مشاركة الإمام زين العابدين (ع) في القتال يوم كربلاء؟

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

هل شارك الإمامُ زين العابدين (ع) في معركة كربلاء مع الإمام الحسين (ع) كما يذكر البعض؟

الجواب:

لم نقف على نصٍّ في التأريخ أو مأثورٍ عن أهل البيت (ع) صرَّح بذلك إلا ما نُسب إلى الفضل بن الزبير الرسان الكوفي أنَّه قال: "وكان عليُّ بن الحسين (ع) عليلًا وارتثَّ يومئذٍ، وقد حضر بعض القتال فدفع اللهُ عنه وأُخذ مع النساء"(1).

منافاة النصِّ المذكور لما عليه المؤرِّخون:

وهذا النصُّ رغم ظهوره في أنَّ الإمام زين العابدين (ع) كان قد شارك في القتال يوم كربلاء إلا أنَّه غير قابلٍ للإثبات نظراً لمنافاته لما أفاده الكثيرُ من المؤرِّخين من الفريقين.

فممَّن صرَّح بعدم مشاركته في القتال يوم كربلاء ابنُ شهرآشوب في كتابه مناقب آل أبي طالب قال: "ولم يُقتل زين العابدين (ع) لأنَّ أباه لم يأذن له في الحرب وكان مريضًا" وكذلك القاضي النعمان في شرح الأخبار قال: "وكان عليُّ بن الحسين (ع) .. مع أبيه الحسين (ع) يوم الطف، وهو وصيُّه .. وكان عليُّ بن الحسين (ع) يومئذٍ عليلاً دنِفاً ثقيلَ العلَّة، شديدَها، فلم يستطع القتال، وكان مع النساء يُمرِّضنه"(2).

وصرَّح بما يقتضي ذلك الحافظ الخوارزمي في كتابه مقتل الحسين (ع) قال: ".. فخرج عليُّ بن الحسين (ع) وهو زين العابدين وكان مريضًا .. لا يقدر على حمل سيفه، وأم كلثوم تنادي خلفه: يا بُني ارجع، فقال: يا عمَّتاه ذريني أُقاتل بين يدي ابن رسول الله (ص)، فقال الحسين (ع): يا أمَّ كلثوم خذيه وردِّيه لا تبق الأرض خالية من نسلِ محمد (ص)"(3).

ويُؤيِّده ما في البحار للعلامة المجلسي قال: "فخرج عليُّ بن الحسين زين العابدين (ع) وكان مريضًا لا يقدر أنْ يقلَّ سيفه وأمُّ كلثوم تُنادي خلفه .. فقال الحسين (ع): خذيه لئلا تبقى الأرض خالية من نسل آل محمد (ص) .."(4).

وأفاد ابنُ عبد البر في التمهيد قال: قال أبو جعفر الطبري: "وإنَّما لم يقاتل عليُّ بن الحسين هذا يومئذٍ مع أبيه لأنَّه كان مريضاً على فراش لا أنَّه كان صغيرًا، قال أبو عمر: روى أهل العلم بالأخبار والسِيَر أنَّه كان مريضًا مضجعًا على فراش .. فلما قُتل الحسين (ع) قال شمر بن ذي الجوشن: اقتلوا هذا، فقال له رجلٌ من أصحابه: سبحان الله أنقتلُ حدِثًا مريضًا لم يُقاتل .."(5).

وذكر قريبًا من هذا النصِّ محمد بن سعد في الطبقات الكبرى(6)، والطبري في المنتخب من ذيل المذيل(7)، وابن عساكر في ترجمة الإمام الحسين (ع)(8)، وابن الجوزي في المنتظم(9)، والخوارزمي في مقتل الحسين (ع)(10) وغيرهم.

