عن ابن عباس قال: سمعتُ أمير المؤمنين (ع) يقول: "دخل رسولُ الله (ص) ذات يوم على فاطمة وهي حزينة فقال لها: ما حزنك يا بنيَّة؟ قالت: يا أبة ذكرتُ المحشر ووقوف الناس عراة يوم القيامة .. ثم ينادي منادٍ من تحت العرش يسمع الخلائق: غضُّوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة بنت محمد (ص) ومَن معها، فلا ينظر إليكِ يومئذٍ إلا إبراهيم خليل الرحمن وعليُّ بن أبي طالب، ويطلب آدمُ حواء فيراها مع أمِّكِ خديجة أمامك، ثم يُنصب لكِ منبر من النور فيه سبع مراق، بين المرقاة إلى المرقاة صفوف الملائكة، بأيديهم ألوية النور، ويصطفُّ الحور العين عن يمين المنبر، وعن يساره، وأقرب النساء منك عن يسارك حواء وآسية، فإذا صرتِ في أعلى المنبر أتاكِ جبرئيل فيقول لك: يا فاطمة سلي حاجتك فتقولين: يا ربِّ أرني الحسن والحسين، فيأتيانك وأوداج الحسين تشخبُ دماً وهو يقول: يا ربِّ خذْ لي اليوم حقِّي ممَّن ظلمني، فيغضب عند ذلك الجليل، وتغضبُ لغضبه جهنَّم والملائكة أجمعون، فتزفرُ جهنَّم عند ذلك زفرة، ثم يخرج فوجٌ من النار ويلتقط قتلة الحسين .."(3).

الرابع: ما رواه فرات بن ابراهيم الكوفي في تفسيره قال: حدَّثني الحسين بن سعيد باسناده: عن جعفرٍ عن أبيه (ع) عن قال: قال رسول الله (ص): إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من بطنان العرش: يا معشر الخلائق غضُّوا أبصاركم حتى تمرَّ بنتُ حبيب الله إلى قصرها .. فتمرُّ وعليها ريطتان خضراوان حواليها سبعون الف حوراء، فإذا بلغت إلى باب قصرها وجدت الحسن قائماً والحسين نائماً مقطوع الرأس فتقول للحسن: مَن هذا؟ فيقول: هذا أخي إنَّ أمَّة أبيك قتلوه وقطعوا رأسه، فيأتيها النداء من عند الله يا بنت حبيب الله إنِّي إنَّما أريتُك ما فعلتْ به أمَّةُ أبيك إنِّي ادَّخرتُ لكِ عندي تعزيةً بمصيبتك فيه وإنِّي جعلتُ تعزيتك اليوم أني لا أنظر في محاسبة العباد حتى تدخلي أنت وذريتك وشيعتك .."(4).

الرَيْطة بفتح الراء هي الملاءة التي تكون قطعةً واحدة من نسجٍ واحد يُلف بها البدن، وقيل هي الثوب الليِّن الرقيق، والجمع رياط وريط.

الخامس: ما رواه الشيخ الصدوق (رحمه الله) في ثواب الأعمال: بسنده عن شريك يرفعه قال: قال رسول الله (ص): "إذا كان يوم القيامة جاءت فاطمة (ع) في لُمةٍ من نسائها فيُقال لها: أُدخلي الجنَّة فتقول: لا أدخلُ حتى أعلم ما صُنع بولدي من بعدي فيُقال لها: أُنظري في قلب القيامة فتنظر إلى الحسين (ع) قائماً وليس عليه رأس، فتصرخُ صرخةً وأصرخُ لصراخها، و تصرخُ الملائكةُ لصراخنا، فيغضب الله عزَّ وجلَّ لنا عند ذلك فيأمر ناراً يُقال لها: هبهب قد أُوقد عليها ألفَ عام حتى اسودَّت لا يدخلها رَوحٌ أبداً ولا يخرج منها غمٌّ أبداً فيُقال لها: التقطي قتلة الحسين (ص) فتلتقطهم. فإذا صاروا في حوصلتها، صهلتْ وصهلوا بها، وشهقتْ وشهقوا بها، وزفرت وزفروا بها، فينطقون بألسنة ذلِقة طلقة: يا ربنا أوجبتَ لنا النار قبل عبدة الأوثان .."(5).

