القاسم لم يكن صبيًّا لم يبلغ الحلم

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

هل كان القاسمُ بنُ الحسن المجتبى (ع) صبيًّا لم يبلغ الحلم كما هو الشائع؟

الجواب:

لم يثبت أنَّ القاسم بن الحسن (ع) كان صبيًّا لم يبلغ الحلم، فلم نجد ذلك في شيءٍ من مصادرنا، نعم تفرَّد بذكر ذلك أحدُ علماء العامَّة وهو أبو المؤيد الخوارزمي في كتابه مقتل الحسين (ع)(1)، ولا يصحُّ التعويل على ما يتفرَّدُ بنقله خصوصًا إذا كانت القرائن مقتضية لانتفاء صحَّة ما ينقله، فمِن تلك القرائن:

القرينة الأولى: إنَّ الإمام الحسين (ع) لا يأذنُ لصبيٍّ -غير مكلَّف ولم يبلغ الحلم- بالقتال كما لم يأذن للنساء، وأمَّا الصبيُّ الذي قُتل في حجره قُبيل مصرعه فكان قد أفلَتْ -كما نصًّ على ذلك المؤرِّخون- من يد النساء وأرادت السيِّدة زينب (ع) أنْ تحبسه ولكنَّه امتنع وبادر إلى أرض المعركة فلَقيَ مصرعه وهو في حجْرِ أو على صدر عمِّه الحسين (ع) وأمَّا القاسم (ع) فقد نصَّ بعضُ المؤرِّخين على أنَّه استأذنَ للقتال فأذِنَ له الإمامُ الحسين (ع)(2)، ويُؤيِّد ما أفاده من وقوع الإذن له بالقتال ما ورد في زيارة الناحية الخاصَّة بالشهداء: "السلام على القاسم بن الحسن بن علي، المضروب هامته المسلوب لامته .."(3).

فإنَّ الواضح من هذا النصِّ المأثور أنَّ القاسم (ع) كانتْ عليه حين قُتل لامةُ الحرب، ويتأيَّد ذلك بما رواه الصدوق أنَّ القاسم برز فارسًا ولم يكن راجلًا(4)، فهو إذنْ قد خرج إلى المعركة مُحاربًا، ولا يخرجُ كذلك إلا بإذن الإمام الحسين (ع)، والإمامُ الحسين (ع) لا يأذنُ لصبيٍّ -غير مكلَّف- بالمشاركة في القتال حتى وإنْ أصرَّ وألحَّ في طلب المشاركة، فإذنُه (ع) لابن أخيه بالمشاركة يكشفُ عن أنَّه كان في مصافِّ الرجال وإنْ كان في مُقتبل العمر.

القرينة الثانية: إنَّ مشاركة الصِبْيَة في الحروب غير متعارَف ولا هو مألوف، فلو كان القاسم (ع) صبيًّا لكانت مشاركتُه كجنديٍّ في معسكر الحسين(ع) أمرًا مُستغرَبًا، وذلك يسترعي اهتمام المؤرِّخين، فكيف لم ينص على ذلك أحدٌ منهم غير الخوارزمي؟! خصوصًا وأنَّهم تصدَّوا للتنويه على ما هو أقلُّ إثارةً من هذا الأمر، ومع الالتفات إلى أنَّه لم يُدَّع لأحدٍ من أنصار الحسين (ع) غير القاسم أنَّه كان صبيًّا فإنَّ دلالة هذه القرينة على فساد دعوى الخوارزمي تتعزَّز.

وأمَّا ما يُقال من أنَّ صبيًّا لم يتجاوز الحادية عشر قُتل أبوه في المعركة فاستأذنَ الحسين (ع) في القتال فأجازَه بعد استعلام رأي أمِّه فخرجَ يقول: "أميري حسينٌ ونعم الأمير .." فهذا الخبر وإنْ أوردَه بعضُ المؤرِّخين لكنَّه لم يذكر أحدٌ منهم أنَّ عمره لم يتجاوز الحادية عشر بل وصفَه الحسين (ع) بحسب رواية الخوارزمي بالشاب، وكذلك وصفَه الخوارزميُّ بالشاب، ووصفَ ابنُ شهراشوب صاحب الأبيات بالفتى(5)، نعم ادَّعى بعضُ مَن قاربَ عصرنا أنَّ عمره لم يتجاوز الحادية عشر ولكنَّ دعواه فاقدة للاعتبار كما هو واضح.