وأفاد الشيخ المفيد في الإرشاد والشيخ الطبرسي في إعلام الورى: "وقال حميد بن مسلم: .. ثم انتهينا إلى عليِّ بن الحسين (ع) وهو منبسط على فراش وهو شديد المرض ومع شمر جماعة من الرجالة فقالوا له: ألا نقتل هذا العليل؟، فقلتُ: سبحان الله أيُقتل الصبيان؟! إنَّما هو صبي وأنَّه لما به، فلم أزل حتى رددتُهم عنه، وجاء عمر بن سعد فقال لأصحابه: لا يدخل أحدكم بيوت هؤلاء النسوة ولا تعرضوا لهذا الغلام المريض .. ثم نادى في الناس بالرحيل إلى الكوفة ومعه بنات الحسين (ع) وأخواته ومَن كان معه من النساء والصبيان وعليُّ بن الحسين (ع) فيهم وهو مريض بالذرب وقد أشفى .."(11).

فهذا النصُّ وإنْ لم يكن صريحًا في عدم مشاركة الإمام زين العابدين (ع) في القتال إلا أنَّه ظاهرٌ جدًّا في ذلك لأكثر من قرينة:

القرينة الأولى: ظهور حال الإمام (ع) عند الجيش الأموي أنَّه كان مريضًا، فقد وصفه المعايِن للحدث أنَّه كان شديد المرض وأنَّه منبسط على فراش، ووصفه مَن أراد قتله بالعليل ووصفَه عمر بن سعد بالمريض، واحتجَّ المُمانِع عن قتله بقوله: "انَّه لما به" وكلُّ ذلك يُعبِّر عن أنَّ مرض الإمام (ع) كان ظاهرًا مشهودًا بالوجدان، ويظهر من هذا النص أنَّهم بمعاينتهم له أدركوا أنَّ مرضه (ع) لم ينشأ عن جراحاتٍ أصابت جسده وإلا لاحتجُّوا على الممانع من قتله أنَّه محارِب لأنَّه جريح، فالواضح من النصِّ أنَّ مرضه لم ينشأ عن أنَّه كان جريحًا، وذلك ما يُنافي النص المنسوب للفضيل بن الزبير حيث قال: "إنَّه ارتثَّ" أي أُثخن بالجراح، فمِن المُستبعد جدًّا أن يكون مثخناً بالجراح ثم يُوصف من قِبل الجيش المريد لقتله بالعليل والمريض ولا يحتجُّون على الممانع بجراحاته الظاهرة بحسب العادة على جسده، ويدعم ما ذكره الشيخ المفيد والشيخ الطبرسي النصُّ الذي نقلناه عن ابن عبد البر وابن الجوزي وابن عساكر وابن سعد والطبري.

القرينة الثانية: أنَّ الشيخ المفيد والطبرسي ذكرا أنَّ زين العابدين (ع): "مريض بالذرب وقد أشفى" ومعنى أنَّه أشفى هو أنَّ مرضه بلغ من الشدَّة بحيثُ كان قد أشرف على الهلكة، فمفاد قولهما "أشفى" هو الإشراف على الموت، والمشرِف على الموت لا يقوى على القتال كما هو ظاهر.

والمستشعر من كلاهما بل المُستظهر منه أنَّ الإمام (ع) كان مبتلى بالمرض منذ حينٍ من الوقت، وأنَّه ليس وليد ساعته وإلا لكان الأنسب الإشارة إلى أنَّه أُصيب بالذرب وأشرف على الموت حين أو قبيل مقتل الحسين (ع)، والذي يُؤكد هذا الاستظهار نصٌّ آخر ذكره الشيخ المفيد في الإرشاد وكذلك الشيخ الطبرسي في إعلام الورى: "فجمع الحسين (ع) أصحابه عند قرب المساء، قال عليُّ بن الحسين (ع): "فدنوتُ منه لأسمع ما يقول لهم وأنا إذ ذاك مريض"(12).

وفي موردٍ آخر أفادا أنَّ عليَّ بن الحسين (ع) قال: "إنِّي لجالس في تلك العشية التي قُتل أبي في صبيحتها وعندي عمَّتي زينب تُمرِّضني إذ اعتزل أبي في خباءٍ له .."(13).