السادس: ما رواه الشيخ الصدوق (رحمه الله) في ثواب الأعمال بسنده إلى عنبسة الطائي، عن أبي خير، عن عليِّ بن أبي طالب (ع) قال: "قال رسولُ الله (ص): يُمثَّل لفاطمة (ع) رأس الحسين (ع) متشحِّطاً بدمه فتصيح: وا ولداه! وا ثمرة فؤاداه! فتصعق الملائكة لصيحة فاطمة (ع) .. وإنَّ فاطمة (ع) في ذلك اليوم على ناقة من نوق الجنَّة .. يحفُّ بهودجها سبعون ألف ملك بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والثناء على ربِّ العالمين. ثم ينادي منادٍ من بطنان العرش: يا أهل القيامة غضُّوا أبصاركم فهذه فاطمة بنتُ محمدٍ رسول الله (ص) تمرُّ على الصراط، فتمرُّ فاطمة (ع) وشيعتها على الصراط كالبرق الخاطف. قال النبيُّ (ص): ويلقي أعداءها وأعداء ذريتها في جهنم"(6).

هذه مجموعة من الروايات وثمة أخرى أغفلنا ذكرها خشية الإطالة، فهي رواياتٌ مستفيضة متعاضِدة يقتضي مجموعها الوثوق بالصدور في الجملة، وأما أنَّ هذه المضامين كتمثُّل الحسين (ع) للسيِّدة فاطمة (ع) مقطوعَ الرأس أو حملها لقميصه المضرَّج بالدماء هل يتنافى مع ما هو معلومٌ من أنَّ الجنة لا حزن فيها على أهلها فجوابه إنَّ الروايات المذكورة وما هو قريبٌ من مضامينها إنَّما تتحدَّث عن بعض ما سيقع على صعيد المحشر يوم القيامة والحساب قبل دخول الجنَّة، والمنفيُّ عن الصالحين في هذا الظرف هو الحزن الناشئ عن الفزع الأكبر كما قال تعالى: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾(7) وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ﴾(8) ولا دليل على أنَّ الصالحين بمن فيهم الأنبياء والأولياء لا ينتابهم حزنٌ لمناشئَ أخرى كتَذكار ظلاماتهم التي وقعت عليهم في الدنيا واالترقُّب للإنتصار لحقِّهم السليب، ولا دليل على أنَّه لا ينتابهم حزنٌ وأسفٌ على ما وقع لأُممهم من الإنحراف عن جادَّة الصراط القويم بل الدلائل متظافرةٌ على أنَّ هذا النحو من الحزن يقع للأنبياء والأولياء وعموم الصالحين يوم القيامة.

فمِمَّا يُعبِّر عن ذلك قولُه تعالى: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا﴾(9) فإنَّ لحن هذه الآية الشريفة وكذلك هي طبيعة التصدِّي للشكوى يستبطنُ دلالةً بيِّنة على أنَّ الرسول (ص) ينطوي حين الشكوى لربِّه على حزنٍ عميق نتيجة هجران قومه للقرآن الذي كان قد صدع به بغيةً هدايتهم.

وكذلك فإنَّ قوله تعالى: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾(10) يدلُّ على أنَّ المرسلين يُسألون يوم القيامة عن مدى استجابة أقوامهم لدعوتهم، ومن الواضح عرفاً أنَّهم لن يكونوا مجرَّدين عن مشاعر الحزن والأسى والأسف حينما يُجيبون ربَّهم جلَّ وعلا بأنَّ الكثير من أقوامهم لم يستجيبوا لدعوتهم وأنَّهم تمرَّدوا وبغوا وعتوا عن أمر ربِّهم فقُتل من هؤلاء الأنبياء مَن قُتل، وشُرِّد من شُرِّد، وفيهم مَن نُشر بالمناشير، وفيهم من ذُبح كما تُذبح الشاة، وفيهم من دُفن حيَّاً، وفيهم من تواطئ قومه على تعليقه على أعواد الصليب، وقولُ عيسى (ع) لربِّه جلَّ وعلا حين سأله: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾(11) قَالَ: ﴿سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ / مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(12) فإنَّ هذه الإجابة لن تكون مجرَّدة عن الشعور بالحزن والأسف على قومه حيث تجاسروا فنسبوه للربوبيَّة.

