الأسديُّ الذي رأى الأسد عند جسد الحسين (ع)

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

أورد صاحبُ المنتخب (رحمه الله) في كتابه قصةً رواها عن رجلٍ قال: إنَّه زرَّاع من بني أسد، قال إنَّه بعد ارتحال عسكر بني امية كان يرى أسداً هائلَ المنظر يأتي ساحةَ المعركة في كلِّ ليلة ويتخطَّى القتلى ويجلسُ عند جسد الحسين (ع) ويُمرِّغُ وجهه عليه، ويُهمهمُ ويُدمدم، فإذا طلعت الشمسُ ذهب إلى جهة القبلة فأخبرتْه احدى نساء الجن أنَّ هذا الأسد هو عليُّ بن أبي طالب (ع)، فما مدى صحَّة هذه القصة؟

الجواب:

ليس لهذه القصَّة مستندٌ، ولم يكن ينبغي لصاحب المنتخب -مع الإقرار بجلالة قدره- لم يكن ينبغي له أنْ ينقل في كتابه -الذي نشكُّ في نسبة المتداول منه إليه- مثلَ هذه القصَّة المنكَرة، فهي لا تعدو أحد احتمالين، إما أنْ تكون مُختلَقة من قبل صاحب القصة أو غيره أو يكون صاحبُ القصَّة قد وجد في المعركة أسداً فتوهَّم لفرط حزنه وضعفِ عقله أنَّه أميرُ المؤمنين (ع) أو أنَّ الشيطان قد ألقى في رَوعه هذا الوهم، فحسِبَ أنَّ تلك كرامةٌ لأمير المؤمنين (ع) وهي في الواقع إساءةٌ لمقامه السامي، فإنَّ أمير المؤمنين (ع) والذي هو أكملُ الخلق بعد الرسول الكريم (ص) لا يُمكن أنْ يتمثَّل في صورة بهيمة: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾(1).

ودعوى أنَّ تلك هي الصورة البرزخيَّة لعليِّ بن ابي طالب (ع) -كما ادُّعي- هي في غاية الوهن، -فمضافاً إلى أنَّها دعوى جزافيَّة وواقعةٌ في سياق الرجم بالغيب- فإنَّها منافيةٌ للمقام السامي لسيِّد الأوصياء (ع). فإنَّ الذي لا ريب فيه أنَّ صورة الإنسان هي اشرفُ وأكملُ ما يُمكن أنْ تكون عليه صورة الانسان لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾(2) وقال تعالى: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾(3) ولهذا يحتفظ الانبياءُ والكمُّل من بني آدم بصورهم في النشأة الأخرى وفي عالم البرزخ كما هو مفاد النصوص الكثيرة، ويُؤيِّد ذلك أيضاً ما أفادته العديدُ من النصوص انَّ الله تعالى حين سخط على أقوامٍ مسخَ صُورَهم فكانت على صُور حيوانات فيها ما هو مُستبشَع وفيها ما هو مألوف، وهو ما يُؤكِّد أنَّ محض الانسلاخ من الصورة الآدميَّة إلى الصورة الحيوانيَّة أيَّاً كان هذا الحيوان يُعدُّ من الامتهانِ للإنسان.

وكذلك يُمكن التأييد لما ذكرناه بما رواه الكليني في الكافي بسندٍ صحيح عَنْ أَبِي وَلَّادٍ الْحَنَّاطِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: قُلْتُ لَه: جُعِلْتُ فِدَاكَ يَرْوُونَ أَنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي حَوَاصِلِ طُيُورٍ خُضْرٍ حَوْلَ الْعَرْشِ فَقَالَ (ع): "لَا، الْمُؤْمِنُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّه مِنْ أَنْ يَجْعَلَ رُوحَه فِي حَوْصَلَةِ طَيْرٍ ولَكِنْ فِي أَبْدَانٍ كَأَبْدَانِهِمْ"(4)

وروى الكليني أيضاً بسنده عَنْ يُونُسَ بْنِ ظَبْيَانَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) فَقَالَ: مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقُلْتُ: يَقُولُونَ تَكُونُ فِي حَوَاصِلِ طُيُورٍ خُضْرٍ فِي قَنَادِيلَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): "سُبْحَانَ اللَّه الْمُؤْمِنُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّه مِنْ أَنْ يَجْعَلَ رُوحَه فِي حَوْصَلَةِ طَيْرٍ، يَا يُونُسُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَتَاه مُحَمَّدٌ (ص) وعَلِيٌّ وفَاطِمَةُ والْحَسَنُ والْحُسَيْنُ (ع) والْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ (ع) فَإِذَا قَبَضَه اللَّه عَزَّ وجَلَّ صَيَّرَ تِلْكَ الرُّوحَ فِي قَالَبٍ كَقَالَبِه فِي الدُّنْيَا فَيَأْكُلُونَ ويَشْرَبُونَ، فَإِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمُ الْقَادِمُ عَرَفُوه بِتِلْكَ الصُّورَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا"(5).