فالنصَّان صريحان في أنَّ مرض الإمام زين العابدين (ع) كان قد أصابه قبل يوم العاشر من المحرم وأنَّه لم يطرأ عليه المرض الذي وُصف بالشدَّة قُبيل مقتل الإمام الحسين (ع) حتى يكون من المحتمل مشاركته قبل ذلك في القتال.

ويتأكَّد ما ذكرناه أيضًا بما رواه الشيخ الكليني في الكافي بسنده عن أبي الجارود عن أبي جعفر الباقر (ع) قال: "ثم إنَّ حسينًاً حضره الذي حضره فدعا ابنته الكبرى فاطمة بنت الحسين (ع) فدفع إليها كتابًا ملفوفًا ووصيةً ظاهرة وكان عليُّ بن الحسين (ع) مبطونًا لا يرون إلا أنَّه لما به، فدفعت فاطمة .."(14).

فهذه الرواية ظاهرة جدًّا في أنَّ الإمام زين العابدين (ع) كان مبطونًا في اليوم العاشر وأنَّ مرضه حينذاك كان شديدًا كما هو الظاهر من قوله (ع): "لا يرون إلا أنَّه لما به" فإنَّ هذا التعبير يُستعمل لمن كان مشغولًا بنفسه عمَّن حوله، فمثل مَن كان هذه حاله لا يقوى على قتال، ثم أنَّ الرواية أفادت أنَّ منشأ ما كان به من إعياء هو داء البطَن وهو ما ينافي دعوى أنَّه ارتثَّ أي أُثخن بالجراح، نعم لو كان المراد من الارتثاث هو الضعف الشديد الناشيء من غير الجراح فإنَّ نصَّ ابن الزبير لا يكون منافيًا لمثل رواية الكليني من هذه الجهة.

إلا أنَّ نصَّ ابن الزبير لن يكون حينئذٍ ظاهرًا في مشاركة الإمام (ع) في القتال، وسيتمحَّض ظهوره في أنَّ الإمام (ع) قد حضر لوقتٍ ما لساحة القتال ثم ارتثَّ وعاوده الضعف فعاد إلى فراشه.

والحضور لساحة القتال لا يعني المشاركة، إذ من المحتمل أنّه حضر لساحة المعركة مع أبيه حينما كان يعظ القوم، ومن البيِّن أنَّ الحرب لم تبدأ بعدُ حينذاك.

قرينة أخرى على استبعاد المشاركة:

والمتحصَّل أنَّ مشاركة الإمام زين العابدين (ع) في القتال يوم كربلاء في غاية البُعد، فحتى لو فرضنا جدلًا أنَّ المؤرِّخين لم ينصُّوا على عدم مشاركته فإغفالهم مجتمعين الإشارة إلى مشاركته يقتضي الاطمئنان بعدم مشاركته بعد ملاحظة موقع الإمام ومقامه، وملاحظة تصدِّيهم جميعاً للتنويه بمرضه وتصدِّيهم لبيان ما كان قد وقع عليه فلم يكن مغفولًا عنه حتى يصح لنا احتمال إغفالهم لمشاركته (ع) رغم أهميتها على بعض ما كانوا قد وصفوه من أحواله وأقواله، ويزداد احتمال الإغفال بُعداً عند الالتفات إلى أنَّهم تصدوا لذكر مَن شارك في القتال فلم يُقتل فذكروا أسماء من هم دونه في مقامه وموقعه من الحسين (ع) كالحسن بن الحسن السبط (ع) وعقبة بن سمعان مولى الرباب وآخرين، هذا مضافاً إلى تصدِّيهم إلى ذكر من قُتل من أصحاب الإمام الحسين(ع) ومن الذي قتلهم خصوصاً الهاشميين منهم وتصديهم لبيان تفاصيل كثيرة هي في الأهمية دون مشاركة الإمام زين العابدين (ع).