وكذلك فإنَّ قوله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ / يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّار﴾(13) يدلُّ على أنَّ الله تعالى ينتصرُ لرسله يوم يقوم الأشهاد، ومن البيِّن أنَّ ذلك وعدٌ إلهيٌّ سوف يترقُّبه الأنبياء يوم يقوم الأشهاد، ومن غير المتصوَّر أن ينتصر اللهُ تعالى لأنبيائه من أقوامهم وفي ذات الوقت يكون قد أنساهم جفوة أقوامهم وإعراضهم وسخريتهم وكيدهم وظلاماتهم التي كانوا قد تجرَّعوها منهم، وعليه فتَذكارُ كلِّ تلك الآلام يستلزمُ الشعور بالحزن والترقُّب للساعة التي يُنجز اللهُ تعالى وعدَه لهم، على أنَّ الإبتهاج بالإنتصار لا يكونُ إلا بعد التذكر لمرارة الظلم والاستضعاف.

ومن الدلائل من السنَّة الشريفة على أنَّ الحزن ينتابُ الأولياء والصالحين يوم الحساب ما ورد مستفيضاً بأسنادٍ صحيحة عند الفريقين أنَّ عليَّ بن أبي طالب (ع) كان يقول كما في صحيح البخاري: "أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة"(14) وفي المستدرك على الصحيحين قال: "قال عليٌّ (ع): وأنا أول من يجثو للخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة"(15)

وفي الرواية دلالة واضحة على أنَّ الظلامة التي سوف يُخاصم عليها عليٌّ (ع) حاضرةٌ بتفاصيلها في ذاكرته وأنَّها تعتلجُ في نفسه حتى أنَّه سوف يجثو على ركبتيه بين يدي الرحمن تعبيراً عن شدَّة وقعها على قلبه وجليلِ إيلامها لمشاعره، يجثو ليبثَّ الشكاية عند ربِّه ومعشوقه، يجثو كما يجثو الطفل عند أبيه ليشكو إليه ما ناله من الأذى فينفِّس بشكايته عمَّا اعتلج في صدره من الحزن والأسى منتظراً تسليته والإنتصار له.

فكم هي عظيمةٌ تلك الظلامة التي سيبثُّها عليٌّ(ع) لربِّه جلَّ وعلا والتي سيشهد تفاصيلها الخلقُ على صعيد المحشر، يكشفُ عن عظيم شأنها وجليل وقعها على قلب رجلٍ كانت الدنيا المتعاظمة أحقرَ في نفسه من جناح بعوضة، ويكشفُ عن عظيم شأن تلك الظلامة أنَّها أولُ ظلامةٍ يأذنُ ربُّ العباد ببثِّها يوم القيامة ذلك لأنَّها تفوقُ ظلامات الأولين وتقصر عن مطاولتها ظلاماتُ الآخرين.

ومن الدلائل على أنَّ الحزن والأسف ينتابُ الأنبياء والصالحين يوم القيامة روايات الحوض المتواترة:

منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه بسنده عن أبي حازم قال: سمعتُ سهلاً يقول: سمعتُ النبيَّ (ص) يقول: أنا فرَطكم على الحوض مَن ورد شرِب ومَن شرب لم يظمأ ابدًا وليردنَّ عليَّ أقوامٌ أعرفهم ويعرفوني ثم يُحال بيني وبينهم قال أبو حازم: فسمع النعمان بن أبي عيَّاش وأنا أُحدِّثهم هذا الحديث فقال: هكذا سمعتَ سهلاً يقول؟ قال: فقلتُ: نعم، قال: وأنا اشهد على أبي سعيد الخدري لسمعتُه يزيد فيقول: إنَّهم منِّى فيقال: إنَّك لا تدرى ما عملوا بعدك، فأقول: سُحقاً سُحقاً لمَن بدَّل بعدي"(16).