فإذا كان جعلُ روح المؤمن في قالب طيرٍ أخضر حول العرش منافياً للتَّكريم -كما أفاد الإمام(ع)- فجعلُها في صورة سبُعٍ ضارٍ أوضح في المنافاة للتكريم، وقد أكَّد الإمام (ع) -بحسب الرواية- أنَّ اللهَ تعالى يُصيَّر روحَ المؤمن في قالبٍ كقالبه في الدنيا، وهو ما يُؤكِّد انَّ صورة الإنسان في هذه النشأة هي أشرفُ ما تكون عليه صورة الإنسان، ولذلك يُكرمُ الله تعالى عبادَه المؤمنين في عالم البرزخ بجعل أرواحهم في قوالبَ مشابهةٍ لصورهم في الدنيا.

وثمة توجيهٌ آخر ذكره أحدُهم لهذه القصَّة وهو أنَّ صاحبَ القصَّة لم يرَ الصورة البرزخيَّة لأميرِ المؤمنين (ع) على نحو الحقيقة وإنَّما تمثَّلت الصورة البرزخيَّة الواقعيَّة في عين الرائي على هيئة أسد، فهي لم تكن أسداً واقعاً ولكنَّها تمثَّلت صورةَ الأسد في نظر الرائي رغم أنَّ المرئي لم يكن أسداً، فالشأنُ في ذلك هو الشأنُ فيما يراه النائم، فهو قد يرى صورةً ويكون تأويلُيها حقيقةً أخرى، كما لو رأت امرأةٌ في المنام أنَّها أنجبتْ أسداً ثم أنجبتْ ولداً شجاعاً فرؤيتُها صادقة، فالمرئي في المنام واقعاً كان ولداً ولكنَّها رأتْه في صورة أسد لأنَّ هذه الصورة هي المعبِّرة في ذهنها عن صفة الشجاعة.

والجواب عن هذا التوجيه انَّه يُمكن قبولُه لو ادَّعى صاحبُ القصَّة أنَّ ما رآه كان في المنام ولم يكن في عالم اليقظة، ولكنَّه لم يدَّعِ ذلك ولا فهم ناقلُ القصة ذلك منه، ولهذا ساقها مساق الكرامة إذ لو كانت رؤية منام فإنَّها لن تكون كرامة، فصاحب القصَّة ادَّعى انَّه رأى -عياناً- الأسد على مدار أيامٍ يُقبِلُ من جهة القِبلة إلى ساحة المعركة عند غروب الشمس قبل أنْ يعتكرَ الظلام ويظلُّ جاثماً عند جسد الحسين (ع) إلى أنْ تُشرقُ الشمس، عندها يراه ذاهباً إلى جهة القِبلة، وادَّعى أنَّه يراه يتخطَّى القتلى قبل أنْ يصلَ إلى جثمان الحسين (ع) وأنَّه وجد الأسد يُمرِّغ وجهه على الجثمان الشريف وأنَّه كان يسمعه يُهمهمُ ويُدمدم تماماً كما يفعل السباع، فهو يروي قصَّةً يدَّعي أنَّه رآها عياناً في عالم اليقظة، والتوجيه المذكور إنما يُناسب عالم الرؤيا في المنام.

فإذا كان صاحبُ القصَّة قد رأى أسداً واقعاً في عالم اليقظة فهل يصحُّ أنْ نقول أنَّ المرئي لم يكن أسداً واقعاً وإنْ كان الرائي قد رآه على صورة الأسد، فهل هذا إلا من قبيل ما يقوله أهلُ السفسطة، وإذا قُلتم إنَّ الرائي قد توهَّم فتخيَّل أنَّ الذي رآه كان أسداً وهو لم يكن أسداً واقعاً، قلنا فالقصَّة محضُ وهمٍ إذن، وهل يسوغ لنا رواية الأوهام في سياق الكرامات؟!

نعم لو ادَّعى صاحبُ القصة أنَّه رأى أسداً على مدار أيام يتخطَّى القتلى حتَّى إذا وصل إلى جثمان الحسين (ع) ربَضَ عنده حتى شروق الشمس دون أنْ يمسَّ الجسدَ الشريف بسوء لكان ذلك مقبولاً، أمَّا أنْ يدَّعي أنَّ ذلك الأسد هو أميرُ المؤمنين (ع) أو أنَّه يقبل بدعوى الجنِّ أنَّه أميرُ المؤمنين(ع) فدعواه كاذبة دون ريبٍ أو أنَّ مَن ألقى في رَوعِه هذه الدعوى شيطانٌ وقد كذبَ عليه.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- سورة الكهف / 5.

2- سورة التين / 4.

3- سورة غافر / 64.

4- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 / ص244.

5- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 / ص245.