ويتأكَّد الارتياب في دعوى المشاركة لو استُظهر من نصِّ الفضيل الزبير أن الإمام (ع) قد أثُخن بالجراح كما هو مقتضى قوله: (قد ارتثَّ) إذ لو كان ذلك قد وقع لظهرت عليه آثار الجراح وحينئذٍ لن يكون أمر مشاركته خافياً، ولو خفي ذلك أثناء المعركة فلن يخفى حين الأسر والذي امتدَّ زمنًا كان حينه الإمام (ع) تستعرضه عيون الناس في كثير من الحواضر الإسلامية، فلم يتصدَّ أحد لوصف حاله إلا وأفاد أنه كان مريضاً أو أنَّ العلة قد انهكته، فلو كان عليه أثرُ جراح لم يكن ثمة من مبرِّرٍ لإغفال ذكره ولكان هو الأولى بالذكر من المرض لأنَّه سوف يكون أظهر خصوصًا مع دعوى الارتثاث.

على أنَّ الإشارة إلى مشاركته أو جراحاته لا تنافيه عقيدة المؤرِّخ العامي، فدواعي الإغفال والإخفاء منتفية عند المؤرِّخ العامي، ودواعي التنويه والإشادة بالمشاركة متوفِّرة عند المؤرِّخ الإمامي، فإغفال كلٍّ منهما لذكر المشاركة قرينةٌ بيِّنة على عدم وقوعها.

ولو قبلنا باحتمال إهمال المؤرِّخين من أبناء العامَّة لذكر هذه المنقبة فإنَّ من غير المحتمل إهمال المؤرِّخين الإماميَّة لذلك لو كانوا قد وقفوا على وقوعها.

هذا كلُّه مبتنٍ على عدم نصِّ المؤرخين على نفي اشتراك الإمام زين العابدين (ع) في القتال بين يدي الحسين (ع) وأمَّا بعد نصِّهم على نفي المشاركة كما اتَّضح ممَّا تقدم فإنَّ ما ذكرناه يكون معزِّزًا لما قد نصُّوا عليه.

والمتحصَّل أنَّ الإمام زين العابدين (ع) وإنْ كان هو أجدر مَن حضر كربلاء بمقام الجهاد بين يدي الحسين (ع) إلا أنَّ عناية الله عزَّ وجل اقتضت ادِّخاره لما هو أبقى للدين وأمضى أثرًا في تخليد نهضة الحسين الشهيد (ع).

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور

15/ يناير / 2010م


1- تسمية من قتل مع الإمام الحسين (ع) -مجلة تراثنا- ج2 / ص150. وقد أورد عين هذا النص يحيى بن حسين الحسني الشجري الجرجاني في كتابه الأمالي الخميسية ج1/ ص225، وكذلك أورده بنصه حميد بن أحمد المحلي الزيدي في الحدائق الوردية في مناقب الأئمة الزيديَّة ج1 / ص208.

2- مناقب آل أبي طالب -ابن شهرآشوب- ج3 / ص260، شرح الأخبار- القاضي النعمان المغربي- ج3 / ص250.

3- مقتل الحسين (ع) -الخوارزمي- ج2 / ص32.

4- بحار الأنوار -المجلسي- ج 45 / ص46.

5- التمهيد -ابن عبد البر- ج9 / ص156.

6- الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج5 / ص121.

7- المنتخب من ذيل المذيل -الطبري- ص119.

8- ترجمة الإمام الحسين (ع) -ابن عساكر- ص340.

9- المنتظم -ابن الجوزي- ج6 / ص326.

10- مقتل الحسين (ع) -الخوارزمي- ج2 / ص37.

11- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص114، إعلام الورى -الطبرسي- ج1 / ص270.

12- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص91، إعلام الورى -الطبرسي- ج1 / ص455.

13- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص93، إعلام الورى -الطبرسي- ج1 / ص456، تاريخ اليعقوبي ج2 / ص243، البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص191.

14- الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص291، بصائر الدرجات -محمد حسن الصفار- ص168، الإمامة والتبصرة -ابن بابويه القمي- ص64.