القرينة الثالثة: هي ما أورَدَه عددٌ من المؤرِّخين من كيفيَّة حمْل الإمام الحسين (ع) للقاسم بعد مقتله يقول الشيخ المفيد في الإرشاد: "ثم حمله على صدره، فكأنِّي أنظرُ إلى رجلي الغلام تخطَّان الأرض، فجاء به حتى ألقاهُ مع ابنه عليِّ بن الحسين"(6).

وفي تاريخ الطبري بسنده عن حميد بن مسلم قال: "ثم احتمله فكأنِّي أنظر إلى رجلي الغلام يخطَّان في الأرض، وقد وضع حسينٌ صدرَه على صدرِه قال: فقلتُ في نفسي: ما يصنعُ به فجاء به حتى ألقاهُ مع ابنه عليِّ بن الحسين .."(7).

وروى أبو الفرج في مقاتل الطالبيين بسندٍ ينتهي إلى حميد بن مسلم قريبًا من هذا النصِّ قال: "ثم احتمله على صدرِه وكأنِّي أنظر إلى رجلي الغلام تخطَّان في الأرض حتى ألقاهُ مع ابنِه عليِّ بن الحسين .."(8).

فهذه الكيفيَّة المذكورة لحمل الإمام الحسين (ع) للقاسم تكشفُ عن أنَّ القاسم إنْ لم يكن أطول من الإمام الحسين (ع) فهو يُماثله في الطول، فإنَّ مفاد النصِّ المذكور هو أنَّ الأمام (ع) وضعَ حين الحمل صدرَ القاسم على صدره، ومقتضى الحمل بهذه الكيفيَّة هو أنْ يتمايل ظهرُ الحامل إلى الخلف ورغم ذلك أفاد النصُّ المذكور أنَّ رجلي القاسم كانتا تخطَّان الأرض، ومعنى ذلك أنَّ القاسم كان أطول من الإمام الحسين (ع) أو في طوله، وما يذكرُه بعضُ الخطباء من أنَّ الحسين (ع) كان حين حمل القاسم منحنيًا لم نجد له ذكرًا في شيءٍ من المصادر.

فإذا كان القاسم في طول قامة الحسين (ع) أو أطول منه فإنَّ من المُستبعَد أنْ يكون صبيًّا لم يبلغ الحلم، فإنَّ قامة مَن كان في عمر الثالثة عشر لا تبلغُ عادةً قامة الرجل خصوصًا إذا كان هذا الرجل أقربَ إلى الطول منه إلى القصر كما هو شأنُ الإمام الحسين (ع) الذي كانت شمائلُه وكان جسده كجسد رسول الله (ص) بحسب ما أفادته بعض النصوص(9).

فهذه القرينة وإنْ لم تكن في قوَّة القرينة الأولى ولكنَّها تصلحُ للتأييد، وتتأيَّد أكثر بما أورده الشيخُ الصدوق بسندٍ ينتهي إلى الإمام الصادق (ع) أنَّ القاسم برَز إلى المعركة فارسًا ولم يكن راجلًا(10)، ويبعدُ أنْ يتهيَّأ لصبيٍّ لم يبلغ الحلم القتال فارسًا.

