زواج أم كلثوم من عمر

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ محمد وآل محمد

وردت في طرقنا روايات بعضها معتبرٌ سنداً مفادها أنَّ عمر بن الخطاب تزوَّج من السيدة أم كلثوم بنت عليِّ بن أبي طالب (ع) إلا أنَّ هذا الزواج لم يكن عن رضىً من عليٍّ (ع) بل كان عن تهديدٍ ووعيد من الخليفة اقتضى أن يقبل عليٌ (ع) بالزواج درءً لما كان قد يقع لو بقيَ عليٌّ (ع) على رفضه للزواج، فقد كان عمر في موقع الخلافة والنفوذ وكان له ان يَمضي فيما توعَّد به.

فذلك هو منشأ القبول بتزويج أمِّ كلثوم من الخليفة عمر بن الخطاب، وقد بذل الآخرون جهوداً مضنية لاستنباط الكثير من الدلالات لهذا الزواج إلا أنَّ شيئاً منها لا يتم، فالكثير ممَّا نقلوه عن هذا الزواج لم يثبت عندنا وكثيرٌ من هذا الكثير لا يثبت عندهم بحسب الضوابط الرجاليَّة المعتمدة لديهم.

فمقدار ما يُمكن اثباته من رواياتنا ورواياتهم هو أنَّ عقد النكاح قد وقع وأنَّ السيدة أمَّ كلثوم ذهبت إلى بيت عمر، وهذا المقدار ليس له دلالة على أكثر من أنَّ رجلاً مسلماً تزوَّج من امرأةٍ مسلمة، وأما دعوى أنَّ هذا الزواج يدلُّ على أنَّ بين عليٍّ (ع) وعمر كمالَ الانسجام والموادعة وأنَّه (ع) تخلَّى عمَّا كان يراه لنفسه من حقٍ في الخلافة أو أنَّه يرى أنَّ عمر جديرٌ بهذا الموقع وأنَّ خلافته شرعية فذلك ما لا يصحُّ إثباته بهذا الزواج، وأنَّ من رام إثبات ذلك بهذا الزواج فإنَّما يُعبِّر عن حظِّه من الفهم والعقل خصوصاً مع ملاحظة أنَّ عمرَ بن الخطاب هو مَن تقدم للخطبة وأنَّه كان في موقع الخلافة وأنَّ الرفض له دلالات لا يتحمَّلها من هو في موقعه وأنَّ عليَّاً (ع) لم يقبل بخطبته بمجرَّد تقدُّمه، وأنَّ علياً (ع) أوكل أمر زواجها إلى عمِّه العباس بن عبد المطلب فإنَّ كلَّ ذلك يُساهم في نفي ما يرغب الآخرون في استفادته من هذا الزواج.

هذا كلُّه بقطع النظر عما نصَّت عليه بعضُ رواياتنا المعتبرة والتي أفادت أنَّ الزواج كان عن غير رضىً من عليٍّ (ع) فلم تكن نفسه طيِّبةً بهذا الزواج، فقد ورد في كتاب الكافي بسندٍ معتبر عن زرارة عن أبي عبد الله (ع) في تزويج أم كلثوم فقال (ع): "إنَّ ذلك فرجٌ غُصبناه"(1).

وورد في الكافي أيضاً بسندٍ معتبر عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع) قال: لما خطب إليه قال أمير المؤمنين (ع):" إنَّها صبية"، قال: فلقي العباس فقال له: ما لي أبِيَّ بأس، قال: وما ذاك؟ قال: خطبتُ إلى ابن أخيك فردّني، أما والله لاعُورن زمزم ولا أدع لكم مكرمة إلا هدمتها ولأُقيمن عليه شاهدين بأنَّه سرق ولأقطعنَّ يمينه، فأتاه العباسُ فأخبره وسأله أنْ يجعل الأمرَ إليه، فجعله إليه(2).

فالروايتان صريحتان في عدم رضى عليٍّ (ع) بهذا الزواج لولا اقتضاء التقيِّة والحرص على عدم وقوع ما هو محذور، فأيُّ دلالةٍ حينئذٍ لهذا الزواج على ما يرومُ القوم الاستدلال عليه.

فإنْ قيل إنَّه ليس في وسع الخليفة أن يتّهم عليَّاً (ع) بالسرقة أو يُوعزَ إلى أحدٍ أنْ يتهمه بذلك، لأنَّ أحداً لن يصدِّقَ في عليٍّ (ع) تلك الفِريِّة نظراً لموقعه في نفوس المسلمين.