ومنها: ما أخرجه البخاري في صحيحه بسنده عن ابن المسيب: أنَّه كان يُحدِّث عن أصحاب النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "يرد عليَّ الحوضُ رجالٌ من أصحابي فيحلؤون عنه فأقول: يا رب أصحابي!! فيقول: إنَّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنَّهم ارتدُّوا على أدبارهم القهقرى، وقال شعيبٌ عن الزهري: كان أبو هريرة يُحدِّث عن النبيِّ (ص) فيُجلَّون، وقال عقيل: فيحلؤون، وقال الزبيدي عن الزهري عن محمد بن علي عن عبيد الله ابن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبيِّ (ص) حدَّثني إبراهيم بن المنذر الحزامي حدثنا محمد بن فليح حدثنا أبي حدثني هلال عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبيِّ (ص) قال: بينا أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتُهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلمَّ فقلت: أين؟ قال: إلى النار والله، قلتُ وما شأنهم؟ قال: إنَّهم ارتدُّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتُهم خرج رجلٌ من بيني وبينهم فقال: هلمَّ، قلتُ أين؟ قال: إلى النار والله، قلتُ: ما شأنُهم قال: إنَّهم ارتدُّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص منهم الا مثل همل النعم"(17)

ومنها: ما أخرجه البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "إنَّكم تُحشرون حفاة عراة غرلا ثم قرأ: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾(18) وأول مَن يُكسى يوم القيامة إبراهيم وإنَّ أناساً من أصحابي يُؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: أصحابي أصحابي!! فيُقال إنَّهم لم يزالوا مرتدِّين على أعقابهم منذ فارقتَهم فأقولُ كما قال العبد الصالح: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ / إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(19)"(20).

فقوله (ص): "سُحقاً سُحقاً لمَن بدَّل بعدي" فيه تعبيرٌ واضح عن السخط الذي ينتابُه منهم، ويستبطنُ حزناً وأسفاً مُرَّاً على انحرافهم بعده عن الجادَّة التي كان قد رسمها لهم. وكذلك فإنَّ استشهاده بقوله تعالى على لسان عيسى (ع): ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ..﴾ فيه دلالة على ما سيُساوره من حزنٍ وأسى بعد طول عناءٍ بذله في سبيل اصلاحهم، وكم هو شديدٌ وقعُ هذه الكلمات على قلبه: "إنَّهم لم يزالوا مرتدِّين على أعقابهم منذُ فارقتَهم" وكذلك هو شديد على قلبه قول ربِّه له: "إنَّهم ارتدَّوا على ادبارهم القهقرى".

والحمد لله ربًّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- الأمالي -الشيخ المفيد- ص130.

2- عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج2 / ص29.

3- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج8 / ص53.

4- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج65 / ص59.

5- ثواب الأعمال -الشيخ الصدوق- ص217.

6- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج43 / ص223.

7- سورة الأنبياء / 103.

8- سورة النمل / 89.

9- سورة الفرقان / 30.

10- سورة الأعراف / 6.

11- سورة المائدة / 116.

12- سورة المائدة / 116-117.

13- سورة غافر / 51-52.

14- صحيح البخاري -البخاري- ج5 / ص6.

15- المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج2 / ص386.

16- صحيح البخاري -البخاري- ج7 / ص207.

17- صحيح البخاري -البخاري- ج7 / ص208.

18- سورة الأنبياء / 104.

19- سورة المائدة / 117-118.

20- صحيح البخاري -البخاري- ج4 / ص110.