القرينة الرابعة: ذكر صاحبُ لباب الأنساب -بحسب ما حُكي عنه- أنَّ عمر القاسم حين استشهاده ست عشرة سنة، وهذا القول وإنْ لم يكن قابلًا وحده للإثبات التأريخي ولكنَّه يصلحُ لتوهين دعوى الخوارزمي لمعارضته لها، على أنَّه أرجح من دعوى الخوارزمي نظرًا لعدم ما ينفيه من القرائن السابقة، ثم إنَّه لا بأس من تأييد دعوى صاحب كتاب لباب الأنساب بما أورده السيد هاشم التوبلاني في مدينة المعاجز قال: "روى أبو حمزة الثمالي، قال: سمعتُ عليَّ بن الحسين زين العابدين يقول: لمَّا كان اليوم الذي استُشهد فيه أبي (عليه السلام)، جمعَ أهله وأصحابه في ليلة ذلك اليوم" إلى أنْ قال: "فقال له القاسم بن الحسن: وأنا فيمَن يُقتل؟ فاشفَقَ عليه. فقال له: يا بُني كيف الموتُ عندك؟ قال: يا عمُّ أحلى من العسل فقال: إي واللهِ فداكَ عمُّك إنَّك لأحدُ مَن يُقتل من الرجال معي، بعد أنْ تبلو ببلاءٍ عظيم .."(11).

فهذه الرواية -لو صحَّت- فإنَّها صريحةٌ في أنَّ القاسم كان من الرجال حيث إنَّ الإمام -بحسب الرواية- قد عدَّه ضِمن الرجال الذين يُقتلون معه بل ويكون منه بلاءٌ عظيم في المعركة، قال (ع): "إنَّك لأَحدُ مَن يُقتل مِن الرجال معي بعد أنْ تبلوَ ببلاءٍ عظيم" وقد ذكر بعضُ المؤرِّخين ما يُؤكِّد أنَّه قد أبلى بلاءً حسنًا في المعركة فقد روى الصدوق بسندٍ عن الصادق أنَّه قَتل ثلاثة(12) وذكر غيره أنَّه قتل أكثر رغم عدم التكافؤ بين العسكرين ورغم الحصار والحيلولة دون الماء والذي امتدَّ لثلاثة أيام فلتكن هذه قرينة أخرى تُضاف إلى ما تقدَّم.

وأمَّا ما قد يُقال إنَّ القاسم وُصف في بعض النصوص بالغلام، والغلام بحسب ما أفاده اللُّغويون موضوع للصبي، فجوابه أنَّ كتب اللغة لا تتصدَّى لبيان المعنى الموضوع له اللفظ وإنَّما تتصدى لبيان موارد الاستعمال، على أنَّ ما أفاده اللُّغويون هو أنَّ لفظ الغلام يستعمل في الأعم من الصبيِّ ومن الشاب فلذلك أفادوا أنَّه يستعمل في الشاب الذي طرَّ شاربُه أي نبت له شاربٌ وبان، قال ابن سيدة كما في لسان العرب: "الغُلامُ الطَّارُّ الشارب، وقيل: هو من حين يُولد إلى أَن يشيب"(13). وفي القاموس للفيروزآبادي: "والغلام: الطارُّ الشارب والكهل ضد أو من حين يُولد إلى أنْ يشب"(14).

ويؤكِّد ذلك ملاحظة الاستعمالات العربيَّة لكلمة الغلام:

منها: ما أورده أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين قال: قال -الحسين حين برز عليٌّ الأكبر-: "اللهمَّ كنْ أنت الشهيدُ عليهم، فبرز إليهم غلامٌ أشبه الخلق برسول الله صلَّى الله عليه وآله، فجعل يشدُّ عليهم ثم يرجع إلى أبيه .."(15)، ثم قال أبو الفرج: فأخذ يشدُّ على الناس وهو يقول: أنا عليُّ بن الحسين بن علي، إلى أن قال: ضربَ غلامٍ هاشميٍّ علوي(16).

فوصَفَه الحسين(ع) -بحسب هذا النص- بالغلام، ووصَفَ نفسه بالغلام رغم أنَّ عمره على أقلِّ التقادير ثمانية عشر سنة.

ومنها: قول الشهيد جعفر بن عقيل كما في المناقب لابن شهراشوب:

أنا الغلامُ الأبطحي الطالبي ** من معشر في هاشم من غالب(17)

وكان حينها رجلًا متزوجًا.