قلنا لا ريب في أنَّ أحداً لن يُصدِّق في عليٍّ (ع) هذه الفِرية أو غيرها ولكنَّ ثمة مَن سيتظاهر بالتصديق وثمة من سيُرجف بهذه الدعوى حسداً وكيداً لعليٍّ (ع) فلم تهدأ بعدُ نفوس قومٍ وتَرهم سيفُ عليٍّ أيام الرسول (ص) وما زالوا واجدين عليه يطمحون في النيل من مقامه السامي الذي يتصاغرون دونه ولا يؤمِّل منهم مؤمِّلٌ في أنْ يحظى بما حظيَ به علي (ع) لذلك كان نصيبهم منه الغيظ الذي لا يخبو أوارُه ولهبُه، يتحيَّنون كلَّ سانحةٍ علَّها تنفِّس شيئاً مما احتقنت به نفوسُهم، شأنُهم في ذلك شأنُ كلِّ صغيرٍ أَعيته الحيلةُ أنْ يكبر فطمع في أنْ لا يكون ثمة كبار.

فالخليفة لن يتصدَّى بنفسه لرمي عليٍّ (ع) بالسرقة، وقد يتظاهر بالدفاع عنه أمام الملأ إلا أنَّه لا يسعه تعطيل حدٍّ من حدود الله تعالى بعد قيام البيِّنه، وقد يسعى لإظهار كذب الشهود وحينئذٍ لن يُقيم الحد لأنَّه لم يستوفِ شرائطه ولكنَّه سيدعو عليَّاً (ع) للمثول مع الشهود أمامه فيستجوبه ويُسائله عن فِريةٍ لا يتعاطاها إلا سَفَلةُ الناس، وهذا وحده كافٍ لإدخال الأذى على عليٍّ (ع).

وسيُرجف المنافقون ومَن في قلبه مرض بهذه الفِرية، فبين متظاهرٍ بالتصديق، وبين متنسكٍ مسترجعٍ ومبدٍ أسفه على تاريخ عليٍّ(ع) ونضاله، وبين مَن سيظهر في مظهر المدافع ولكن بدفاعٍ يُؤكِّد التهمة ويزيد في ذيوعها.

هكذا كان الأمر عندما قذف المنافقون إحدى نساء النبيِّ (ص) فلولا أنْ نزل قرآنٌ في براءتها وقطَع بذلك دابر المنافقين لكانت هذه الفِرية في عهدة التاريخ ينفيها قومٌ ويؤكِّدها آخرون.

فكان عليٌّ مُدركاً لما سيؤول إليه الحال لو مضى الخليفةُ فيما توعَّد به، وهذا هو معنى قول أبي عبد الله (ع): "ذلك فرج غُصبناه".

فإنْ قيل كيف يقبل عليٌّ (ع) بتزويج ابنته غصباً وهو يعلم أنَّ الزواج إذا لم يكن عن رضىً كان سفاحاً.

قلنا لو كان سفاحاً لكان وزر ذلك على مَن أقدم على الغصب، وليس على المُكرَه من غضاضة، على أنَّ الغصب هنا ليس بمعنى الإلجاء النافي للاختيار والموجب لفساد العقد وإنَّما هو بمعنى القبول على غير رغبةٍ درءً لمفسدةٍ يسوغ تحمُّلُها ولكن في تحمُّلِها منافاة لما هو مقتضى الحكمة والتعقُّل.

فكان في وسع عليٍّ (ع) أنْ لا يقبل بزواج الخليفة من السيِّدة أم كلثوم إلا أنَّه كان يُدرك أنَّ لعدم قبوله بذلك تبعاتٍ باهضة لا يحسُنُ من العاقل تحمُّلها، فالقبول كان اختياراً لعليٍّ (ع) ولكنَّه كان لدرءِ مفسدة أشدَّ من مفسدة القبول.

فهذا هو معنى الغصب الوارد في كلام أبي عبد الله (ع) ومن الواضح أنَّ هذا المستوى من الغصب ليس موجباً لفساد العقد، فالمقام أشبه شيءٍ بعرض نبيِّ الله لوط (ع) بناته على قومه حين جاؤوا يسألونه أنْ يُخلِّي بينهم وبين ضيوفه، قال الله تعالى: ﴿وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ﴾(3).

فلم يكن لوط (ع) ليرغب في تزويج بناته من هؤلاء لولا أنَّه أراد من ذلك درء مفسدةٍ أكبر، وحينئذٍ لو كانوا قد قبلوا بهذا العرض وتزوَّجوا من بناته هل يصحُّ لمتوهِّمٍ أنْ يدّعي فساد هذا العقد نظراً لأنَّ لوطاً لم يكن ليقبل بهذا التزويج لولا الخشية من وقوع محذورٍ هو أشدُّ بنظره من محذور التزويج، ثم إنَّه لو وقع مثل هذا الزواج هل تكون له من دلالة على تزكية هؤلاء وهو إنَّما زوَّجهم من بناته درءً لمفسدةٍ أكبر.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- الكافي -الشخ الكليني- ج5 / ص346.

2- الكافي -الشيخ الكليني- ج5 / ص346.

3- سورة هود / 87.