ومنها: ما أورده في المناقب لابن شهراشوب قال: وفي كتاب الأحمر قال الأوزاعي: لمَّا أُتيَ بعليِّ بن الحسين ورأس أبيه إلى يزيد بالشام قال لخطيبٍ بليغ: خذ بيد هذا الغلام فائت به إلى المنبر وأخبر .. فلمَّا نزل قام عليُّ بن الحسين فحمد الله بمحامد شريفة .."(18).

ففي هذا النصِّ استعمل لفظ الغلام في عليِّ بن الحسين السجاد (ع) رغم أنَّه كان حينها قد تجاوز العشرين وكان له ولد، والنصوص في ذلك كثيرة، على أنَّه لو كان لفظ الغلام موضوع للصبي فإنَّ استعماله في القاسم سيكون مجازًا لقيام القرائن التي ذكرناها على أنَّه كان شابًّا.

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّه لم يثبتْ أنَّ القاسم بن الحسن (ع) كان صبيًّا لم يبلغ الحلم، فإنَّ هذه الدعوى مضافًا إلى أنَّها فاقدةٌ في نفسها للاعتبار -لتفرُّد الخوارزمي بنقلها- فإنَّ القرائن قاضية بانتفاء صحَّتها بل هي بمجموعها مقتضية للاطمئنان بأنَّ القاسم بن الحسن (ع) كان في مصافِّ الرجال ولكنَّه في مقتبل العمر. ويقربُ في نفسي أنَّ القاسم (ع) إن لم يكنْ في عُمْرِ الأكبر (ع) فهو لا يَصغره كثيرًا.

أعلمُ أنَّ قتلَ الطفلِ عدوانًا أوجعُ للقلب ولكنَّ الحسين ومقامه السامي (ع) أولى بالرعاية، فهو (ع) لا يأذنُ لصبيٍّ غير مكلَّفٍ بالقتال، على أنَّ قتل شابٍّ في ربيع العمر سعَى للذودِ عن دين الله تعالى موجِعٌ لَعمْري للقلب وهو في ذاتِ الوقت أدعى للفخرِ والاعتزاز.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور

12 / محرم / 1440هـ

22 / سبتمبر / 2018م


1- مقتل الحسين -الخوارزمي- ج2 / ص27.

2- مقتل الحسين -الخوارزمي- ج2 / ص27.

3- المزار -محمد بن جعفر المشهدي- ص490.

4- الأمالي -الصدوق- ص226، روضة الواعظين ص188.

5- مقتل الحسين -الخوارزمي- ج2 / ص21، مناقب آل أبي طالب ج3 / ص353.

6- الإرشاد ج2 / ص108.

7- تاريخ الطبري ج4 / ص342، تجارب الأمم -ابن مسكويه- ج2 / ص79، البداية والنهاية ج8 / ص202.

8- مقاتل الطالبيين -أبو الفرج الأصفهاني- ص58، مثير الأحزان ص52، إعلام الورى ج1 / ص466.

9- المعجم الكبير -الطبراني- ج3 / ص115، سنن الترمذي ج6 / ص660، دلائل النبوة -البيهقي- ج1 / ص207.

10- الأمالي -الصدوق- ص226، روضة الواعظين ص188.

11- مدينة المعاجز -السيد هاشم التوبلاني- ج4 / ص215. لباب الأنساب -ابن فندمة (ت: 565هـ)- ج1 / ص342.

12- الأمالي -الصدوق- ص226، روضة الواعظين ص188.

13- لسان العرب -ابن منظور- ج12 / ص440.

14- القاموس المحيط -الفيروز آبادي- ج4 / ص157.

15- مقاتل الطالبيين -أبو الفرج الأصفهاني- ص77.

16- مقاتل الطالبيين -أبو الفرج الأصفهاني- ص56، الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص106.

17- المناقب -ابن شهراشوب- ج3 / ص254.

18- المناقب -ابن شهراشوب- ج 3 / ص205.